صفحات ثقافية

خوسيه ييرو : حزني كبريتيٌّ ماطر لكني لم أخبر أحداً أني على وشك البكاء

null
الأعمال الشعرية الكاملة لخوسيه ييرو تصدر في اسبانيا
يصعب ان ندنو من الشاعر الإسباني خوسيه ييرو من دون ان يغمرنا دفقه الحيوي. لكأنه صوت نباتّي يعتاش من صحبة الهواء والريح في نمطيهما الأكثر جموحا. ما ان تُستحضر قصيدته حتى يبزغ كائن متقشّف الى الحد الأكثر صفاء في الحال البشرية، ونموذج ضاحك ايضا يصير غير لائق احيانا لأن في وسع تهكّمه الذاتي ان يغرقه في برهة، في اعمق كآبة محتملة.
كان “شاعر المهزومين” رجلا خاصا جدا، قادرا على الابتهالات المهيبة وأعظم الاحزان. قبل عام على وفاته، عازه الهواء في المجاز وفي القصبات في ان واحد، فاضطر الى ايجاد بديل من الرئتين المعطّلتين وراح يقتات النَّفَس من رديف هي قناني الأوكسجين المصنّعة. على هذه الحال قدم ليشارك في برنامج تلفزيوني يتناول حياته، وما إن حلّ على مسامعه صوت زميله اوريليو غارثيا كانتالابيدرا الذي كان توفّى للتو، حتى تحرّكت ذكرياته السحيقة فشرع الشاعر ينوح من دون عزاء. لكأن الدموع تخدمه ككلمات وحيدة للحكاية الممكنة. استعاد ما كتبه في اهداء كتابه “تجنيد 42” حيث قال: “الى اوريليو غارثيا كانتالابيدرا الصديق الوفي والمترفّق والدمث. هذه صفات تبدو ملائمة للغرباء، بيد انها غير كافية للأصدقاء”. لكن المنمنات اللغوية روت في كل حال وإن على مضض، غارثيا كانتالابيدرا كما عرفه ييرو مبكرا، نديم اللحظات الصعبة خلال خروجه الى سانتاندير والى مصيره العزلي النهائي بعدما انهكه اصرار الديكتاتورية الفرنكوية الإضطهادية.
بعد سبعة عقود، وفي هذه الحجرة الإذاعيّة المعتقلة بين صوت طالع وآخر راجع، مثُل الموقف القادم من الأزمنة الرديئة بكل شجونه قبالته، فلم يستطع ييرو الجريح أن يزيد، وإن كتب “السعادة” بعدئذ. اسقط دموعه كما يفعل الراغب في طمس العالم. من شذرات الحياة والموت والغبطة تلك، تبزغ قصائد ييرو الكاملة الصادرة قبل فترة وجيزة لدى دار “فيزور” الاسبانية، حيث يمكننا التقرّب للمرة الالف من الموجبات العميقة لدهشة احسّها ييرو تجاه كل عزلة بعيدة، لكأنها صدى لعزلته الخاصة. تحتضن المجموعة في صفحاتها السبعمئة رجلا وشاعرا في حلّته الاكثر نقاوة.
في نهايات الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن المنصرم ألقى النقد الإسباني خوسيه ييرو في فئة الشعراء ناثري القصيدة الاجتماعية. حدّد هذا المقترب التحليلي الى حد كبير ادراك اثره، فيما تجاوز مخطّطه الملموس تنظير الشعر الجاهز. الصوت الذي حطّ في قافلة الامتيازات الأدبية القشتالية في اكتمالها، في “جائزة امير استورياس للآداب” و”جائزة ريينا صوفيا للشعر” و”جائزة الآداب الوطنية” و”جائزة ثرفانتس” في عام 1998، كان وفياً ايضا لمنطق راينر ماريا ريلكه الشعري السائد في حلقات ثقافية عدة حيث حامت القصيدة الاسبانية اللاحقة للحرب الأهلية. على هذا المنوال الفاضح للمكنونات السحيقة، سلك ييرو سبيلين، سبيل قصيدة التقرير وسبيل قصيدة الهذيان، او بمصطلحات ريلكه عينه قصيدة التجربة وقصيدة الحلم. وفي حين تزنّر شعر خوسيه ييرو بشبهة الاجتماعي، وجد فسحته الأرحب في تلك الحاضنة البوهيمية والغنائية. سكن زنازين الفرنكوية العقائدية لأربعة اعوام لموجبات سياسية، وفي ظلمة الغرفة السوداء انهى سونيتات سكب فيها هذيانه الفكري وتشتته الوطني: “اه اسبانيا، اراك عجوزا ويبسة/ اريد ان احطبّ احراجك بيدي/ ان انثر رمادا على اراضيك الجافة/ ان اقذف الى النار مآثرك القديمة/ ان ارقد مع حلمك وأفيق بعدذاك مع انبلاج الفجر/ بعدما صرت حرا من عبء يُبقي على ظهري طيف خرابك المميت”. تلك الحاجة البدئية للاعتراض تشذّبت في مرحلة لاحقة بعد خروج ييرو من الاعتقال ووفاة والده. ثنائية ييرو وريلكه منوطة بمطلع 1944 ومدينة فالنسيا حيث اقام الإسباني برفقة خوسيه لويس ايدالغو. والحال ان ايدالغو كان على اتصال بحلقة ادباء ساعدته في الترويج لمجلة “كورسيل” (الجواد) الصادرة في مدريد، بدءا من المدينة الاسبانية. في صفحات هذه الدوريّة كان خُصص عدد لراينر ماريا ريلكه في شباط – اذار 1943، حيث وقّع احد ابرز الكتاب الاسبان اثورين مقالا يشدد على اهمية الموت الفردي ليصير ثيمة “القصائد الجديدة” التي أصدرها ييرو بعد حين. غير ان اهم ما تضمّنه العدد وأُلقي لاحقا، بطريقة او اخرى في منزل ييرو الشعري، كان التوقف عند معاني اعمال ريلكه ولا سيما التأكيد ان الشعر ليس شعورا وانما تجربة، والجزم بأهمية ترسّب الذكريات كغلاف للابتكار. وعندما يقول ييرو في “مرثية لقبر شاعر” “لمست الخلق بجبيني/ احسست بالخلق في روحي. نادتني الأمواج في الاعماق/ لتتكسر المياه بعدئذ”، فلا مكان إذاً لإغفال تلك الاغراض التخييلية والمنافية للعقل، وهي عدّة شاعر اقام في بلاد من اساطير وقصائد.
ولادة ييرو في مدريد في عام 1922 جعلته يشهد قرنا في حالة نزع أخير، ترك عند فرسان الجنون، اي الشعراء، علاماته المنحرفة وسخريته النيئة. قصد ييرو الحائر في العمر الاول، سانتاندير حيث عاش بوتيرة شعراء الحرب الأهلية الاسبانية المربكين. في عام 1937 كتب “قصائد الحرب الاسبانية”، وتلك سطور بيّنت في اليفاع انسيابا في الجمال الأدبي فضلا عن تقليد عميق وفطري لـ”المعلمين”. كان هناك شعراء جيل 1927 من دون شك، اي رافاييل البرتي وفيديريكو غارثيا لوركا وفيسينتي الكساندري خصوصا. وكان الابتكار الشعري موازيا دوما لإقحامات روتينية في مجال الرسم ايضا. بدا الطبع المسنّن الخارج على طور القولبة ايضا في التزام ييرو السياسي ليجعله ضحيّة الرقابة الفرنكوية في مناسبات عدة. شارك في تأسيس “اتحاد الكتّاب الثوريين” في نهايات الثلاثينات من القرن المنصرم في حقبة حيث بلغ التصادم بين الفاشيين والجمهوريين اوجه. في الأربعينات شارك على نحو فاعل في ابتكار مجلة “اسبادانيا” الشعرية الى جانب بلاس دي اوتيرو وغبريال ثلايا وانجيلا فيخيروا، الذين استحضروا شعرا بسيطا ومباشرا، واستلّت القصيدة كسلاح لتأجيج رماد الصراع السياسي.
يدور شعر خوسيه ييرو الكامل الذي ينشر اليوم، في مسوّغات حياته وألمه وشروره. يختزل مصدره الشعري بالإيقاع المنوط في الإجمال بكلمة واحدة تنجز حراك القصيدة وتجعل انفعالها يفيق. على مرّ ابحاثه ومقابلاته، شدد خوسيه ييرو على ان بزوغ اي قصيدة هو وقف على الايقاع دوما. لبنات شعره مصبوبة في اسمنت غنائي، تركّزت من طريق “ارض خلانا” (1947) و”تجنيد 42″ (1953) و”جل ما تعرفه عني” (1957) و”كتاب الهذيان” (1964) و”اجندة” (1991) و”لوحة نيويورك” (1998) حيث يدندن ييرو الانعكاس الشعري للحوادث المعيشة ولا يذهب الى جوار الندرة. على نحو ما يمسي الزمن مصفاة الذكرى، يمدّ قصائده بمادة كئيبة ليست سوى خاصية المرء اللامنتهي، الباحث عن تحويل العالم والانسان. تستمر قصيدة ييرو بعد قراءتها، حيث الهندسة والموسيقى، الى تركيب الجمل ونغمها. انها قصيدة تنتسب الى الايقاع على نحو وثيق، كركيزة شعرية تستند الى انجدالات لغوية جديدة. الإنفعال في هذه الانحاء ثمرة قصيدة عامة، وليس خلاصة ابيات معزولة.
رحل ييرو في كانون الاول من عام 2002 في سن الثمانين، حيث بدا كأنه يزدري ذاته ويحذف هويته معتمدا صيغة الغائب. في شتى الاحوال، ثمة استحالة في ان يلجأ القارئ الى ابياته من دون ان يفقد هو الاخر صفته. غير ان القصة الذاتية في عينها ليست اكثر من ذكرى رجل طاردته الفرنكوية التي اعاقته عن الحرية لسنوات. بعد وضع نقطة فصل للحرب الأهلية، تم تقديمه من دون حجاب في بيت شعري وبموضوعية بحتة، ليبحث عن تردد له في الراهن. في هذا الكتاب المنبئ بسيرة خوسيه ييرو الذاتية، يحضر الشاعر في هيئات مختلفة مليئا بالحيوية والاهتمام بالحياة، حارثا الأرض وعاصرا النبيذ ومتجولا ومهرولا عاري الصدر عبر حقول تتراءى كامتداد لنظرته وراحته. يكتب: “انا خوسيه ييرو، رجل/ كمثل اخرين كثيرين، اتمدد/ في هذه الامسية في سريري/ ها قد رجعت الى الحلم”. فعل ذلك حقاً في “كتاب الهذيان” و”السعادة” و”لوحة نيويورك”. حلم انذاك وسيحلم دوما، لكن كيف يسعه ان يغفل سبب نحيبه المجهش او كيف، بتعابيره الخاصة، “يتفادى الحديث عن هذا برمته”، كما تسأل خوليا اوسيدا، التي وضعت مع ميغال غارثيا بوسادو هذه الطبعة الجامعة أعماله.
في قصيدة “تاريخ للشباب” في “كتاب الهذيان” الذي يعود الى عام 1964، ينبثق هذا المناخ من خلال مرآة لحكاية سجن ييرو. يدخره الشاعر ويحرره هنا بحركة من المقت الخجل ومن الاضطرار الى الشرح متقدما على الاخرين الراغبين في سوق شرحهم الشخصي. يكتب: “يقولون انه يتحدّث/ وحده عن نفسه/ يتقدم على ما يقولون، اعمى/ عاجزا عن رؤية ما يجري حوله/ يجول هذا الرجل/ في الدنيا كسفينة قديمة”. لم يكن من غير المنطقي تاليا ان يختار مانولو روميرو هذه القصيدة ليودع حماه ييرو في المثوى الاخير في مدريد في كانون الاول من العام 2002.
بالنسبة الى الناشر “فيزور” تحققت من خلال الكتاب الحديث امنية غالية في ترتيب القصائد على نحو تعذّر على الشاعر في حياته. بتنا نلمس مادياً ييرو الشاعر الصعب احيانا والهامشي احيانا اخرى، المتحامل على نفسه في المقام الأول، والذي لا يتردد في ان يجلط روحه لينصرف الى الرثاء وكأنه يلوّن صورة انفعالية عن وجعه. على نحو موضوعي ومن دون التفافات، يكتب: “لم اخبر احدا اني على وشك البكاء”.
في الشعر، خوسيه ييرو هو مثيل كاميلو خوسيه ثيلا في النثر، ينقب عن استعادة الخط الادبي الاسباني الاساسي. يشد الوصال مع بيئة الداخل في ايماءة تتجاوز الحرب وما بعد الحرب. واذا كان من المفترض ان يكون شعر ييرو “اجتماعيا” بحكم التوالي الزمني، فإنه يبدو اجتماعيا علاوة عليه. لم يفهم بعض النقاد والشعراء مثلا ان ييرو يأتي بما هو اعمق من الاعتراض على الاعتقال، ذلك انه ينقذ الشكل الغنائي الآتي من القرون الوسطى ومن الرومنطيقية كذلك.
في احدى مجموعاته الاولى كتب ييرو الى أموس دي ايسكالانتي “ملهمة الشمال، الكآبة”. جعل من هذا البيت الشعري شعارا. في وسطه رأينا مرور عصفور مغمغم بالكآبة، وشاهدنا الشاعر يجعل البحر كهفه وهو يحمل راية الحزن، ويسرد بغضب وطاقة مخنوقة ماثلة في شخصيته كل ما يجري. اختبأ ابن الشمال ومدريد من طيف البحر، ليواصل اصدار مؤلفات بعيدة من الرسمي والدارج، ومن المحلي والمهيب.
بعثر ييرو شعره بين الزنازين والموت وبين لوثتي الهذيان والتقارير. في جوار الهذيان، حرر الكلمة وهي تبسط جمالها ونورها وتشيح الاستعمار الحقيقي اليومي. في جوار التقارير قصّ حال الناس السيئين الذاهبين للغناء في الحقول،  ليقوم في “تجنيد 42” بتأطير بعض القضايا من دون تشديد ليترك في جوارها وجعا اليما وكتلة بكاء وحزناً كبريتياً ماطراً.
والحال ان ثمة اعواماً مبلّلة من دون شك وماطرة ايضا، وهذه الموسيقى الرطبة المتصاعدة من الذاكرة الخامدة هي الباقية من اعمال ييرو. ابن جيل متألم ضم شعراء حيِّدوا عن ملكوت القراءة في الماضي لأنهم كانوا في تخوم الهمّ الحَرفي، ويُقرأون راهنا لأنهم باتوا يعدّون بائدين وغير مهددين. مات ييرو عند كل مقاربة غير منصفة، غير انه ظل واقفا في المحصلة: “طرق خارجية يمشيها اخرون/ هنا الوقت يفتقر الى رمز كمياه جارية لا تستطيع تبديل شكل النهر/ وانا اركض واجيء واذهب ضائعا ضمن اغراض الوقت/ غير اني هنا/ وهنا لا معنى للوقت”.
نفدت الاستخدامات الطارئة للشعر وللعادات والمحاصيل والمآتم وظل ييرو ساكنا في قلقه، هادئا ومبتكرا ووحيدا، وهاجسا بحيوات اخرى. شهد ييرو الشعر الاجتماعي يمضي برضا لأنه كان هو نفسه تعريف الاجتماعي، الفاعل والمعلن والصامت.

مقتطف من حوار
لم أعتقد يوماً أن الشعر أداة لتغيير العالم
في مقابلة مع مجلة “باباب” الاسبانية بعيد نيله “جائزة ثرفانتس” للآداب يتحدث الشاعر الاسباني خوسيه ييرو عن مقاربته الفنية للأثر الشعري وعن تجربة السجن المريرة وعن اوكتافيو باث واشياء اخرى. هنا مختارات من هذا الحوار:
* خوسيه ييرو، هل تعتقد أن أعمالك تأثرت بمعلمي جيل 1927؟
– يجب ان نأخذ في الحسبان ان الشعر الاسباني خلال القرن العشرين انبثق من جذع واحد الا وهو روبين داريو. اكاد استطيع رؤية هذا الجذر بالعين المجردة، ومنه خرج بعدذاك خوان رامون خيمينيث الذي لقّن الجميع، شعراء الهنا (شعراء شبه الجزيرة الايبرية) كما شعراء الهناك (شعراء اميركا اللاتينية). انبثقت مجموعة 27 والشعر الجديد في اميركا من خوان رامون خيمينيث. لم يأت تأثير انطونيو ماتشادو وميغال دي اونامونو سوى في مرحلة متأخرة. في حين لم يترك ماتشادو بصمة تذكر سوى بعد حرب 1936 من طريق تيار نيو كلاسيكي جديد. اما اونامونو فظهر في اللحظات اللاحقة للحرب، لأن هذا الشاعر شكل بالنسبة الى جيل 1927 مثقفا استطاع وضع الكلمات على الافكار، على نحو جعله يستطيع طبع مرحلة ما بعد الحرب الاهلية. انسحب هذا الواقع بعدذاك على جيل 1927 بعيد ظهور روافد اميركا اللاتينية. لم يقتصر ذلك على روبين داريو فحسب وعلى خوان رامون خيمينيث وانما بزغ اويدوبورو المحوري في مسار هذا التحول، وإن لم يعط الاهتمام المستحق. حانت بعدئذ السوريالية ثم اتى الكبير نيرودا، وانا اتحدث هنا عن نيرودا صاحب “مقر اقامة في الارض”. ثم في مرحلة لاحقة، في اعقاب الحرب، ظهر اثر نيرودا الثاني، نيرودا “النشيد العام”. اظنها الصورة البيانية تقريبا لما حصل.
* كيف تصف معيشك في السجن؟
– ادخلتُ السجن الانفرادي لأني انتميت الى منظمة يسارية اسبانية ضمت مجموعة من الشباب تولّت مساعدة السجناء وعائلاتهم في سانتاندير. حققت القوى الفرنكوية في نشاط هذه المنظمة وصادرت اللوائح حيث كانت سجلت اسماء ثمانين شخصا متحدرين من سانتاندير واستورياس. اعتقلونا جميعا، اما في السجن فساد الجوع. كانت الوجبات باعثة على الغثيان، وكانت المعاملة قاسية الى ابعد حد. في حال اعلن احدهم نيته الاتصال بمحاميه تعرّض للكمتين واجبر على التزام الصمت. حمل جسد السجناء اثار الكدمات.
في احدى المرات ادخلت الى السجن وعلى نحو شبه سري بعض اعمال دوستويفسكي. كنت قارئا شغوفا لأثره واحتفظ بذكرى جميلة عن احد اعمال غبريال ميرو. كنت جزءا من مجموعة من الشبان أُلقيت في تلك الزنزانة حيث فصلت بالكاد بين السجين والسجين مسافة اربعين سنتيمترا. عرضنا الكتب في ما يشبه الخزانة كما لو اننا في منازلنا. غير انه صدف مرور احد المسؤولين البائسين في احد الايام وما إن لمح تلك المؤلفات حتى صادرها متحججا بإدخالها من دون الحصول على اذن. لست ادري اي سوء روّج له الروسي دوستويفسكي او ربما غبريال ميرو المثير للشفقة، غير ان الكتب في كل حال اختفت تماما. لكني واصلتُ اكتشاف الحياة في السجن، تلك التي اهتممت لها خصوصا.
* في خطاب تسلم “جائزة ثرفانتس” تحدثت عن “ايل كيخوتي” انطلاقا من ثلاث وجهات نظر.
– اعتبر ان “ايل كيخوتي” اعجوبة من حيث الشكل الفانتازي. قال اثورين ان ثرفانتس لم يكتب “ايل كيخوتي” وانما الاجيال القادمة. اما بالنسبة الى اونامونو فـ”ايل كيخوتي” هو الذي املى الكلمات لثرفانتس. جرى الامر في عرفه على عكس ما اراده مناصرو ثرفانتس، ذلك انه كان احد مناصري “ايل كيخوتي”. من هنا انبثقت هذه الخلاصة العبثية تماما بلا ريب، والقائلة بأن ثرفانتس لم يكتب “ايل كيخوتي”. في كل حال، ان الاهم هو اقامة “ايل كيخوتي” في توالي الأجيال في ما ادعوه “بلاد الأساطير” حيث اشعر اني في افضل حال.
* غير ان الشاعر في بلاد الاساطير هذه التي تشير اليها لا يدرك كيف تختتم قصيدته الشخصية.
– تولد القصيدة من شعور ومن كثافة ايضا. غير ان ثمة عجزاً فعلياً في معرفة محتواها. احيانا اقرأ نوعا من القصائد كتلك التي تعود الى القرن الثامن عشر، حيث يمكن ادراك القصيدة قبل كتابتها. اما انا فيروق لي ان تتخطاني القصيدة. ان كلب لاثاريو يقود الضرير (في الحكاية الاسبانية الشعبية المجهولة المؤلف “حياة لاثاريو دي تورميس وحظوظه ومصائبه”) غير ان ذلك جرى بعدما تم تلقين الحيوان. تقودك القصيدة تاليا الى حيث تجهل انك راغب في الذهاب، تماما مثل ينجز الكلب إرشاد لاثاريو. كتبتُ القصيدة النثرية، وهي نوع منفصل عن النثر الشعري الذي لم افهم يوماً ما يعنيه تحديدا. يتراءى لي النثر الشاعري سردا مزخرفا. اما الفرق الوحيد الذي اجده بين القصيدة النثرية والقصيدة الحرة فهو عينه القائم بين البطاطا والوردة. الاهم في شتلة البطاطا هو جذرها المخفي تحت مستوى الارض. في حين ان الاهم في الوردة ما يقوم فوق التربة تحديدا. الاولى جذر يؤكل، فيما الاخرى غذاء للناظرين اليها.
* تكتب ايضا للاعتراض على اللاعدالة الاجتماعية.
– عندما يحين الوقت، لا اقصّر في ذلك. غير اني لست كاتبا اجتماعيا او مؤيدا للاشتراكية. إذا استوقفني امر معين، اكتب في شأنه فحسب. لكني لم اظن مرة ان الشعر يشكل اداة لتغيير العالم. في الامد البعيد ينجز الشعر تحويلا لشتى الامور. هل اكتب قصيدة نقدية لأن العالم قاس؟ كلا. ربما كنت بصفتي مواطناً، على خلاف مع الحكومة، بيد اني كشاعر لا افكر البتة في كتابة نص مناهض لهذه الحكومة.
* كيف تتقبل جائزة ادبية مماثلة واعترافا على هذا المستوى؟
– تسعدني الجوائز بلا ريب. غير اني اظن دوما اني عندما انال اعترافا معينا، فإني في الوقت عينه اسلب آخر يكتب افضل مني هذا الشرف. يصيبني هذا الامر بالخفر لأني ادرك حدودي تماما. ثمة دوما شخص اخر يستحق اكثر مني.
* تسنى لك ان تزور المكسيك قبل وقت وجيز على رحيل اوكتافيو باث.
– هذا صحيح. حصل ذلك في اذار من عام 1997. زرت اوكتافيو باث في منزله، غير انه تحفظ عن الكلام. كان يجلس في كرسي متحرك، فعانقته. كان يشعر بالوجع، وكان يصرخ مثل حيوان متألم. كان يوحي انه يتبع علاجا بالاقراص المسكّنة للالم. كانت صرخاته تشبه تلك التي يطلقها حيوان مجروح، كان المشهد مروعا. حصل ذلك قبل نحو شهر على وفاته. اخبرت احد اصدقائنا المشتركين اني ظننت يومذاك اني اتحدث الى الحائط. كان باث في عالم آخر. كانت صرخته مريعة، جعلت جسمي يقشعر. لا رغبة لي في الاطالة في الحديث عن هذا الموضوع، غير اني عاجز تماما عن نسيان هذه الصرخة الى اليوم.
* أي قصيدة تقترح للألفية المقبلة؟
– لا يمكنني التهكن بها ولا يهمّني ذلك لأني لا اعتقد اني سأعيش الى الالفية الثالثة. اظن الحياة عند كل مفصل من شأنها ان تصير افضل. غير ان ثمة امراً راهناً لن استطيع يوماً فهمه وهو العالم الافتراضي. في كل حال اتمنى ان يصير الناس في الالفية المقبلة اكثر حرية، وفي هذا المعنى اعتقد اني متفائل.
* هل يمضي وقت طويل قبل ان تنشر كتابك المقبل؟
– لا تهمّني مسألة نشر كتابي المقبل وهو كناية عن طبعة مزيدة من “لوحة نيويورك” المنطلقة من قصيدة كتبتها قبل ثمانية اعوام. في هذه القصيدة، اسعى الى تفسير الهيكل العظمي من طريق ثلاثة انماط من الطقوس المرافقة للموتى، في الولايات المتحدة الاميركية وفي المكسيك وفي اسبانيا. من خلال هذه المسألة ارغب في بلورة فكرة وافية في خصوص الموت، بوصفه كرنفالاً او لنقل بوصفه طقساً. غير اني صرفت عشرين عاما من دون تأليف الكتب، ذلك ان مرور الزمن لا يعنيني.
رلى راشد
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى