الأساس هو نهاية الخوف
نهلة الشهال
«لست خائفاً، لم أعد أخاف، ولن أخاف بعد اليوم». لعل ذلك هو القاسم المشترك بين الناس، كل الناس، صغيرهم وكبيرهم، المتعلم والمثقف والعامل والعاطل من العمل. ففي تونس كما في مصر، انطلقت الألسن ومعها الإرادات. وهي تلهم أماكن أخرى. وعلى كل حال، فتوثيق ما يجرى يعادل في أهميته، ولا شك، نتائج ما يجرى! وقد بادر البعض إلى المهمة، وسينتج عن ذلك في البلدين سجل يظهر مقدرات الناس وذكاءهم لدى تحررهم من الخوف، وإبداعات في غاية الثراء.
وحدها لافتات تظاهرات مصــر وما ظــهر كل يوم في ميدان التحرير خزين سوسيولوجي ثمين. «كلموه بالعبري يمكن يفهم». قال المزاج السائد حول مسألة العلاقة بإسرائيل.
وهذا موضوع لم يحتل صدارة التحرك. بل وصل أمر الرغبة بتحــييده الى حد أن أعلنت جماعة الإخوان المسلمين عن «احترامها لاتفاقيات كامب ديفيد طـــالما لم يسقطها البرلمان»: لطمأنة الغرب، وكمناورة سياسية، ومــا شئتم. لكن الحذر هنا لا يلغي معنى تلك اللافتة. هــذا عدا الروح الطريفة للمصريين التي عادت إلى الظهور، بعدما بدا أنها سُحقت أو ذوت، وقد فاضت حتى خُصص لها موقع على فايسبوك!
لم يسبق أنِ ازدهرت معاً مئات المقترحات، السياسية منها، وتلك المتعلقة بمبادرات في شتى المجالات، وأنْ كان النقاش حيوياً إلى هذا الحد، وأنْ شعر كل إنسان، كائناً من كان، بأهمية ما يقول ويفعل. تلك هي الحالة الثورية، وليس ما يدور من مفاوضات في الكواليس قد تصيب وقد تخطئ. يقول مراسلو الصحف العالمية إن ميدان التحرير أنظف بقعة في مصر اليوم، على رغم احتشاد مئات الألوف على أرضه ليلاً ونهاراً، وأن روحاً من الفرح والنقاء والاحترام المتبادل تسوده. رومانسية! يجيب المتشائمون الأبديون، لا تقدِّم ولا تؤخِّر، فليست هي ما سيحقق المنجزات. كم هم مخطئون! فما يجعل الاستبداد ممكناً هو تمــكنه من إرخاء الخوف في قلوب النـاس. ومــا يجعــله زائلاً لا مــحالة هو التـحرر مــن الخـوف.
بعد ذلك يبدأ الصراع! فتعيين ما يريد الناس، وكيفية تحقيقه، ليسا بديهيات. يكتشفون مقدار الخراب الذي لحق ببُناهم. بالمؤسسات الموضوعية، وبالعقليات والنفسيات على السواء. يكتشفون أن الدعوة إلى تأسيس نُظْمة قيمية عامة متوافق عليها لما هو مشروع ومقبول، ولما هو عيب ومدان، جزء من العمل السياسي الملح وليست ترفاً، وأنه لا يمكن المباشرة بشيء من دون تلك المرجعية.
يكتشفون أن من هم مستعدون لتبديل قمصانهم بحسب جريان الريح كثر، وأنهم وقحون اليوم قدر ما كانوا وقحين بالأمس، ويتوجسون من أثرهم ويبحثون عن معادلة متوازنة بين حذر وحذر، لتجنب الإقصاء. ثم يُطلّون على هول ما اقتُرف: تشكلت في مصر، بعد تونس، لجنة لتقصي الأموال المنهوبة والمهربة، وللسعي لاستعادتها. قد تكون مهمة اللجنة التونسية سهلة، أما تلك المصرية فيصدمها الجبل الذي أمامها. ولكن لا بد مِنْ… فقد تعادل المهربات قيمة العجز في الموازنة!
ثم تبدأ الفضائح الأخرى في الظهور. فيحال على القضاء وزير الداخلية السابق، الذي كان حتى أمس «يذبح بظفره». من ألَّف وأخرج تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية يا سيد؟ دعك من الفتنة، فقد قُتل هناك 35 إنساناً، عدا الجرحى والمعطوبين، فما العمل؟ تنهار مراكز الشرطة والأمن، وتُقتحم من الناس وتُحرق بعد وضع اليد، وسط فوضى عارمة، على بعض الملفات. فيكشف هذا النذر القليل عما يتجاوز أكثر التقديرات مغالاة حول التعذيب، حول كيفية تنظيم واستخدام «البلطجية»… يحــضر فيلم «حياة الآخرين» الرائع، الذي حكى عن ارتكابات جهاز الأمـــن في ألمانيا الاشتراكية، «ستازي» الشهير. وأتذكر كيف راح رفــاقي من العرب الذين حضروه يقولون: هذا كله لعب أطفال بالمقارنة بما لدينا. ولكن كانت تنقصهم الأدلة، لا سيما أن ما وثِّق من شهادات كان جزئياً للغاية، والأهم أنه كان يقع على آذان صــماء، ويبقى أسير بضعة من المهــتمين، بينــما مسرح العالم مفتوح اليوم على المشهد التونسي والمــصري، وعلى ارتعاد فـرائص سواهما.
ونحن هنا أيضاً في بداية التوثيق وفي بداية الصراع. وليس من المبالغة في شيء القول إن أركان النظام في البلدين يهمهما إغلاق المنحى الجاري بأي ثمن، ولو بوعود تقاد بعد ذاك بمراوغة ونقض، بل حتى بتنازلات حقيقية. فوقف النبش هو واحد من أهم دوافع فعل هؤلاء السادة، متفوقاً على اعتبارات مصالح أميركا وطمأنة إسرائيل، وحتى على غايات صون النظام للاستمرار في الاستفادة من نعيمه!
ولا يقل خطراً عن ذلك كله، ما يظهر من براعة المنظِّرين الجدد لما يجري. يقولون لك إن تفسير الهزات يقع عند «تخلف المؤسسات السياسية عن اللحاق بركب اقتصاد السوق الذي نشأ في البلدان العربية في العقود الثلاثة الماضية»! يا سلام؟! ثم يلقون باللائمة على الخصوبة، فتبدو الزيادة السكانية – يا لتخلفكم يا قوم! – أصل البلاء وليس سواها. بل يمعنون فيروحون يصدرون البيانات والرسوم ليؤكدوا أن معدلات النمو في هذه البلدان تفوق نظيراتها في البلدان المتقدمة. ويتكلمون عن «انفتاح اقتصادي لم يرافقه انفتاح سياسي».
وجدتُها! ليست المشكلة إذاً، في طبيعة الانفتاح الاقتصادي للعقود الثلاثة الماضية، على الأقل، ولا في الخيارات المعتمدة في الوجهة، فهذا تمام التمام، بل في بعض التقصير السياسي الذي يمكن علاجه بإجراءات يسيرة ومضبوطة، وإن أغضبتْ شريحة من المستفيدين: بعض الشفافية والإصلاح، ومؤسسات منتخبة، وطاقم جديد نظيف (إلى حد ما، وحتى إشعار آخر!). وهو ما تدعو إليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومعهما… صندوق النقد الدولي! يكاد هؤلاء القوم ينسون مفاعيل ونتائج ما يقولونه هم أنفسهم في السياق، عن حصة العوائد الريعية في هذا «الاقتصاد»، وعن اقتصار الصناعات المقامة في بلداننا على تلك التدويرية، بل والـ«أوف شور» المعدة لإعادة التصدير، وعن طغيان المداخيل غير الإنتاجية، وتلك الخدماتية، وعن الارتهانات المتعددة والبنيوية للأسواق العالمية. أي أن هذا الاقتصاد «الرائع» بحسب الأرقام، (وهل من شيء أكثر «علمية» من الأرقام؟!) مشكّل من قطاعات هشة، وغير مرتبطة بدورة إنتاج وطنية، ناهيك عن تدمير الزراعة لمصلحة المضاربة العقارية من جهة، ولمصلحة السمسرة في استيراد الغذاء بالكامل، ومن جهة أخرى، لعلها الأساس. وهؤلاء المنظرون الجدد هم في واقع الأمر حرامية كأسلافهم، وإنما أنيقون… فحسب!
الحياة