ثورة مصر

نظـــرة ثانيـــة

عباس بيضون
ظهر الرئيس مبارك مرتين. لقد استفاد من تجربة بن علي أن كل ظهور جديد يعني تنازلات أخرى هكذا ترك نائبه ينهي مسألة التوريث وترك الحزب الوطني ينهي موقع ابنه جمال في لجنة السياسات، اقترن هذا الخبر بشائعة استقالته هو من رئاسة الحزب، لكن الفقهاء قالوا إذا كان استقال فمن يعفي الابن من منصبه في الحزب. إنه لا يزال الرئيس ووضع على عاتقه تلك المهمة المحزنة: إقالة ابنه مع انه قبيل أشهر سمح بتزوير علني ومكشوف للانتخابات البرلمانية، ما جعل ابنه الوحيد الذي يحوز شروط الترشيح للانتخابات الرئاسية. والحقيقة أن عمليات التزوير كانت دائماً علنية ومكشوفة: يسجن الخصوم ويتعرّضون على أبواب مراكز الاقتراع لهراوات الحثالة المستأجرة ويُحال بينهم وبين الاقتراع. هذه المرة كانت النتيجة صفراً تقريباً للمعارضة واقتضى ذلك أن يكون التزوير العلني أشدّ. قبل الرئيس هذه المرة تقريباً مطالب المنتفضين ووعد بالرحيل في نهاية مدته، بعد خطابه هذا قامت تظاهرات مؤيدة له لكن جزءاً منها انفصل بجماله وخيله وسكاكينه وأغار على ميدان التحرير وكانت الحصيلة 12 قتيلاً، وقف الجيش بين المنتفضين وموالي الرئيس ولا يزال واقفاً مع أنه بعد انفراط البوليس وانتفاضة الشارع هو القوة الوحيدة الباقية التي يؤمل أن تتدخل لتعيد الأمور إلى نصابها. ناشد الجميع الجيش لكن الرئيس فريق ورئيس وزرائه فريق ونائبه لواء. الجيش في السلطة ولا يبدو انه سينقلب على نفسه، لقد وصلت الأوضاع إلى نقطة باردة، التظاهرات ولو استقطبت جماهير إضافية لم تعد فعالة، انها باقية في الشارع لكي لا ينقلب الرئيس على وعوده، أزمة ثقة كما يقال دائماً بهذا الصدد. لكن الواضح أن الرئيس استفرغ ما عنده ولن يعود إلى التلفزيون ولن يرحل قبل نهاية مدته في أيلول. الجيش هو على خط التماس بين الفريقين. وشيئاً فشيئاً أضحى تدخله الأساس حفظ التوازن بينهما ولا يبدو أنه ينيط بنفسه مهمة أخرى. إنه يقف الآن بين الرئيس الراحل ومعارضيه أو بكلمة أخرى. يحمي المتظاهرين من تعديات «البلطجية» الذين يتذرعون بتأييد مبارك، هذه الحماية هي تطور حقيقي لموقف الجيش وان لم يبد الأمر لأول وهلة كذلك، فالجيش في البدء ترك «البلطجية» تعمل قتلاً وضرباً بمعتصمي ميدان التحرير. الآن يبعدها عنهم.
في معرض تقييم ما جرى لا بدّ أن نشير إلى نقاط ايجابية، التقاء المتظاهرين رغم عفوية تحركهم على مطلب واحد «رحيل الرئيس وزمرته»، انسحاب الشرطة من الشوارع والإقرار بمشروعية التحرك. تضخم التحرك المتزايد واعتراف نائب الرئيس ورئيس الوزراء والرئيس نفسه بمشروعية مطالبه، هذا إنجاز بدون شك وإنجاز مهم فهو يفتح الطريق لمستقبل ديموقراطي.
بقاء التحرك أياماً في حال من المراوحة ينهك صبر الجميع الذين يتعجلون رحيل الرئيس. رهانهم الأساسي هو على الجيش وهم ينتظرون منه حراكاً أسرع. انتقاله من حياد سلبي إلى إيجابي لا يكفيهم، انهم يريدونه أن يخذل الرئيس وينقلب عليه. علينا أن لا ننسى أن تمرد الجيش 1952 كان الأول والأخير في تاريخ مصر. فمنذ قرابة 60 عاماً يلزم الجيش جانب الشرعية ويدافع خصوصاً عن الرئيس. نذكر أن الجيش محض السادات تأييده رغم أن خصومه كانوا أركان النظام. يملك الجيش المصري هذا التقليد الذي يجعله حراكه السياسي بطيئاً جداً. هذا البطء وإن أثار حفيظة المتعجلين ليس سيئاً، إن وجود تقاليد تحدّد مسار الجيش أمر إيجابي، وهو بالطبع اسلم بكثير من خفة تجعل الجيش يتسلق على السلطة لدى أي ظرف. ثم أن تقاليد سلطة من هذا النوع تخدم قيام الدولة وإعادة تشييدها وإذا كانت الدولة المصرية طيّعة للرئيس الأمر الذي يسهل قيام حكم عائلي فإن التعديلات الدستورية التي أوكلت إلى لجنة من القضاة ستتجه غالباً إلى تضييق صلاحيات الرئيس وحصرها. قد يبلغ التعجل ونفاد الصبر مداهما لدى المتظاهرين ولدى المتابعين، إلا أن ليس من الصواب القول بأن الانتفاضة لم تحقق شيئاً فالإصلاحات الدستورية قاعدة ضرورية لقيام دولة وتحريرها من اختراق العصبيات والمصالح العائلية والشللية، ثم أن من غير الصواب عدم رؤية ما حققته الانتفاضة، لقد وضعت حداً للتوريث وفتحت الباب للإصلاح السياسي وحررت الجمهور من سكونيته وامتثاله السياسي وجعلت المستقبل الديموقراطي مؤكداً، وبالعكس من كل ما يتبادر لأول وهلة فإن ليس في استطاعة فورة عفوية أن تكون أكثر وعياً وتحديداً وإنجازاً مما كانته الانتفاضة المصرية.
الانتفاضة المصرية أنجزت في أيام قليلة رحيل الأسرة الحاكمة (لا ننسى أن التوريث كان حتى هذه اللحظة احتمالاً مؤكداً وتغييراً بنيوياً في هيكلية النظام، وتحريراً له من طابعه الشمولي، فالحزب الآن غير الدولة والدولة ستلعب من الآن فصاعداً دور الحكم ستكون هذا بدون شك إصلاحاً بنيوياً وخطوة على طريق إنشاء دولة حديثة.
ثم ان البطء الذي يثير ضيق المتظاهرين والمتابعين هو أن الدولة البيروقراطية التي هي الدولة المصرية لا تقدر على حركة سريعة. إذا علمنا أن الشرطة تتجاوز المليون ومئتي ألفاً أدركنا كيف يكون حراك الدولة إذا انسحب هذا العدد من الشوارع ولم يعد ممكناً جمعه وإعادة توجيهه. مليون ومئتا ألف شرطي ليسوا كل شيء. يمكننا أن نلاحظ هنا تضخم دولة تجعل أجزاءها قليلة المبادرة بطيئة الحراك. سنجد بالعكس في سلوك نائب الرئيس ورئيس الوزراء سرعة يقتضيها الظرف. ليس من المعتاد في نظام كهذا إنشاء ثلاث لجان من بينها اللجنة الدستورية ولجنة تقصي الحقائق عن الحوادث الأخيرة وهذه لجنة قانونية على أن تقدم اللجان تقاريرها في ظرف أسابيع قليلة وحتى نهاية شهر شباط. لنقل إن هذا حال تنفيذها يعني بدرجة أولى مراجعة كاملة لأسس النظام ومحاسبة مماثلة عن الحوادث الأخيرة. نحن هنا أمام نقد هيكلي لبنية النظام ومحاكمة للدولة على إجرام أودى بالمئات وأفلت القتلة والسفاحين على الناس.
يمكن أننا ما زلنا في معرض التقييم أن نثمن سلوك المتظاهرين السلمي والحر. أن نثمن مثابرتهم وإصرارهم ووعيهم الذي سهّل رغم تفرقهم واختلاف مصادرهم الإجماع على برنامج مطلبي، كما وسهّل الوصول إلى مكتب تنفيذي للتحرك، أن نثمّن سلميتهم، رغم الاستفزازات الكثيرة والمتوحشة، أن نثمّن قدرتهم على إخفاء هوياتهم الحزبية وطيّها والسير تحت شعارات موحدة وعلم واحد. أن نثمّن تسامحهم الديني الذي سمح بقيام صلاة وقداس متجاورين، أن نثمّن روحهم الشابة الميالة للمرح والترفيه بدون أن تكون السياسة انتظاماً عسكرياً وشعاراتية وجدية مبالغة. أن نثمن تنظيمهم ويمكن مع ذلك أن نحذر من سعي تنظيم راسخ وقديم لتنظيم الإخوان المسلمين إلى الانفراد بالتحرك وركوبه، لا بد ان للإخوان المسلمين حقاً في الوجود والتحرك، لكن في إطار ديموقراطي للجميع، لكن ما يخيف هو أن ينتهي التحرك إلى نظام شمولي والى عقائدية أحادية والى دولة حزبية أي أن هذا لا يعني سوى الأسوأ، لكن مهما كان فإن ما جرى رائع، لقد طرحت الديموقراطية لأول مرة كفاية جماهيرية، لقد ثارت جماهير لأول مرة في سبيلها، لقد قامت انتفاضة ضد مهزلة «التوريث» الشائعة التي تختصر كل بؤسنا السياسي. تختصر تقريباً عارنا الموروث. وأياً كانت النتائج فإن الفجر قد بدأ.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى