ثورة مصر

إنها لحظة مسؤولية النخب المصرية

جهاد الزين
مع الاعلان عن تنحي الرئيس محمد حسني مبارك مساء امس، انتهت “اللحظة” التي استغرقت مصر والعالم العربي بل اجزاء واسعة من العالم مدة ثمانية عشر يوما كان “الحاضر” فيها هو مركز الفعل والتفكير… وبات بالامكان، بل بات من الضروري – حتى مع وجود مرحلة انتقالية بقيادة عسكرية – طرح كل انواع الاسئلة المستقبلية لحدث، ايا تكن نتائجه، لا عودة الى ما قبله في مصر والمنطقة بل واوسع كثيرا.
احد الاسئلة الاساسية يتعلق بالنخب السياسية المصرية وامكاناتها ومشاكلها.
لماذا النخب تحديدا؟
صحيح ان مصر كانت ولا تزال من الدول ذات تاريخ وحاضر يتميزان بصورة خاصة بثقل القضية الاجتماعية فيها، ليس فقط بسبب الكثافة الديموغرافية وانما اساسا بسبب الارتفاع التقليدي لنسب الفقر والامية. فهذه الملايين، بل عشرات الملايين كانت مادة تحولات سياسية – اقتصادية لاختبارات اجيال سلطوية متعددة في القرن العشرين انتهت بالاختبار الاخير في العقدين المنصرمين، ضمن موجة عالمية من المتغيرات، وهو اختبار “التنمية” بمفاهيم وقوى ومصالح اقتصاد السوق ورأسماليته. لكن – كما في بلدان عديدة – فقد كان هذا الصراع على شكل النظام السياسي – الاقتصادي بين النخب المصرية.
واذا كانت نخبة مدنية وطنية نشأت في ظل الاحتلال البريطاني قد سيطرت على الحياة السياسية (التعددية) بعد العام 1919، ونخبة عسكرية ذات ميول قومية – يسارية قد فرضت رؤيتها على الواقع المصري بعد 1952 بوحدانية سياسية وبنية اشتراكية، فان السبعينات شهدت بداية تحول لاضعاف دور القطاع العام انتهى في التسعينات الى اطلاق يد “رجال الاعمال” في اعادة ليس فقط صياغة الاقتصاد وانما السلطة السياسية نفسها التي كانت تتوارث منذ 1952 نوعا من “استابلشمنت” اجتماعي عسكري لمرافق الدولة.
الانتفاضة التي انفجرت في 25 كانون الثاني 2011، يجب ان لا ننسى ان من اطلقتها هي نخبة من شباب الطبقة الوسطى وشرائحها الاكثر يسرا.
انها في الآليات الداخلية نخبة قدرها البعض في البداية في القاهرة بحوالى ستين الف شاب من المتمكنين من وسائل اتصال الانترنت، التحقت بها جموع شعبية من مختلف الطبقات وبالملايين في العاصمة ومدن المحافظات.
انها اذن النخبة الجديدة، المتحالفة مع نخب اكبر عمرا واكثر تجربة سياسية من اليساريين والليبراليين والاسلاميين، نخب اكثر اختبارا لمعاناة منع التناوب على السلطة، هذا المنع الذي كان النظام السياسي يحاول ان يعوضه بنوع جدي من “ديموقراطية حرية التعبير”.
السؤال الكبير الابعد مدى: هل تستطيع هذه النخب الجديدة والقديمة، ان تصنع نظاما سياسيا برلمانيا مستقرا من التناوب على السلطة؟ هل ستتجاوز تجربة ما قبل العام 1952 التي تحولت فيها الليبرالية السياسية (وعصرها الذهبي من الليبرالية الثقافية) الى نوع من الفوضى السياسية والامنية، وخصوصا في الاربعينات، فقدت قدرتها، مع اندلاع الازمة الوطنية في المنطقة الممثلة بالقضية الفلسطينية، على طاقة الاحتفاظ بتماسكها وقابليتها للتجديد الاقتصادي – الاجتماعي؟
لا شك ان نخب انتفاضة 2011 تحمل معها نضجا فكريا – واذا جاز لي القول “تاريخيا” – بعد الاحباطات العميقة الوطنية والديموقراطية التي تعرضت لها في القرن المنصرم. ولكن هذا النضج يتيح لهذه النخب ان تبني – بالتفاهم مع المؤسسة العسكرية – وبشكل تدريجي نوعا من ديموقراطية يحميها – ولا يديرها – الجيش. بهذا المعنى ستكون هذه النخب امام تحدي الانتقال المباشر الى “النموذج التركي” الراهن – والمحفوف بالمخاطر – حيث الجيش قوة الدولة الثابتة ولكن خارج الصراع على السلطة. انما علينا هنا ان لا ننسى ان هذا التوصيف هو توصيف المرحلة الثانية وغير المكتملة من “النموذج التركي” الصاعد بعد عقود من تأسيس المرحلة الاولى التي “ادار” فيها الجيش ديموقراطية تعددية ذات مشروع تحديث اقتصادي.
انتفاضة 2011 المصرية تضع مصر امام خيارين لا ثالث لهما: حماية الجيش لديموقراطية برلمانية… او الفوضى؟
وهذا يجعل الامتحان المستقبلي الاعمق الآتي في مصر ليس للمؤسسة العسكرية وانما للنخب السياسية المدنية… على تنوعها.
السؤال الآخر – بين العديد من الاسئلة – ينطلق من ملاحظة ان هذه الانتفاضة على الرغم من حيويتها السياسية وشعاراتها الاجتماعية لم تحمل افكارا – حتى لا اقول اتجاها اقتصاديا – لحل مشاكل مصر الثمانين مليون مواطن. اعني هنا انه بقدر ما كانت شعارات الانتفاضة السياسية عبر وفي ميدان التحرير تعبر عن “وجهة” سياسية شبه موحدة رغم عدم وجود برنامج دقيق. وجهة هي حصيلة افكار قيام دستور جديد لنظام برلماني يحترم حقوق المواطن في التعبير عن رأيه ولا سيما عن حق الانتخاب. كانت تلك “ثقافة” الانتفاضة السياسية. وهي موحدة وموحدة (بفتح الحاء الاولى وكسر الثانية). بينما لا اتجاه واضح في المجال الاقتصادي حتى لو ارتفعت شعارات ضد البطالة والفساد ونموذج معين لـ”رجال الاعمال”. لكن مكافحة الفساد وحدها لا تبني او لا تكفي لبناء برنامج اقتصادي. فأي اتجاه سيسلكه النظام البرلماني المقبل – ولو في ظل رئيس قوي منتخب -؟ هل سيكون في اعادة بناء نوع من “دولة الرعاية” او في اطلاق “رأسمالية اجتماعية” مسؤولة تقودها الدولة او… تعزيز اقتصاد السوق؟
النخب المصرية التي صنعت – وتدخل الآن – عصرا جديدا ستواجه عمليا عبر هذا النوع من الاسئلة اختبارا سبق ان سقطت فيه سقوطا ذريعا نخب عربية اتيح لها مجال البناء الديموقراطي كما في السودان قبل 1969 ولبنان قبل 1975 وربما في العراق حاليا… او نجحت فيه نخب بلدان اخرى في اوروبا الوسطى واميركا اللاتينية؟
هذا بعض الاسئلة الداخلية… فكيف ايضا باسئلة السياسة الاقليمية والخارجية.
هنا مرة اخرى يستطيع المراقب ان يقول كما كان ظاهرا في ايام الانتفاضة الاولى ان هذا التحول رغم انه اساسا حدث داخلي بامتياز، اي انه ثورة ديموقراطية فأي نظام قادم في مصر لن يكون قادرا – ولا راغبا – بتكرار السياسات الخارجية نفسها، سوى قطعا للالتزام الاكيد بمعاهدة كامب ديفيد كالتزام للدولة المصرية.
لكن – وفي مجال اللاعودة – لا شك ان هذه الانتفاضة تحمل “لغزاً” مكشوفا: اعادة نظر عميقة بسياسة خارجية في ثورة داخلية لم ترفع شعارا خارجيا واحداً!!
وهذا ايضا حاليا… جزء من “جاذبية” النخب المصرية… لكن الامتحان الابعد ماثل دائما.
جهاد الزين
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى