صفحات مختارة

مدخل نظري إلى ثورة الشارع العربي

سعيد ناشيد
منذ اندلاعها، وقبل انتقال شرارتها إلى مصر، كانت هناك ثلاث قراءات تتجاذب أطراف تأويل الثورة التونسية:
أولا؛ التأويل الأيديولوجي، وهو تفسير تبناه المحافظون وكثير من رجال الدين، ويرى بأن الثورة التونسية لم تكن أكثر من احتجاج شعبي على نظام علماني لا سند له في الثقافة المحلية ولا في التاريخ العريق للشعب التونسي. أو لنقل، على أقل تقدير ممكن، بأنها ثورة «أقل علمانية» ضد نظام علماني أكثر من اللزوم.
ثانيا؛ التأويل الاقتصادي، وهو تفسير يعتبر أن الفقر والبطالة والحيف على رأس العوامل المفضية إلى غضب الشارع. ولعل غالبية الأنظمة العربية قد تبنت هذا التأويل، بحيث رأينا بعضها يفتح خزائنه الموصدة للقيام ببعض التدابير المعيشية الاحترازية، من قبيل خفض أسعار المواد الأساسية والزيادة في بعض الرّواتب، وقد بلغ الأمر في بعض الحالات إلى حد توزيع إكراميات عينية على المواطنين.
ثالثا؛ التأويل السياسي، وهو تأويل تبناه في أول الأمر قليلون، ويرى بأن العامل الأساس في اندلاع ثورة الشارع العربي يتعلق بانسداد الأفق السياسي أمام المواطن العربي بسبب شيوع الاستبداد وتفشي الفساد.
الاستبداد قرين الفساد، بل هو أصله ومنبعه كما كان يقول الداعية الكبير إلى مقاومة الاستبداد، عبد الرحمان الكواكبي. وسواء في تجربة تونس أو تجربة مصر أو في حالات أخرى آتية لا ريب فيها، كان من بين أبرز نتائج الثورة أنها كشفت، أن حجم الفساد الذي كان يحجبه الاستبداد، كان أكبر ضرراً مما كنا نتصور.
التأويل الأول لم يصمد إلا أياماً معدودة قبل أن يتهاوى بعد وصول رياح الثورة إلى مصر، وهي الدولة التي لا أحد يصفها بالعلمانية.
التأويل الثاني هو الآخر لم يصمد طويلا، بعد أن بدا للعيان أن الثورة المصرية كانت ثورة لكل الطبقات والفئات الاجتماعية، وظهر جلياً أنها لم تكن ثورة من أجل الخبز فقط ولا ضد ارتفاع الأسعار كما دأبت ثورات الشارع العربي في سنوات الثمانين، بل هي ثورة في الثقافة السياسية: فهي من جهة أولى ثورة من أجل سيادة الديموقراطية التشاركية، كما توحي بذلك تجربة اللجان الشعبية. وهي من جهة ثانية ثورة من أجل سيادة العقل التواصلي، كما توحي بذلك أنماط التواصل الأفقي غير المسبوقة في كل التجارب الثورية التي شهدتها البشرية. وهي من جهة ثالثة ثورة لمبادئ الحرية والكرامة والعدالة والتغيير، كما تردد في كل ثورات الشارع العربي.
عقب انتصار الثورة المصرية ووصول موجات المد الثوري إلى كثير من المجتمعات العربية شرقاً وغرباً، ستتجلى بوضوح قوة التأويل الثالث: ثورة الشارع العربي هي ثورة ضدّ الفساد والاستبداد. لكنها أيضا ثورة لتحرير تلك الطاقة التي كان يصطلح عليها هابرماس بالعقل التواصلي، وهي تعبير عن تلك الإمكانية التي كان يصطلح عليها كارل بوبر بالمجتمع المفتوح، وبعد كل هذا فإنها تذكير بالقاعدة التي نسيها الكثير من المثقفين: الديموقراطية هي المدخل إلى الحداثة لا العكس.
أربعة شعارات، كما رأينا، تكررت في مختلف أرجاء مدن تونس ومصر والجزائر والأردن وغيرها: الحرية، الكرامة، العدالة والتغيير.
الحرية هي المفهوم المركزي في فلسفة التنوير.
الكرامة هي المفهوم الذي سيضيفه الفيلسوف الألماني كانط.
سيضيف الفيلسوف الأميركي جون راولز مفهوم العدالة كقيمة مركزية.
وأما عن مفهوم التغيير فسيجعله الفيلسوف الفرنسي ألان باديو المبدأ الأكثر جوهرية.
لم يدمر المتظاهرون أي مبنى، لم يطلق الثوار أي رصاصة، لم يحرق الجمهور أي علم لأي دولة كانت، لم يقم الغاضبون بخطف أي دبلوماسي أو سائح أو موظف حكومي، لم يحرقوا أو يحاصروا أي سفارة لأي دولة كيفما كانت.
ما الذي يحدث على وجه التحديد؟
هنا في هذا المنحدر العربي الرّهيب يولد فجر جديد للبشرية.
قريبا سنسمع صرخة الولادة.
وربما الآن.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى