المجتمعات العربية والسيطرة الغربية
د. برهان غليون
فاجـأت الأحداث الكبرى التي جرت في تونس وامتدت إلى مصر والعديد من البلاد العربية الأخرى جميع المراقبين الغربيين والجزء الأكبر من المحللين العرب الذين وقفوا ولا يزالون يقفون مشدوهين وعاجزين عن فهم تلك الحركة الجماعية العفوية التي شهدتها ولا تزال تشهدها المدن العربية، والتي لا يبدو أنها ستتوقف قبل أن تغير وجه العالم العربي وتعيد صوغه في أطر السياسة ومنظومات القيم العصرية الجديدة. وسبب هذه المفاجأة وذاك الاندهاش ما سودته الأدبيات السياسية والاجتماعية العالمية، وتبعتها به العربية، من أفكار ونظريات أجمعت أو كادت تجمع على أن المجتمعات العربية حالة خاصة تختلف عن جميع المجتمعات الأخرى، وأن لها بالتالي قوانين تحول وتطور لا تشارك بها قوانين التحول والتطور المطبقة على المجتمعات الأخرى، وهذا ما سمي في ذلك الوقت الاستثناء العربي.
وقد استندت فكرة الاستثناء العربي، التي انتقدناها مع قلة من الباحثين العرب الآخرين، أكثر من مرة، على بعض المحاكمات السريعة والمبتسرة والفاسدة. أولها أن ثقافة المجتمعات العربية بعكس جميع المجتمعات الأخرى لا تزال ثقافة دينية. وثانيها أن الدين الإسلامي، الذي هو دين الأغلبية فيها دين شمولي وكلياني يفرض على المسلم نمطاً من السلوك الثابت والجامد، أي العتيق، في جميع شؤون الحياة اليومية والعمومية، وبالتالي لا يسمح له باستخدام العقل ولا يتيح له رؤية مدنية، ويحرم المسلمين من إمكانية أفصل الشؤون الزمنية المتعلقة بتنظيم الحياة المادية على الأرض، من اقتصاد وسياسة ومجتمع ومعرفة علمية، عن الشؤون الدينية. وثالثها، وهو محصلة لما سبق، غياب الفردية الحرة والعاقلة، التي لا يمكن من دونها قيام أي حياة عقلية أو ديمقراطية. وهذا ما يفسر في نظر هؤلاء أن العالم العربي، بعكس المناطق الأخرى من العالم، لم يتأثر بموجة الديمقراطية التي مست جميع القارات والشعوب، وكان آخرها الموجة الثالثة التي نجمت عن انهيار جدار برلين عام 1979 وتحرر شعوب أوروبا الشرقية وجميع البلدان التي كانت ترزح تحت نير السلطة السوفييتية.
والنتيجة التي خلص إليها أصحاب هذا التحليل، الذي تحول إلى بديهة تنطلق منها الصحافة العالمية لتعميم صورة تكاد تكون قرسطوية عن المجتمعات العربية، ويعتمد عليها المحللون السياسيون والمخططون الاستراتيجيون لبلورة مواقفهم وسياساتهم تجاه الدول العربية، أن للمجتمعات العربية خصوصية ماهوية تنعكس على جميع سلوكاتها الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لا بد من مراعاتها إذا أردنا أن نفهم المجتمعات العربية ونتعامل معها. فهي مجتمعات تقليدية تسيطر عليها الايديولوجيات والمشاعر والمطالب الدينية، التي تمنعها من التواصل مع مجتمعات العالم الأخرى ومن التفاعل مع الحضارة العصرية، وأنه ليس من الممكن ولا المعقول أن تطالب هذه المجتمعات بالتحول نحو الديمقراطية، بينما تفتقر شعوبها إلى أي معنى من معاني الحرية، ولا يهمها سوى تأمين شروط خلاصها الأخروية، وتطبيق الشرائع الدينية.
وعلى هذا الأساس عممت الأوساط العلمية والسياسية والدعائية الغربية، وأقنعت العالم كله أن يسير وراءها، نظريات تقوم جميعاً على تشويه صورة المجتمعات العربية وإبراز غرابة ثقافتها وتخلفها عن العصر والحط من عقائدها الدينية، مما سيبرز عبر تصريحات معادية للإسلام أو منددة به، شاركت في نشرها وتعميمها شخصيات كبيرة من رؤساء دول وقادة سياسيين وفلاسفة وعلماء اجتماع، بل وبابا الفاتيكان نفسه عندما تحدث في إحدى محاضراته الشهيرة عن التلازم بين الإسلام والعنف. وأصبحت نظرية رفض العرب والمسلمين للآخر الغلالة التي يخفي وراءها الكثير من هؤلاء ما ينبغي تسميته بالحرب الباردة على الإسلام وشعوبه.
وعلى هذا الأساس أيضاً رسمت الدول الغربية استراتيجية كاملة في التعامل مع المجتمعات الإسلامية، ركيزتيها بناء تحالف دولي شامل لعزل المجتمعات العربية واحتواء ديناميات تطورها، وهذا هو المضمون الحقيقي للحرب العالمية على الإرهاب الذي يشكل العالم العربي ميدانها الرئيسي بوصفه المصدر الأول للعنف وصانعه الرئيس، ثم تأكيد مبدأ الوصاية السياسية على الشعوب العربية ونزع حقوقها الوطنية في السيادة على نفسها وتقرير مصيرها من خلال إجبارها على القبول بنظم حكم قائمة على الإكراه، تؤمن ما تسميه الدول الغربية الاستقرار والسلام الإقليميين، ومن ورائهما المصالح الاستراتيجية والحيوية للغرب وفي مقدمها أمن إسرائيل وازدهارها.
ومن الواضح أن هذه النظريات، قد نجمت عن معاينات سريعة تؤخذ بالمظاهر ولا تنظر في العمق. وكنت أقول دائماً إن ما يبدو على الشعوب العربية من تمسك بالتقاليد الدينية والتاريخية اليوم، لا يعبر عن انغلاق العرب في نمط ثقافة دينية لا تتحول، ولا تتبدل عبر التاريخ وإنما هو انعكاس لأزمة هوية، وردة فعل على فراغ ايديولوجي تسببت به الانتكاسات الخطيرة التي عاشها العرب في العقود الأربعة الماضية، على الصعيد الوطني مع الهزيمة الساحقة أمام مشروع الاستيطان الإسرائيلي، ثم على الصعيد السياسي مع عودة النظم الاستبدادية القرسطوية، وما تبعها من استبعاد وقهر واحتقار لا يوصف للشعوب وحقوقها، وأخيراً على الصعيد الاجتماعي مع تنامي ظواهر الفقر والتهميش والتنكر لجميع قيم العدالة والمساواة والأخوة الإنسانية. ولا تنفصل هذه النكسات جميعاً عن مواقف التكتل الغربي وسياساتها الشرق أوسطية.
هذا يعني أن ما سمي بالمد الإسلامي أو بأسلمة المجتمعات العربية لا يعكس ماهية ثابتة دياناتية لهذه بالشعوب، وإنما هو رد فعل عفوي على هذه الأزمة التاريخية المتعددة الوجوه والأبعاد. وهو رد فعل مزدوج قائم من جهة على الانكفاء العام للجمهور الواسع على ثقافته الدينية، التي بدت في هذا الانهيار الشامل للأيديولوجيات والأفكار الحديثة، كما تمارسها الدول الكبرى والنخب المحلية والطبقات الكمبرادورية التي لا تهتم إلا بجمع الثروة، وكأنها الحبل الوحيد الواقي من الانجراف في الطوفان، ومن جهة ثانية على بروز حركات عنف وانتقام تعويضية، تهدء من روع الجمهور الخائف والقلق على مصيره، في مواجهة قوى داخلية وخارجية يعتقد أنها المسؤولة عما آلت إليه أوضاعه من حالات مأساوية.
وقد أصبح واضحاً اليوم أن هذه التحليلات، وما نجم عنها من سوء فهم وتقدير قد قادت إلى ارتكاب أخطاء كارثية، هي التي تفسر ما تعيشه المجتمعات العربية اليوم من انفجارات. من أهمها اعتبار إسرائيل الركيزة الأساسية للاستقرار في المنطقة، وتمكينها من متابعة احتلالها واستكمال مشروع استعمارها الاستيطاني للأرض الفلسطينية والعربية بمعزل عن أي رادع من داخل المنطقة أو خارجها، وحجز إرادة الشعوب العربية وتحييدها وفرض الحصار عليها من خلال دعم نظم أمنية مفروضة بالقوة وإغلاق كل مسارات الإصلاح السياسي، الذي نجم عنه فساد لا سابق له وتدهور مستمر لشروط حياة الأغلبية من السكان العرب، والمراهنة على قلب التوازنات الاستراتيجية الإقليمية بتحطيم دولة العراق المركزية وإقامة شبه دويلات طائفية وإثنية متناحرة ومتنابذة مكانها. والنتيجة حرمان الشرق العربي بأكمله من السلام والاستقرار الضروريين للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتعميم سياسات التمديد التي تثير اليوم ردود أفعال عنيفة من قبل جمهور شعبي فقد ثقته بنظمه وانسدت أمامه جميع الآفاق.
ما نعيشه اليوم في تونس ومصر وبقية البلاد العربية، هو النتيجة الطبيعية لجميع هذه الأفكار والممارسات والاستراتيجيات الخاطئة، التي لا يفسرها سوى العنصرية، الكامنة في تصوير العرب كشعوب بدائية وقرسطوية، غير قابلة للتطور ولا حساسية عندها تجاه قيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. وليس هناك من تفسير لهذه العنصرية، وما ارتبط بها من أحكام مسبقة سلبية، هي في أصل الكارثة العربية التي تسعى الشعوب لوضع حد لها، إلا إضفاء الشرعية على نظام السيطرة شبه الاستعمارية، الذي أقامته الدول الغربية الرئيسية للحفاظ على سيطرتها ونفوذها ومصالحها الاستثنائية في المنطقة المشرقية.
الأتحاد