كيف أصبحت الديموقراطية حلالاً
في الدراسات الغربية للتاريخ الإسلامي في القرون الوسطى، كانت مؤسسة الإقطاع – أراضٍ يهبها السيّد لجنوده – تحتلّ حيّزاً مهماً لأن الباحثين كانوا يدرسون الأسباب التي تقف خلف فشل المسلمين في تطوير الإقطاع، ومعه العلاقات التعاقدية التي تؤدّي في نهاية المطاف إلى حكومة دستورية. بيد أن البحث عن أوجه تشابه بين الغرب والإسلام – ولا سيما الداخل الإسلامي التقليدي من شمال أفريقيا إلى إيران – كان مسعى محبطاً على الصعيد السياسي لأن المنطقة بدت مقاوِمة جداً للأفكار والمؤسّسات التي تتيح قيام حكومة تمثيلية.
بدا قرار الرئيس جورج دبليو بوش بناء الديموقراطية في العراق واهياً جداً في نظر كثر لأنه ظهر وكأنّه في أفضل الأحوال مثل آخر عن المثالية الأميركية التي تعيث في الأرض خراباً، من خلال التطبيق القسري لفكرة غربية معقّدة في أرض سلطوية غير مؤاتية. لكن بوش الذي يعكس إيمانه بالحكم الذاتي إيمان سكّان الحدود في كتاب توكفيل “الديموقراطية في أميركا”، رأى حقائق لم يتنبّه إليها الأشخاص الأكثر دنيوية: أصبحت فكرة الديموقراطية قوّة فاعلة بين المسلمين، وباتت السلطوية العامل الذي يولّد التطرّف الإسلامي.
أحد التطوّرات الكبرى التي لم تحظَ بتغطية إعلامية وافية في نهاية القرن العشرين هو الاختراق الهائل الذي حقّقته خيرة الأفكار السياسية في الغرب – الديموقراطية والحرية الفردية – في الوعي لدى المسلمين. بالنسبة إلى من يتكلّمون الفارسية ويقرأونها، كان التطوّر المذهل أكثر وضوحاً للرؤية. فموضوع الثيوقراطية في مقابل الديموقراطية أساسي في جمهورية إيران الإسلامية منذ الثورة، ويجمع بين الكاريزما الدينية لآية الله روح الله الخميني والتطلّعات الديموقراطية للمثقّفين العلمانيين. خلال العقود الثلاثة الماضية، فعّل رجال الدين في إيران خطاباً فكرياً حاداً عن واجبات الإنسان حيال الله.
عندما بدأت شرعية الثيوقراطية تتداعى وسط فساد النظام وهمجيّته في أواخر الثمانينات، ارتفع هدير الأفكار الديموقراطية بما في ذلك التفسيرات الديموقراطية القوية للدين الإسلامي. وكان الانفجار الجماهيري في الشوارع بعد الانتخابات الرئاسية المزوَّرة في حزيران 2009 الظاهرة الأكثر وضوحاً عن الضغوط الديموقراطية الهائلة التي تكوّنت في ظل الأوتوقراطية. ولا شك في أن البلاد على موعد مع محطّات أخرى تُهدّد النظام.
تزداد حدّة الانفصام في المجتمعات العربية اليوم – وهي أقل حيوية من إيران على المستوى الفكري، لا سيما وأن أنظمتها أكثر فاعلية في منع النقاش الداخلي. قبل وقت طويل من الاضطرابات في تونس ومصر، كان المفكّرون العلمانيون الليبراليون العرب منقسمين. فما عدا الشجعان الذين كانوا يدخلون السجون، كان الليبراليون الذين لا يغادرون أوطانهم يصبحون عادةً “ليبراليي البلاط”، أي إن آراءهم لم تتحدَّ قط الحكّام في شكل جدّي.
وإدراكاً منهم للمصير المروِّع الذي لقيه أقرانهم في إيران في ظل آية الله الخميني، كانوا يرجّعون بثقة صدى المخاوف المناهضة للإسلاميين التي كان أوتوقراطيو المنطقة يستخدمونها في واشنطن مردّدين على مسامع المسؤولين الأميركيين المعترضين على الاستبداد “من بعدي الطوفان”. وقد ظلّت الديموقراطية بالنسبة إليهم مثالاً أعلى مرغوباً فيه يمكن بلوغه في مرحلة ما في المستقبل عندما يفقد الإسلاميون جاذبيتهم والطغاة سلطتهم.
بيد أن المفكّرين العلمانيين في المنفى تبنّوا القضية الديموقراطية بقوّة أكبر – في صحفهم وكتبهم ومجلاّتهم ومواقعهم الإلكترونية، وأكثر فأكثر في ظهورهم عبر قناة “الجزيرة” – وأوصلوا آراءهم إلى الداخل. فتح مفكّرون ذوو آراء متنوّعة مثل كنعان مكية وإدوارد سعيد وسعد الدين ابرهيم وبرهان غليون، مساحة ليبرالية ديموقراطية راحت تتّسع أكثر فأكثر في المنشورات الأجنبية والعربية. أجل، مزج بعضهم رسالتهم عن الحرّية بأولويات “عربية” أخرى: العداء للصهيونية، والعداء للولايات المتحدة، والعداء للإمبريالية. لكن دعمهم للديموقراطية كان واضحاً، وأصبح أكثر حدّة بعد هجمات 11 أيلول.
أعارت وزارات الخارجية والصحافة الغربية، وهذا مفهوم، اهتماماً أكبر بكثير لليبراليي البلاط. وأدّت معارضة حرب العراق وكره الرئيس بوش إلى إعماء البصائر عن انتشار المشاعر الديموقراطية في المنطقة. لقد أُعميت البصائر عن واقع أن الشرق أوسطيين باتوا يعتبرون الديموقراطية لا الديكتاتورية وسيلة أفضل لتحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
والأهم من ذلك، أدّى النفور من بوش إلى إعماء بصيرة الغربيين عن التزاوج القوي بين الإسلاموية والأفكار الديموقراطية. بدأ رجال ونساء متديّنون ويثمّنون الشريعة كثيراً (ولو لم يكونوا يتبعونها بحذافيرها دائماً) يتبنّون أكثر فأكثر الفكرة الثورية بأن القيادة السياسية المنتخبة هي الوحيدة التي تتمتّع بالشرعية. يركّز الإسلام بصورة استثنائية على فكرة العدالة – التعويض الدنيوي الذي يستطيع أن يتوقّعه الإنسان الذي يعيش حياة صالحة.
وهذه النظرة إلى العدالة التي عبّر عنها آية الله العظمى علي السيستاني في العراق بقوّة شديدة عام 2004 في وجه احتلال أميركي متخوّف من إفساح المجال أمام العراقيين للتصويت، رُبِطت بصندوق الاقتراع بصورة لا عودة عنها. أصبحت الديموقراطية في نظر المؤمنين وسيلة كي يؤكّد المجتمع قيمه الإسلامية الأثمن.
دفعت الثورة المصرية ضد الرئيس حسني مبارك ونظامه بكثر في الغرب إلى توقّع صعود كارثي لـ”الإخوان المسلمين”، الجماعة الأم في الأصولية السنّية، بحيث يتعذّر كبحهم. “الإخوان المسلمون” مخيفون. فقد أجاز عناصر بارزون في الجماعة شنّ هجمات انتحارية ضد النساء والأطفال الإسرائيليين، وتبنّوا الشكل الأكثر شناعة من أشكال العداء للسامية، وأكّدوا قدسيّة قتل من يلحقون الإهانة بالنبي محمد.
بيد أن “الإخوان المسلمين” يتطوّرون على غرار جميع الباقين. نرتكب خطأ فادحاً إذا اعتقدنا أنّهم لم يتعاطوا جدياً مع تحدّي الديموقراطية المغري وواقع أن المؤمنين المصريين يحبّون فكرة التصويت لقائدهم.
عام 2007، أصدر أعضاء في “الإخوان المسلمين” برنامجاً سياسياً ثم سحبوه ليصدروه من جديد بصورة غير رسمية، وهو أوّل برنامج من نوعه تضعه الجماعة، ويستطيع المراقب الخارجي أن يلمس فيه صراع الإخوان الفلسفي مع فكرة التفوّق البرلماني واليقين بأن المسلمين المؤمنين قد ينتهكون الشريعة في تشريعاتهم. لم يكن الإخوان المسلمون أنفسهم يعرفون إلى أي حد يجب إطلاق يد المشترعين، فهم يتحرّكون، على غرار الباقين، في ميدان مجهول.
يحاول “الإخوان المسلمون” التآلف مع فكرة الحرية. في الماضي، كانت الحرية تشير في نظر المسلم المتديّن إلى حرية المؤمن في عبادة الله؛ أما بالنسبة إلى القومي العربي فكانت كلمة الحرية نداء المعركة ضد الإمبريالية الأوروبية. واليوم، في مصر وأماكن أخرى، لا يمكن فهم الحرية من دون الإشارة إلى حرية التصويت التي يجب منحها للرجال والنساء. يحاول “الإخوان المسلمون” أن يجدوا طريقة للدمج بين حضارتَين، ومن خلال ذلك إحياء حضارتهم الخاصة. ليس هذا التطوّر جميلاً، لكنه حقيقي.
بالنسبة إلى المصريين، ليس الإخوان لغزاً – فهم موجودون منذ عام 1928. على النقيض من الملالي الثوريين في إيران الذي وضعوا كتباً لم يقرأها أحد تقريباً خارج دائرة رجال الدين، ينشر “الإخوان المسلمون” آراءهم في أوساط الشعب المصري منذ عقود.
وكون المسلمين المصريين ينتمون إلى المذهب السنّي هو عامل مهم أيضاً. فخلافاً لشيعة إيران الذين يتمحور تاريخهم حول رجال كاريزماتيين، لا وجود لأمثال آية الله الخميني عند المصريين. “الإخوان المسلمون” تنظيم من العلمانيين. ولطالما كانت علاقتهم متوتّرة مع جامعة الأزهر السنّية في القاهرة.
على الرغم من أن حسني مبارك فعل كل ما بوسعه لخطف أنفاس المجتمع المصري، إلا أن ظلال أحزاب كانت عظيمة في السابق مثل “حزب الوفد” في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وقوى شبه منسيّة مثل “الحزب الدستوري الحر”، سوف تحاول أن تنبعث من جديد في مدى قصير إلى حد ما. هذا مع الإشارة إلى أن أيمن نور و”حزب الغد” الليبرالي الذي يتزعّمه موجودان الآن على الساحة.
بعد رحيل الرئيس مبارك، وإذا لم يحاول أزلامه الإبقاء على الديكتاتورية العسكرية، على الأرجح أن انتقالاً سريعاً إلى الديموقراطية سوف يولّد مجموعة كبيرة من الأحزاب على أن يكون بعضها في موقع يخوِّله تشكيل ائتلاف.
لا شك في أن “الإخوان المسلمين” سيكونون من اللاعبين الكبار، لكن سيكون عليهم التنافس على أصوات الناخبين. وكما يُبيّن برنامج الإخوان السياسي الذي تم إجهاضه، لن يعود بإمكان التنظيم الاكتفاء بترداد اللازمة السهلة “الإسلام لديه كل الأجوبة” التي يلجأ إليها الأشخاص الذي يعرفون أنهم ليسوا مضطرين إلى التنافس من أجل الوصول إلى السلطة.
غالب الظن أن ما سنشهده في مصر لن يكون تكراراً لما حصل في إيران حيث استولى الأصوليون على السلطة المطلقة، بل سنشهد تكراراً للحالة العراقية حيث أبلت الأحزاب الدينية السنّية جيداً في البداية لكنها بدأت تضمحل لاحقاً وتنقسم وتتطوّر مع بروز تفضيل السنّة القوي لعلمانيين ليست لديهم أي انتماءات دينية محدّدة. ليست هناك هرمية عند علماء أهل السنة – بل إن الإسلام السنّي يُتيح محاججات شديدة بين رجال يشكّك كل منهم في سلطة الآخر من أجل الاهتداء إلى الصراط المستقيم. إذا أمكن دمج “الإخوان المسلمين” في نظام ديموقراطي، فقد يكون التأثير العالمي كبيراً.
الفرصة متاحة أمامنا في مصر كي يحالفنا الحظ. من شأن الدمقرطة هناك، على غرار الدمقرطة في إيران، أن تُحبِط الأيديولوجيات ومشاعر الخوف التي تدفع البلدان الفقيرة إلى إنفاق ثروات على الأسلحة النووية. وتستطيع الولايات المتحدة أن تمارس تأثيراً في هذا المجال. يمكننا أن نضغط بقوّة من أجل انتقال سريع إلى الحكم الديموقراطي. يعتمد الجيش المصري الآن، وهو تاريخياً غير صديق للديموقراطية أو للحريات المدنية، على المال والأسلحة المتقدّمة من الولايات المتحدة. إذا استمرّ في الوقوف خلف مبارك، وإذا بدأ المصريون يموتون بأعداد كبيرة، على واشنطن ألا تتردّد في التصرّف بحزم.
يجب ألا تتم الانتخابات في نهاية انتقال ديموقراطي طويل وغير محدّد المعالم لا شك في أن مبارك أو أزلامه سيستعملونه لإجهاض الديموقراطية. بل إن مصر بحاجة إلى إنتخابات عاجلاً وليس آجلاً. يستطيع الرئيس أوباما أن يقول “لسنا خائفين من تصويت المسلمين” ويكون مقنعاً في كلامه هذا أكثر من أي رئيس سبقه. ويستطيع أن يضع حداً لعادة الغرب المؤذية التي تقوم على معاملة الحكّام في الشرق الأوسط باحترام، والمواطنين المسلمين وكأنّهم أولاد.
“نيويورك تايمز”
ترجمة نسرين ناضر
رويل مارك جيريشت – نيويورك
النهار