مصر: بين ثقافة تمشي وأخرى واقفة
هوشنك بروكا
الرئيس الذي كان يحكم مصر ب”قانون الطوارئ والأحكام العرفية” منذ ثلاثين عاماً، خرج أمس على شعبه الذي ينادي بإسقاطه منذ 25 يناير/ كانون الثاني الماضي، لا ليقول: “فهمتكم ..فهمتكم كلكم”، كما قال ديكتاتور تونس المخلوع زين العابدين بن علي، قبل هروبه بساعات، وإنما خرج عليه وعلى العالم، ل”عرض عضلاته الوطنية”، ليقول: “الشعب المصري يعرف من هو حسني مبارك!”.
الخطاب، لا يحتاج إلى الكثير من التحليل السياسي، بقدر ما أنه يحتاج إلى “تحليل سيكولوجي”، لتفكيك “الأنا” وما حواليها من “قيامات” نفسية، تحتاج إلى أكثر من دراسة وعلى أكثر من مستوى.
الرئيس، الذي كان من المفترض به، أن يواجه شعب(ه) بخطابٍ، يدعو فيه الكلّ إلى الإتفاق على مصر، لإنقاذ مصر وشعبها من الكارثة، دعا مجدداً، إلى “الإتفاق الضروري” على كونه “رئيساً مسؤولاً للبلاد حتى نهاية ولايته”.
الرئيس، بدا في خطابه، لكأنه “شاهد ما شافش حاجة”.
هو لم يسمع مصر، لم يرى مصر، ولم يحس بنبض مصر، وإنما خرج بالأمس، فقط ليقول كلاماً قديماً، كالعادة في مصر وعنها، كما يراها ويريدها ويشاء لها هو أن تكون.
لكأن الرئيس أراد أن يقول للمصريين، في خطابه “الأطرش في زفة مصر”: لا أراكم ولا أسمعكم ولا أحس بكم، ولكني أرى مصر وأسمعها وأحسّ بها، كما كنت أراها منذ ثلاثين عاماً، أكثر وأبعد وأحسن منكم.
لم يكن في خطاب مبارك أمس، من جديد. الجديد القديم، هو فرض إرادة الرئيس على إرادة مصر والشعب المصري، وذلك عبر تفويضه، بإعتباره “رئيساً شرعياً” للبلاد، صلاحياته لنائبه عمر سليمان.
بدلاً من رضوخ الرئيس لإرادة الشعب، دعاه إلى الدخول “الضروري” في إرادته.
الشعب المصري في الشارع، يريد إسقاط نظامه، أما هو فيصرّ على ضرورة إنقياد مصر والمصريين للنظام، تحت قيادته إلى آخر ولايته.
هو، لم يقل للشعب: أنا تحت أمركم، كما هو الواجب المنتظر لكل رئيس يحترم إرادة شعبه، وإنما قال(ولا يزال) لمصر وشعبها: كونوا تحت أمري..كونوا إرادتي..كونوا شعباً تحت الطلب، في مصر كما أريدها. أما نائبه ورئيس مخابراته السابق، الداخل في “إرادته”، عمر سليمان، فكان لا بدّ له، من أن يدعو الأمة المصرية، إلى “العودة إلى ديارهم وأعمالهم”، كما وصّاه الرئيس.
خطاب مبارك أمس، كان خطاباً في الإنشاء، بإمتياز: كان خطاباً في الأنا ضد ال”نحن”؛ وفي القديم ضد الجديد؛ وفي السياسة النقل ضد السياسة العقل؛ وفي إرادة الديكتاتور ضد إرادة الجمهور؛ وفي الهروب من التاريخ ضد كل داخلٍ فيه.
الخطاب جاء في كثيره، خطاباً عناداً، كان فيه الكثير من “الإنشاء الوطني”، وفرض إرادة النظام على إرادة الشعب، والكثير الكثير من الأنا مقابل القليل القليل من مصر والشعب المصري.
كان خطاباً “عنيداً”، حاول به الرئيس القفز فوق مصر، وشعب مصر، وأمن ومصلحة مصر، ومستقبل مصر، للهروب إلى أنا(ه) التي لا يزال يصدقها بأنها تساوي كلّ مصر، شعباً وحكومةً، تاريخاً وجغرافيا، أرضاً وسماءً.
بالأمس وأنا استمع إلى “الحس الوطني العالي” في خطاب الرئيس حسني مبارك الذي بات قاب قوسين أو أدنى من الهروب، تذكرتُ بكاء مدير التسويق في شركة غوغل في الشرق الأوسط وائل غنيم، الذي بكى بمصره، في مصره، على مصره، وأبكى الملايين في الداخل والخارج معه، حين قال مصر كثيرة في كلامٍ قليل، و”نحن كثيرة”، بلا “أنا وأخواتها”.
تذكرت “مصر البكاء” في خطاب غنيم، وأنا استمع إلى “مصر الإنشاء” في خطاب مبارك.
غنيم، المعروف بأنه واحدٌ من أكثر المحسوبين على “العقل المدبر” للثورة المصرية المشتعلة الآن، الذي ترك حرير ملايينه، وبكى لمصر وأبكى المصريين والعالم من حولهم معه، لم يتكلّم بمنطق الرئيس، عن “ذاته في مصر”، وإنما تكلّم عن مصر في مصر، وعن مصر لمصر: تكلّم في مصر، ولمصر، وعن حرية مصر، وحقوق وواجبات مصر، ومستقبل مصر، وشباب مصر.
لم يتكلم غنيم عن “أنا”ه، كالرئيس، ولم يتذكر شهداء الثورة، ب”ذاكرةٍ مثقوبة” كالرئيس، ولم يسرد للمصريين تاريخه “الوطني” كالرئيس، ولم يمدح ببطولاته كالرئيس، ولم يدخل في تفاصيل “فتوحاته الوطنية” كالرئيس، ولم يلقِ على مصر وأهلها دروساً في حبّ الوطن والوطنية كالرئيس، ولم يتهم أحداً لا من “الخارج العدو”، ولا من الداخل الصديق، بصناعة الفتنة بين المصريين كالرئيس، ولم يهدد ويتوعد أحداً، لا من قريب ولا من بعيد كالرئيس.
غنيم، قال: “والله العظيم دي مش غلطتنا دي غلطة كل واحد متشبت في الكرسي ومش عايز يسيبه”.
وقال: “خطفي جريمة واذا كان لا بد من ان اعتقل يجب ان يكون حسب القانون(…) لست ارهابيا ولا مهرب مخدرات حتى يطبق علي قانون الطوارئ”.
وقال: “انه موسم التخوين. كان الضباط الذين يحققون معي لا يصدقون انني اتصرف بمبادرة شخصية مني مع زملاء لي مثلي. انا متهم بتنفيذ اجندات خارجية، قالوا عني انني خائن ثم غيروا رأيهم (…) واجندتنا هي حبنا لبلدنا”.
وقال: “وزير الداخلية كلمني من دون ان يعتقد بانني تافه وضعيف، بل كان متأكدا انني شخص قوي والفضل لشبان الميدان، وهم ايضا الذين جعلوا حسام بدراوي يوصلني الى منزلي”. النظام يملك منظومة لاعدام كرامة المصريين”.
وقال: “لست بطلا، انتم الابطال ، انتم الذين بقيتم هنا في الميدان(…) انا لست بطلا، انا كنت وراء حاسوبي فقط انا مناضل الكيبورد. الابطال هم الذين نزلوا واستشهدوا في شوارع مصر”. وقال: “الوقت ليس وقت تصفية الحسابات. وقد اكون راغبا باخذ حقي من اناس كثر، الا ان الوقت ليس لتصفية الحسابات ولا لتقسيم الكعكة ولا لفرض الايديولوجيات (…)انه وقت المطالبة بالحقوق”(أ ف ب: 08.02.11).
هذا هو بعضٌ مما قاله غنيم، من بكاءٍ في مصر، ومن مصر إلى مصر.
كلّ ما فعله غنيم، هو أنه قال بكاءه في مصر، وعن مصر، ولمصر، ومشى: “أنا عايز أمشي”!
ربما هذا هو الفارق الكبير بين مصرين؛ مصر مضت، وآخرى قادمة: مصر أراد لها مبارك، طيلة ثلاثين سنةٍ من الديكتاتورية أن تكون، ومصر يريد لها غنيم ورفاقه من الشباب المصري، الآن، أن تكون.
الفارق الأساس، بين هاتين ال”مصرين”، هو كالفارق بين غنيم الذي قاد ثورةً ك”مناضل كيبورد”، من وراء حاسوبه، ولا يريد من مصر إلا مصر، و”عايز يمشي”، وبين مبارك الذي يقود مصر طيلة ثلاثين سنةٍ من الديكتاتورية، من وراء الدبابة والعسكر، لا يريد مصر إلا لنفسه، و”مش عايز يمشي”.
أنه الفرقٌ بين عقلين أو ثقافتين: ثقافة مفتوحة تمشي، وأخرى مغلقة واقفة لا تتحرك؛ ثقافة ال”عايز يمشي ويترك الآخرين يمشون لمصيرهم”، وثقافة ال”مش عايز يمشي ، ولا يترك الآخرين يمشون لمصيرهم”.