ثورة مصر

محاربـو «الفيـس بـوك» يواجهـون الهجانـة

خيري الذهبي
في رواية عبد الرحمن الشرقاوي الشهيرة «الأرض» فصل يرينا الضربة الأخيرة لقوى القمع الملكية في مصر حين تضيق ذرعاً بالثورة الفلاحية ضد مالك الأرض والعمدة والشرطة. فترسل إلى القرية بالقوى الجبارة الحمقاء الجاهلة، قوى الهجانة، وفيها نراهم على ظهور جمالهم وهم يخترقون القرية على حيواناتهم الأسطورية المتعالية عن الناس وبأيديهم سياط مصنوعة من عصب الثور يضربون بها الفلاحين بلا رحمة. والفلاحون لا يحملون سلاحاً إلا الصراخ، أنا مظلوم، أنا جائع، أرضي عطشى، أريد أن أخدم الأرض لأنتج طعامي دون أن يهاجمني اللصوص ويسرقوه أو ينهبوا معظمه. ولكن طلقات الرصاص وضربات السياط الثورية (أي المصنوعة من عصب الثور) تدفعهم إلى أكواخهم وإلى حظر التجول الذي فرض عليهم، وما المقصود من حظر التجول إلا فرط الكتلة وتحويلها إلى أفراد مذعورين يختفون في أكواخهم متخلين عن عظمة الشعب المتحد، راجعين إلى ذعر الجرذان في جحورها.
ما بين عظمة الشعب الثائر المتحد، وذعر الجرذان اللائذة في جحورها، والراضية ببقايا الطعام الملقاة إليها تمنعها من الموت، يمكننا تلخيص تاريخ المجتمعات العربية في النصف الأخير من القرن العشرين، فالجماهير تشتهي ويحق لها أن تعيش مواطنيتها وفرديتها وطموحاتها خارجاً عن كل قبليات أو عقائد مسبقة والقوى القامعة لا تريد لها إلا أن تكون الجرذان المذعورة اللائذة في جحورها، فهي تقمع كل تجمع وتقطع خيوط كل عقد، وعددها الأكبر هو الكتلة.
في هذا الصراع المرعب استخدمت قوى القمع كل سلاح ممكن، بدءاً من سلاح المخابرات المدربة غربياً، المدربة على استخدام أسلحة التجسس على الفرد في مناجاته لأصدقائه وحبيبته، وحتى لنفسه، المدربة على استخدام أسلحة التمزيق لكل كتلة مهما بلغ من ضآلتها وضعفها وصغرها، فهذه الكتلة ستكون، ربما، الخميرة لكتلة أكبر، فأكبر، مما يهدد قوى القمع وتنعمها بثروات المجتمع بلا حدود ولا قوانين ولا رقابة، المدربة على استخدام القناصين كما رأينا وسمعنا في مصر وبلطجيتها الواقفين على كوبري ستة أكتوبر يطلون في تعال على المتظاهرين المسالمين ويطلقون عليهم النار وقنابل المولوتوف التي اخترعت أصلاً لمقاومة الضعفاء للأقوياء، فهل ظن البلطجية أنهم الضعفاء وأن كتلة الجماهير هي الأقوى فلجأوا إلى المولوتوف والحجارة اليدوية، وإلى السيارات الشرطية المدرعة، فهاجموا بها مشاة المتظاهرين، يدوسون ويقتلون، أو يجرحون. وأخيراً، وحين يئسوا من القضاء على هذه الكتلة المتماوجة بلا رأس إلا الرغبة في الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، حار القناصة، فليس من رأس تقتله أو تعتقله، فتقضي على التمرد ، فكانوا كمن يضرب على الحوت العملاق برصاص من دبابيس لا تؤثر على الجسم المليوني الهائل، وعندئذ بدا العقل المفكر يراجع نفسه: من هؤلاء الناس؟ وكان هذا هو السؤال الأشد غرابة في تاريخ الصراع بين الجماهير والقوى الحاكمة. إنه يتساءل صادقاً: من هؤلاء الناس؟ من أين خرجوا. من صنع أفكارهم، كيف استطاعوا التسلح عبر شرطة الأفكاء، كيف صنعوا كل هذا الغضب، بل كيف جمعوه في ما بينهم ليتحول إلى ثورة.
الغضب
هذه الأسئلة كان لا بد أن تسأل، فذلك الغضب الذي هاج في الجماهير قبل نصف قرن، وأنا أتكلم الآن عن العالم العربي ككل، هاج يعلن غضبه على البورجوازيات التي حكمت الوطن العربي، البورجوازيات التي جعلت من البورجوازيات الغربية مثالاً وهدفاً تريد الوصول بالأوطان العربية إليه، ولكن العسكر والجماهير الضالة المضللة بأيديولوجيات كانت لا تزال تعيش الغضب على الاستعمار، فرأت أن كل ما ترك الاستعمار شر، ولنذكر المثال المتطرف في سوريا لأولئك الذين أحرقوا الكتب الفرنسية غداة خروج المحتل الفرنسي من سوريا. هذا الإحراق الطفلي الغاضب تحول إلى إحراق للأنظمة البورجوازية التي حكمت العالم العربي بعد خروج الاستعمار. وكانت القوى المنظمة الوحيدة في الوطن العربي بعد تجريم الأحزاب (البورجوازية) السابقة هي الجيوش والعقداء الجدد الذين سيصبحون جنرالات.
تلفت هؤلاء العسكر من حولهم وقد استلموا للمرة الأولى في تاريخ المنطقة حكم بلادهم منذ قرون كان الحكم فيها للمماليك وللولاة العثمانيين، وكانوا قد رفضوا البورجوازيات الغربية ورفضوا الأفكار الشيوعية والحلول الشيوعية للحكم، فقد أعلنوا الشعار الشهير لا شرقية ولا غربية. وماذا بعد.
بحث العسكر عن أب سياسي يلجأون إليه مستشيرين كما يفعل أي إنسان عند مجابهته معضلة ما، فهو يلجأ إلى أبيه الحي إن وجد، أو إلى أبيه المعرفي إن وجد، وكان الأب جاهزاً مجوداً، إنه الأب المملوكي الذي اتفق الجميع عليه، الشعب غير المسيس، والذي اعتاد الشكل المملوكي للحكم، والحكام أنصاف المتعلمين فكل ثقافتهم لم تتجاوز البكالوريا التي حملتهم إلى الكليات العسكرية.
وجدوا الأب المملوكي الذي كان شعاره الدائم كل شيء للسلطان، وكل ما يعطيه للشعب فهو عطية مشكورة، فكان السلطان المملوكي يملك الأرض وما عليها، يملك المناجم، ويملك المصانع، ويملك المرافئ، ويملك قوة العمل لدى الناس (السخرة).
أمام هذا الكنز الذي وجده الحاكم العسكري ابن المملوك وقف مرعوباً، فرائحة الموتي كانت أكبر من الاحتمال، فاستعار من الأنظمة الشيوعية عطرها، استعار مفهوم التأميم ليخفي رائحة الموت المملوكية، وهكذا جعل ما يملكه الشعب ملكاً للأمة. ومندوب الأمة هو الحكومة وسيد الحكومة هو الحاكم. ولنذكر أن المؤمم الاول كان محمد علي باشا الذي كان الزارع الوحيد في مصر، والصناعي الوحيد في مصر والتاجر الوحيد في مصر، الخ.
الموعود
وكانت الخلطة ما بين التأميم الشيوعي والمملوكية والتي كان المانيفستو السياسي الأول والأكبر والوحيد لها هو سيرة الملك الظاهر، والذي نرى في السيرة أن الأمة كلها كانت تخبئ ثرواتها منذ بداية الخلق، ثم تدفنها وتضع عليها الطلاسم السحرية حتى لا يصل إليها إلا الموعود، ومن الموعود؟ إنه الملك الظاهر. ونجد أن الصناعات والزراعات ورسوم الجمارك كلها كانت بين أيدي مرتشين فاسدين، ومن ينقذ هذه الثروات من أيدي الفاسدين، إنه الملك الظاهر حين يصبح المشرف عليها. بل هذا هو الأشد إرعاباً حين يرفض فلاح مصري سائس أن يخدم كسائس عند بيبرس فيحاول بيبرس الذي سيصبح الملك الظاهر إجباره، فيهرب إلى ضريح السيدة نفيسة فيلحق به بيبرس إلى الضريح ويسقط عليهما نوم أشبه بالإغماء ـ ألا يذكرنا هذا بالأساطير الإغريقية حين تتجلى أثينا الإلهة لعابديها وتقدم النصائح، في النوم الإغماء عند ضريح السيدة نفيسة تتجلى السيدة نفيسة لهما فتأمر الفلاح، السائس بالطاعة والانصياع، وتأمر لبيبرس بالرحمة.
هذا الأمر سيصبح القاعدة السياسية للعلاقة بين الحاكم المملوكي والشعب، فللشعب الطاعة ولا شيء إلا الطاعة، وللحاكم الرحمة، والرحمة خيار يمكن أن يقوم به الحاكم، وله خيار الكيفية.
هذه السيرة المانيفستو كانت كتاب كل بيت، وكل حكواتي، وكل حاكم مر على المنطقة منذ بدايات المماليك وحتى اليوم. كل شيء للسلطان، وليس للشعب إلا الرحمة الاختيارية.
ومن العجيب أن اللغة العربية تساعد الحاكم على هذا، فليس في اللغة العربية كلمة واحدة عن علاقة الحاكم بالمحكوم، فليس لدينا عقد اجتماعي كما لدى الفرنسيين وليس لدينا ماغناكارتا كما لدى الانكليز، وليس لدينا كونستتيوشن كما لدى الأميركيين، وكل ما لدينا هو كلمتا الدين والشريعة. وهما كلمتان كما يقول الفقهاء حمالتا أوجه، أي يمكنك تطويعهما كما تشاء لخدمة السلطان.
السلطان العربي النائم على الوصايا المملوكية استيقظ فجأة في تونس وفي مصر في هؤلاء الشبان الذين لم يقرأوا سيرة الملك الظاهر، بل قرأوا ما يكتب على صفحات الانترنت، وعلى صفحات الفيس بوك والتويتر، وصفحات التشاتينغ. وهكذا استفاق على وجه للصراع جديد.
والصراع الذي يجري الآن في مصر وتونس واليمن والجزائر صريحاً، وفي بلدان أخرى خفية وعلى استحياء هو صراع بين حكومات مستحاثية في علاقاتها بشعوبها وبين شعوب دخلت العصر عبر الانترنت وأنظمة التواصل التي تحدثنا عنها والتي لن يستطيع الحاكم المملوكي حجبها وإيقافها، فالعالم يتحول إلى قرية صغيرة محكمة الشبكة العنكبوتية.
وما نزول الإبل والهجانة إلى ميدان التحرير ليجابهوا مقاتلي الفيس بوك والتويتر إلا التعبير الصريح عن هذا الصراع القائم الآن في العالم العربي بين قوى مستحاثية لم يعد لها من وجود إلا في هذا الجزء التعيس من العالم والمسمى بالعالم العربي، وقوى مسلحة بالمعرفة والتكنولوجيا والوطنية المطالبة بالديموقراطية وحقوق الإنسان، والمراقب يستطيع بسهولة رؤية من سينتصر في هذه الحرب وميدان المعركة في المكان الذي يحمل الاسم الرمزي الرائع، ميدان التحرير.
(كاتب سوري)
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى