صفحات العالمما يحدث في لبنان

ساعة الحقيقة اقتربت وعلى القضاء أن يثبت صدقيته

جورج علم
وفد المحكمة الدوليّة يصطدم بالانقسام الحاد حول الضباط ومدى «التسييس» في قضيتهم
ليست المرّة الأولى التي تثار فيها قضيّة الضباط الأربعة، لكنها المرّة الأولى التي تحظى بهذا القدر من الاهتمام والمتابعة من قبل «المؤتمنين على صنع القرار في لبنان» او «الشركاء في اتخاذه»، سفراء دول الرعاية والوصاية الناشطين على بركة الله، وبألف خير، وعلى كلّ الجبهات…
وينطلق البعض من الوقائع المحليّة على أساس ان الموضوع قد سيّس في ظلّ غياب الحجّة القضائيّة الدامغة المعلنة التي تبرر استمرار الاحتجاز، وبالتالي فإن غياب هذا المبرر القانوني الحاسم عن كل المداولات الرائجة، يفتح الباب عريضا أمام كل أنواع الاجتهادات والتحليلات، وساهم في بلورة انقسام سياسي لا يشفع به أي منطق سليم، وكأن الأقليّة هي وحدها مع تحرير الضبّاط وإطلاق سراحهم، فيما الأكثريّة مع استمرار احتجازهم وبقائهم قيد التوقيف، واستطرادا كأن الأقليّة مع تبرير الاغتيال، فيما ترفض الأكثريّة أي تبرير لأي إجراء تخفيفي حيال أية مسألة تتصل بجريمة الاغتيال، قبل إعلان الحقيقة.
واستفاد الحضور الدبلوماسي الدولي الإقليمي من هذا المناخ، بمعنى أن الدول التي تعنى جيدا بلعبة مصالحها وفق تبدل رياح التطورات قد دخلت بقوة على خط الشرخ الحاصل، والدليل ان هناك من يدعم جهارا قوى الأكثرية بمنطقها وحججها وخياراتها، فيما هناك من يدعم بالمقابل الأقليّة بمنطقها وحججها، خصوصا في ظلّ حملة إعلاميّة نجحت في إظهار الضباط في موقع الضحيّة، المغبونين والمعتقلين بغير وجه حق، طالما ان القضاء المختص لم يقل الكلمة المقنعة، ولم يجاهر بالحجة الدامغة التي تبررّ استمرار الاحتجاز والتوقيف.
وأدى الاختلاف في وجهات النظر، والتباين العميق في الاجتهادات القانونيّة المتقابلة الى إضافة هذه المسألة على سلّة المواضيع الخلافيّة الأخرى التي يوجد تباينات في الرأي حيالها ما بين الأكثرية والأقليّة. وجاء قرار إطلاق عمل المحكمة ذات الطابع الدولي وكأنه انتصار لوجهة نظر على أخرى، فيما المطلوب توافق وإجماع وطني حولها. وهذا ما بدا واضحا من خلال المهمة التي يقوم بها وفد من المحكمة في بيروت حيث تبّين في المجال الحسابي ما يلي: هناك العشرات من التقارير الورقيّة التي تضمّنت كامل مجريات التحقيق الخاص بهذه الجريمة «سواء التي قام بها القضاء اللبناني او فريق لجنة التحقيق الدوليّة، ولكن ـ مقابل هذه الملفات ـ هناك أربعة موقوفين فقط على ذمة التحقيق في هذه الجريمة، وجدل سياسي وانقسام حاد حول قانونية التوقيف، البعض يعتبرها لا قانونية ولا شرعيّة، بل مجرّد انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، فيما يعتبرها البعض الآخر بأنها تتصل بمكونات الجريمة وبالتالي فإن للقضاء اللبناني عصمته وحجته الدامغة في هذا الموضوع والتي لن يعلن عنها إلاّ في الوقت الملائم، وبالتالي فإنه فوق الشبهات، ويرفض ان يتحمّل تبعات أي خطأ معنوي بهذا الحجم، وأمام الرأي العام الدولي بأسره، لو لم يكن محمي الظهر قانونيا، ومستندا الى اجتهادات وحجج قضائيّة دامغة لا لبس فيها.
ويقول دبلوماسي متابع ان وفد المحكمة بات مدركا لعمق هذا الانقسام، ولبعد هذه الإشكاليّة المعقّدة، الى حد ان الوحدة الوطنيّة التي جاء يبني عليها تحرّكه غير متماسكة، وتعاني من خلل واضح وهذا ما يفسد الانسجام الوطني الصلب الذي تعوّل عليه المحكمة للإنطلاق بعملها مدعومة معنويّا من كامل اطياف وطوائف الشعب اللبناني. ولعل التحدّي الأول الذي تواجهه يتمثّل بقدرتها على التماسك وعدم انزلاقها رويدا رويدا الى مستنقع الخلافات الداخليّة، وكان الوفد من جهة أمام الحجة التي يجاهر به وكلاء الدفاع عن أن التوقيف اعتباطي ولا يستند الى اي مسوّغ قانوني أو حجة حقوقيّة، وكان من جهة أخرى أمام الحرص على ترفع المحكمة واستقلاليتها وهي تواجه أول امتحان محلي إذ عليها ان تقدم على ما عجز عنه القضاء اللبناني بسبب التسييس الحاد للموضوع، وتقررّ إما إبقاهم قيد التوقيف وعليها ان تبرر ذلك، وفي هذه الحال تكون قد أعطت مصداقيّة أدبيّة ومعنوية للقضاء اللبناني، وشحنة عالية من المعنويات السياسيّة لفريق الأكثريّة، أو ان تطلق سراحهم وفي هذه الحال تكون قد أعطت مصداقيّة معنوية لمنطق المعارضة وموقفها من طريقة توقيفهم والحساسيات والتراكمات التي توالت مع مرور الزمن، وزادت من جدار التباعد والتنافر سماكة وارتفاعا بين فريقي 8 و14 آذار حول ملف يفترض به ان يقرّب بدلا من ان يبعّد ما بينهم.
ويأتي الاستحقاق الانتخابي ليزيد من الفرقة بعدما علق في أذهان الغالبيّة من المواطنين ان المواعيد التي كانت مضروبة بصورة مبدئيّة للإفراج عن الضبّاط قد طارت عن عمد وسابق تصور وتصميم لأن المصالح الانتخابيّة التابعة لقادة في صفوف الأقليّة والأكثريّة قد التقت على وجوب العمل لإبقاء الضباط حيث هم، الى حين ان تمرّ الفترة المحددة قانونا لقبول طلبات الترشيح للإنتخابات، حتى لا يتقدّم ايّ من هؤلاء بمثل هذا الطلب، لأن ترشح بعضهم في مناطق معينة يشكّل إشكالية كبيرة لأقطاب بارزين وفق المعادلة السائدة. ومع مرور مهلة الترشح برز أكثر من رأي يقول إذا كان لا بدّ من تحديد موعد للإفراج عن هؤلاء «المظلومين بتوقيف تعسفي/ فعلى الأقل يفترض ان يكون بعد انتهاء المهلة المخصصة لسحب طلبات الترشيح من قبل غالبية الذين لا ينوون الاستمرار في المعركة الانتخابية حتى النهاية، كلّ ذلك لقطع الطريق نهائيّا أمام الرغبات عند أيّ من هؤلاء حيال الانتخابات.
وإذا كان ما يبنى على الباطل هو باطل، فإن ما يبنى محليّا على هذه القضيّة لا يمكن الأخذ به لا كذريعة ولا كحجة ولا كقرينة تساعد المحكمة في انطلاقتها، ويبقى التحدّي الأول عند الدبلوماسيين المتابعين برسم القضاء اللبناني. لقد انشئت المحكمة ذات الطابع الدولي بقرار مستقل صدر عن مجلس الامن وبإجماع أعضائه، وأبصرت النور، وانطلقت بعملها، وشكّلت هيئاتها القضائيّة والإجرائيّة والتنفيذيّة والتنظيميّة، وانتقلت الملفات الخاصة ذات الصلة من لبنان الى لاهاي لتستقر في كنفها، وهذا كلّه يعني أنه بات على القضاء اللبناني ان يكشف عن وجهه، ويعبّر عن صدقيته ومصداقيته، وهل هو القضاء الحكيم العادل العاقل الكفء الذي يملك كل الحجج القانونيّة الصلدة الواضحة المحقة التي استوجبت توقيف هؤلاء الضباط الاربعة طوال هذه المدّة، أم أنه مسيّس ضعيف مغلوب على أمره وأقدم على توقيف هؤلاء نزولا عند إملاءات ورغبات سياسيّة ؟. وما ينطبق على القضاء ينطبق على المكونات السياسية في البلاد، هل كل لبنان مع المحكمة ام الأكثرية فقط؟!. وهل ستبقى اكثريّة بعد الثامن من حزيران المقبل؟!.
ان المحكمة ستبدأ بعملها، وستبقى الحقيقة التي قد تتوصل اليها ـ بنظر الدبلوماسيين ـ واضحة ومجرّدة بالعين القانونيّة ـ القضائيّة، لكنها ستبقى استنسابيّة عند التطبيق، لأن مصالح الدول فــوق كلّ اعتبار، وتبقى العبرة في صون الحقيقة وهذه منوطة بوحدة اللبنانيين، وهذه تؤمنها الحكمة لا المحكمة ؟!.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى