كيف ينتصب كرسي؟
إبراهيم فرحان خليل
في قصته الظريفة ” كيف ينقلب كرسي –Bir kultuk nasil devirlir ” يتطوع الكاتب التركي الساخر “عزيز نيسين” بإرشاد جموع المحكومين المضطهدين في العالم إلى طريقة سحرية وطريفة يقلبون بها كراسي حكامهم المستبدين على أعقابها فينصح الشعب بالتصفيق المتواصل للحاكم بمناسبة وبغير مناسبة حتى لا يعود الحاكم يستغني عن سماع اصطفاق الأكف وحتى يتنامى، في مقابل ذلك، السخط الشعبي شيئاً فشيئاً وتقرف الأمة من هذا المغرور المصفق له فتطيح به.
مكمن الطرافة في وصفة نيسين تلك أنها تحيل إلى الطريقة ذاتها التي يتخيل بها هؤلاء الحكام أنها تخلدهم في القلوب وتؤبدهم على الكراسي فمعظم المستبدين الذين نعرفهم أو نسمع بهم يصدقون – أو إنهم يحبون أن يصدقوا – أن هذه الجموع التي أرغمتها المخابرات على الحضور والهتاف للقائد تهتف له بالفعل وأن جميع أولئك الذين يعلقون صورته في بيوتهم وسياراتهم هم بالفعل يحبون أن يكحلوا أعينهم بمحياه الوسيم ليل نهار.
لا يجب بالطبع أن نتسرع في تصديق مزاعم التركي الساخر ولا أن نحاول تطبيق وصفته السحرية على أرض الواقع لأن الواقع نفسه يثبت أن التصفيق والتهليل والتفدية بالروح والدم لا تزيد الحاكم إلا تنفجاً وعسفاً واستبداداً ولا يزيد الشعوب إلا هواناً وخذلاناً حتى يخيل للمستبد الأحمق أنه بالفعل قرة عين الصغير والكبير ويخيل لكل مواطن مسكين وساخط أنه الوحيد الذي يلعن الحاكم في سره. وفي العالمين العربي والإسلامي بالذات من الأمثلة ما لو اطلع عليه نيسين – رحمه الله – لراجع أفكاره من جديد.
كيف ينقلب كرسي والشعوب قد تحولت بفضل الأنظمة الطاغوتية المزمنة إلى قطعان من الغنم لا يرجى منها سوى الطاعة العمياء والأذن الطرشاء والتوجس من الحيطان؟! ومن ذا الذي قد يفكر في قلب الكرسي بله أن يحلم بقلبه وهو مراقب محاصر في نومه ويقظته، في بيته وعمله، ليلاً ونهاراً وعلى امتداد الفصول الأربعة.
أريق على مر التاريخ، الكثير من الحبر وما يزال في دراسة هذه القضية والتنظير لها بغرض الوصول إلى جذورها الدفينة على أمل اقتلاعها وفي كل مرة كان الاستبداد يعود بزي جديد وخطاب مختلف في الظاهر والغالب أن بنية المجتمعات هي ما يقبل أو يرفض نظام الاستبداد وأن للاستبداد أحد حلين : الدخول عليه بقوة خارجية قاهرة ( العراق ) أو الانتفاض عليه بثورة شعبية داخلية تطيح به ( تونس ) هذا بالطبع إذا استثنينا الانقلابات العسكرية التي لا يؤمن منها أن تستبدل مستبداً بمستبد ( مصر عبد الناصر وخلفائه ).
لا ريب أن للمجتمع تأثير هائل على مجموع أفراده وهو التربة الأولى التي تساعد على إنتاش هذه البذرة الخبيثة واستمرارها وتطاولها حتى بلوغها هذا الحد من العملقة والتغول لذلك فإن أية مقاربة لدراسة الديكتاتورية خصوصاً والحالة السياسية في الشرق عموماً تقتضي الانطلاق من دراسة تفاصيل البنية المجتمعية بتكويناتها ومؤثراتها ( عدد السكان – الدين – الرقعة الجغرافية – الجغرافيا السياسية – الحالة الاقتصادية … ) أعني جميع تلك العناصر الأولية الحاملة والرافعة التي تحكمت وتتحكم في نشوء هذه الظاهرة.
واضعين نصب أعيينا النقاط التالية :
أولاً، للمجتمعات العربية والإسلامية مثل غيرها خصوصية – وهذا ما يؤكد عليه المستبدون أنفسهم – تجعل من الصعب إلباسها أي نظام سياسي أو منهج فكري من خارجها سواء أكان الديمقراطية أم الاشتراكية أم الليبرالية لأن أي منهج مستورد – بتشبيه علمي بحت – لن يكون إلا كالعضو الغريب في الجسم لا يلبث أن يلفظه.
ثانياً، المجتمعات العربية ليست خارج التاريخ ولا فوقه وهي تتأثر – شاء أزلام الطغاة أم أبوا – بجميع ما يجري على الأرض وفي جميع دول العالم من أصغرها إلى أكبرها وقد ساعدت ثورة الاتصالات في نهاية القرن العشرين على انفتاح المجموعات على بعضها البعض كاسرة حواجز الجغرافيا الصلدة.
ثالثاً، الديكتاتور هو ابن الشعب، لم يخرج له من باطن الأرض ولا نزل عليه بطبق طائر وبتعبير أدق هو صناعة هذا الشعب ونتاج انحداره الفكري وتراجعه الحضاري وخموله المرحلي.
رابعاً، الديكتاتورية حالة ذهنية أكثر منها مادية فحالة الخوف التي يعيش داخلها معظم أفراد الشعب هي السبب الوحيد الذي يبقي الديكتاتور متربعاً على كرسيه والخوف أشبه بالعدسة المكبرة ينظر من خلالها الشعب فيرى ديكتاتوره بأضعاف أضعاف حجمه الحقيقي .
ترتبط الديكتاتورية في المجتمعات العربية خاصةً ارتباطاً وثيقاً بمدى وهن أو متانة العلاقات والروابط ما قبل المدنية ( العائلية والعشائرية والدينية ) داخل المجتمع ويكتسب وجوده ” شرعية مجتمعية ” داخل أي مجتمع انطلاقاً من الشرعية التاريخية المبدئية لوجود ” رب العائلة ” و ” شيخ الحارة ” و” زعيم القبيلة ” وصولاً إلى ” قائد الدولة ” و ” زعيم الأمة ” أو ” الأخ الكبير ” كما يصفه جورج أورويل في ( 1984 ) فهو بذلك الرأس الطبيعي للهرم والإطار الأوسع الذي يمكن أن يتحمله أي كيان قطري يفتقر إلى التقاليد العريقة لمؤسسة الدولة.
لن ترى ديكتاتوراً إلا وهو يشيد بالروابط العائلية وصلة الرحم وبر الوالدين ويمجد تماسك المجتمع وتلاحم أفراده في صيغ عاطفية تنهل من التراثين الديني والقبلي للمجتمع وبشكل لا يمكن معه الرد عليه دون مواجهة الاتهام بالغربنة والعمالة والانحلال.
يرى الديكتاتور في التجمعات العائلية والقبلية سنداً جيداً له فبواسطة “برلمان أهلي غير رسمي” كهذا يمكن له أن يسيطر على مائة ألف شخص عن طريق عشرة من الأعيان فقط هم رؤوس هذه التجمعات القبلية وبالطبع فإن إرضاء عشرة أشخاص ليس بالأمر الصعب سيما إذا كان الجيش والمخابرات عصابة الديكتاتور المخلصة وميزانية الدولة هي ذاتها ميزانيته العائلية.
وفي داخل هذه المتاهة تتحول اللغة إلى مجرد أصوات وتفقد جميع المسميات مدلولاتها الحقيقية وتتشوش الرؤى حتى تفقد النخبة المثقفة نفسها بوصلتها وتنزلق بفعل ضغط التكرار الإعلامي المتواصل إلى تبني مثل هذه القيم والمفاهيم فتدافع دون أن تدري عن أهم مرتكزات الاستبداد ومقومات وجوده بعد أن يميل بها خواء الذهن إلى تغليب فكر العامة ومداهنة الأغلبية ويغيب عن بديهتها أن الصيغة الفضلى للفرد داخل المجموع هي صيغة المواطنة التي يجب أن تعلو على أية صيغة أخرى وأن الفرد بهذه الصفة لا يعود بحاجة إلى أب يرعاه ولا أخ كبير يقرر عنه ولا قائد يسير شؤونه إنما هو بحاجة إلى موظفين – ومنهم رئيس الدولة – قد لا تربطه بهم صلة رحم، يسلمهم الوظائف في الدولة ويسخرهم لتنفيذ المهمات التي يعجز هو عنها، يحاسبهم إذا أخطأوا ولا يثني عليهم إذا أحسنوا لأنهم إنما يؤدون واجبهم الذي يتقاضون عنه راتباً.
الديكتاتور هو بالفعل ” رمز الأمة ” كما قد يصف نفسه أحياناً لأن معظم أفراد الشعب يرى في شخصه السامي آماله المحطمة وحين يشاهده قوياً متعالياً يرى فيه الشخص الذي كان يمكن أن يكونه هو شخصياً لولا ( قسوة الظروف وتصاريف الأقدار ) ونتيجة لهذا الارتباط الذهني اللا واعي لا يعود غريباً دفاع الكثير من العامة والمسحوقين عن الديكتاتور إبان عسفه وظلمه ومساعدتهم له على ظلم أقرانهم بل والتضامن معه حتى وهو في أيامه الأخيرة وقد رأينا على شاشات التلفزة آلاف العراقيين والعرب الذين عبروا عن غضبهم وامتعاضهم بل وعن ثورتهم وهياجهم إثر سقوط نظام صدام حسين في العراق سنة 2003 وظهر على الفضائيات عشرات ( المحللين السياسيين ) المدافعين عن نظام صدام رغم أن معظمهم كان يصارع الأدلة الدامغة والأفلام الوثائقية واعترافات أركان النظام بأن يلتف على الواقعة فيتباكى على ( الشعب العراقي الجريح ) محاولاً التنفيس عن غضبه عبر توجيه قذائفه الخطابية نحو ( الاحتلال الأمريكي ) لبلد عربي أو شنق رئيس عربي في يوم عيد الأضحى أو فساد الحكومات الناشئة بعد ذلك في ظل الاحتلال الأمريكي الغاشم.
الديكتاتور يحتقر الشعب احتقاراً لا حدود له ولا يرى فيه سوى قطيعٍ من الضأن الذين له الأمر عليهم وعليهم الطاعة له في أي مكان وزمان وبما أن تصرفات الإنسان هي مجموعة من ردود الأفعال فالديكتاتور يتمادى في غيه بمقدار ما يتمادى الشعب في خنوعه ومذلته وبما أنه ناطق باسم الجميع – بشريعة الدبابة والميكروفون- فله الحق في السيطرة على الجميع وتحقيرهم ولكن في الباطن وعلى خلوة، أما في الظاهر فهو ابن الشعب البار الذي يحترم كبيرهم ويرعى صغيرهم ويعطف على ضعيفهم ويداوي عليلهم ويطمئن خائفهم وسوى ذلك من الصفات والنعوت التي لا تكاد تنطبق إلا على الأمهات.
الديكتاتور خلفٌ لسلف وهو يعلم أنه قد انقلب على انقلابي سابق ولذلك تراه حريصاً كل الحرص ألا يقع في ذات الخطأ الذي وقع فيه سلفه المنقلب عليه فليس عليه وقد وصل إلى كرسي الحكم أن يترك منفذ هواء لأي ضابط طموح أو سياسي صاحب كاريزما قد يلتف حوله العوام وتنقاد له القلوب ولذلك ما أن يعلو نجم أحدهم حتى ينصب له الدكتاتور شركاً يودي به أو بسمعته.
الديكتاتور يعلم أنه باقٍ بفضل قوته وقدرته لا بفضل أصوات المنتخبين ولهذا يرتبط بقاؤه في الحكم وإقامته في البلاد ببقاء هذه القوة واستمرار هذه القدرة ولذلك تراه يستميت في التمسك بمنصبه وهو لو اضطر في سبيل ذلك إلى الاستعانة بأعداء الأمة أو ضرب الجيش بالشعب لما تأخر.
لا بد للديكتاتورية من أساس تنهض عليه ومورد تتغذى منه وهذا المورد قد يكون قومياً أو دينياً أو قبلياً أو نتيجة ظروف خاصة وغير طبيعية مرت بها البلاد كحالة حرب طويلة الأمد أو كارثة طبيعية عامة ولذلك ترى الدكتاتور أحرص ما يكون على استبقاء تلك الحال واستدامة تلك الظروف واستثمار عواقبها عبر اكتساب المال واصطناع الرجال.
فديكتاتورية ستالين وكاسترو مثلاً وجدت أساس بقائها في استمرار الصراع الشيوعي الرأسمالي الذي اتخذ شكله الرسمي عقب ثورة أكتوبر الحمراء في روسيا وساعدت آلة الإعلام السوفييتي والكوبي في حشو الرؤوس خلال عشرات السنين بفكرة أن الأمة تتعرض لخطر رهيب يهدد البشرية بأسرها قادم من وراء البحار وأن ” الزعيم ” هو الوحيد القادر والمؤهل داخل إطار الحزب وعلى رأسه لمواجهة هذا الصراع وإدارته بنجاح حتى ولو كان ثمن ذلك إبادة ربع الشعب وتجويع ربعه الآخر وتحويل الربعين الآخرين إلى جلاوزة وسجناء.
لماذا لم تظهر في الغرب أنظمة ديكتاتورية منذ الحرب الثانية ؟
ربما كانت نماذج فرانكو وهتلر وموسوليني وربما ستالين آخر ما شهدت أوربا من نمط حكم الحزب الواحد وعبادة الشخص الواحد لأن المزاج العالمي بعد الحرب، وقد عانى الأمرين من ويلاتها، قد أخذ يتجه نحو السلم والعيش المشترك وتنظيم الدولة المدنية الحديثة في شكلها النهائي الذي سيسمح لها أن تخطو عتبة القرن الحادي والعشرين بقوة فتدير اقتصادها الذي دمرته الحرب بكفاءة رأسمالية عالية وتدير شعوبها التي عانت القمع بمزاج ليبرالي صارم ونهائي ترعاه وتراقبه مؤسسة الدولة المقيدة بقانون ودستور.
ومن جهة أخرى فقد كان لدخول أوربا في أتون حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين دور هائل في تفكك النسيج الاجتماعي لبلدانها وانفتاحها داخلياً على بعضها البعض بالإضافة إلى تعزيز روح الفردية وإشاعة مبادئ الحرية المطلقة بين الأفراد بشرط عدم الإضرار وهكذا سرعان ما تخلصت ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا من مفاعيل الديكتاتورية وآثارها ودفنت في مقبرة التاريخ أحلامها الإمبراطورية في حين تأخر الإتحاد السوفياتي أكثر من أربعة عقود حتى استطاع أن يرفع عن كاهله التراث الثقيل لسبعين عاماً من العقيدة الشيوعية التي كانت قد وصلت إلى نقطة اللا عودة وكان يجب على النظام الذي أسسه “فلاديمير لينين” بسواعد البروليتاريا أن ينتج حفار قبره الذي شاءت الأقدار أن يحمل اسم ” ميخائيل غورباتشوف “.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فلم تعرف خلال تاريخها دكتاتوراً واحداً لأسباب كثيرة يخيل إلي أن أهمها هو أنها قامت في الأصل نتيجة تجمع هجرات الأقوام الأوربية من فرنسيين وبولنديين وإسبان فكانوا اشتاتاً وجدوا في العالم الجديد المأوى الذي يمنحهم الأمن والطعام ويسمح لهم بتعايش لا تمايز فيه ولا تفاخر فاصطلحوا بعد مطحنة الحرب الأهلية على تقاسم الأرض والثروات وتعادل الحقوق والواجبات في عهد مكتوب وبما أنهم كانوا في ذلك المكان ” شعباً بلا تاريخ ” على قدم المساواة فقد تواطأوا بكل بساطة على صناعة التاريخ.
إذا كانت ولادة الدكتاتور حادثة طبيعية ومنطقية في حياة أمة فإن القضاء على الديكتاتور بعد ذلك قد لا يعني القضاء على الديكتاتورية لأن ذلك يشبه ظن الواهم أنه إذا نزح القشدة عن إناء الحليب الموضوع فوق النار فلن تعود القشدة للتشكل ثانية.
إن اجتثاث الديكتاتورية كنمط إدارة وأسلوب حكم يتطلب أولاً البناء التدريجي لمجتمع غير متقبل لهذا الأسلوب وبالتالي غير منتج له أي ذلك النوع من المجتمعات المدنية الحرة المتحررة من الحالة العاطفية البدائية التي تعلي رابطة الدم فوق رابطة الحق وتستخدم أساليب البلاغة اللفظية مكان العبارات الدقيقة المحددة لترقى بالجريء إلى منزلة البطل وبالخطيب إلى مكانة المفكر وبالرئيس أو الحاكم إلى رتبة ” القائد الملهم”، تلك المجتمعات الصالحة التي يعلم مواطنوها الصالحون أنهم في مختلف مواقعهم يخدمون أنفسهم والوطن معاً ويعلم ضباطها حق العلم أنهم حتى ولو اندفعوا خلف غواية النحاس فوق أكتافهم فسيطروا على القصر الجمهوري ووزارة الدفاع ومحطات الإذاعة والتلفزة وأصدروا البيان رقم 1 لن يعني ذلك أنهم قد أصبحوا حكام البلاد.
أما الخطوة الأولى في بناء مجتمعات بهذا الوصف فقد تختلف فيها الآراء وتتعدد فيها المذاهب ولكن مجرد اختلافها من ناحية والتقبل المتبادل لهذا الاختلاف من ناحية أخرى هو في حد ذاته بداية الاتفاق وبشائر المصالحة مع الذات.
موقع الآوان