ثورة مصر

الموت المعلن في الميدان

null
عماد فؤاد()
لم أتخيّل قط أنّ مصر التي خبرتها طويلاً، ستفعل كل هذا في أيام معدودات، أنا السّائر أبداً في الظّل، الذي تربّيت على الخوف من أي زيّ رسميّ لرجل شرطة يعبر في الجوار، المؤدّب حين يوقفونني للتفتيش في “الأكمنة” ونقط المراقبة، المتسامح حين يضعون أيديهم في جيوبي ويفرغونها مما فيها ليستولوا عليها، العفوُّ حين ترنّ كفوفهم الثّقيلة على صدغيّ، الخانع وهم يكيلون شتائمهم لي قبل أن يدفعوني في كتفي وكأنّهم يتخلّصون من حشرة مزعجة، فهكذا تربّيت؛ أن أخاف، وأن أُطأطئ الرّأس أمام رجل الشّرطة صغيراً كان أم كبيراً، وألا أضع كلمة “حقوقي” في قاموسي اليوميّ مخافة صفعة من هنا، أو ليلة حبس من هناك.
في مصر، لم أعرف معنى أن أكون آدمياً، تربّيت على الـ “الرّضا بالمقسوم عبادة”، و”أنت فاكر نفسك إيه؟”، و”تعال يا روح أمّك”، و”اللي ما ربّتهوش أمّه، تربّيه الحكومة”، كنت كي أخرج صباحاً من بيتي الكائن في عشوائيات حي شبرا الخيمة ذاهباً إلى عملي بشارع الصحافة بوسط القاهرة، أمرّ على خمس نقاط تفتيش للشّرطة، إن لم يتم إيقافي في واحدة منها، سيوقفونني في التي تليها، وإن عاملني شرطيّ باحترام في إحداها، فالأمر ليس مضموناً في الأخرى.
منذ يوم 25 يناير الماضي، لم يعد للزمن بالنسبة لي معنى، نسيت ضباب المدينة الأوروبية التي أحيا فيها، نسيت رمادية الروتين اليوميّ، وحالة البرد الصقيعي المعتادة في مثل هذا الوقت من العام. المساءات والنهارات تساوت على خط استواء واحد هو “ميدان التحرير”، الجلوس لساعات طويلة أمام شاشات القنوات الأجنبية ومتابعة وكالات الأنباء العالمية على شبكة الإنترنت، تسقّط نتف الأخبار من هنا وهناك، ومحاولات فاشلة في الأغلب ـ للاتصال بالأهل والأصدقاء في القاهرة. كل الأشياء والأحداث أصبحت تختلط وتمتزج مع بعضها البعض، لأشعر في النهاية أنّ صرختي التي تمور في صدري، وجدت حناجر أخرى تطلقها أنصع وأقوى وأكثر غضباً مما لو فعلت، حناجر لناس يخبّئون وجوههم تحت سيول الحجارة وضربات العصيّ وقنابل المولوتوف وهم يستمرون في التقدم، الرصاص الحي يئزّ فوق رؤوسهم وهم يستهينون به، صرختي وحدها صارت تنتقل من حنجرة إلى أخرى، وسط كل هؤلاء المتجمّهرين في هذا الميدان الذي شهد تشكّلنا جميعاً على مقربة منه، لأكتشف اليوم أنه لم يزل قادراً على إثرائنا بروح جديدة، لم نكن نعرف عنها شيئاً.
الموت المعلن في ميدان التحرير، الهراوات والسيوف والخناجر التي تضرب العزل في صور تبث علانية إلى العالم، الدم الداكن الذي يسيل من جباه ووجوه شبان وفتيات صدّقوا يوماً أنهم بشر، ودافعوا عن كونهم بشراً بكلمة “لا”: “من قال لا، في وجه من قالوا نعم”، صرخة أمل ارتفعت سنة 1977، واليوم، تعاد الصورة ذاتها بلا نقصان، في الميدان ذاته، الساحة نفسها، الدم نفسه، شباب حر قال “لا” بصدور عارية، فواجهوا الرصاص الحيّ والبلطجة المعلنة و”على عينك يا تاجر”، ما كان يفعله زبانية النظام الديكتاتوري بين أربعة حيطان من تعذيب وترهيب وإهانة واستبداد، صار يحدث في الشوارع، وعلى الملأ؛ رصاصات حية يطلقها قناص مصري يختبئ فوق سطح بناية، قنابل مسيلة للدموع انتهت مدة صلاحيتها فصارت سامة لمن يتنشقها، هراوات مكهربة، مأجورون وبلطجية تم تأجيرهم بدءاً من 25 جنيهاً وحتى 5000 آلاف جنيه لأجل أن يهاجموا المتظاهرين ويذبحوهم من الوريد إلى الوريد، ولماذا؟ لأنهم قالوا “لا”، واضحة، وصريحة، عفوية، وصادقة، واعتصموا بميدان التحرير، يغنّون ويهتفون للحرية البعيدة.
بعد كل الدّم الذي أريق، بعد كل الجثث التي سُحلت في الشوارع والميادين، وبعد حرب الشوارع الباسلة التي خاضتها مدن السويس والإسماعيلية والإسكندرية وغيرها، بعد قتل العزل، وسحل زهرة شباب مصر، بعد الخيانة والتآمر من كلاب النظام الحاكم على كل مصري آمن في بيته، على مصر أن تتغير، وعلى من يرفض هذا التغيير أن يقدّم للمحاكمة، وعلى كل من مدّ يده وصافح يد هذا النظام في أكذوبة تشكيل الحكومة الجديدة أن يحاكم، فهذه المصافحة تقطر دماً وذلاً وانبطاحاً. ما حدث أعاد لنا مصرنا المنهوبة، وصرنا نرفع رؤوسنا عالياً ونحن نرى هؤلاء الشباب تأتلف قلوبهم على محبة مصر واحدة، غير منقوصة، مصر التي لا يتقاسمها اللصوص، التي لم يكن يتوقعها أحد، مصر التي حلمنا بها طويلاً، فكيف يؤّجلون مصرنا، كيف نسمح لهم أصلاً بسجن طيور فرحتنا من جديد.
تعبنا من مصر التي تمشي “جنب الحيط”، تعبنا من مصر “لم نفسك علشان تعيش”، تعبنا من مصر “تراب الميري”، تعبنا من مصر التسلط والظلم والفساد و”تحت الترابيزة”، تعبنا من مصر المداهنة والغش والنفاق والرشوة والمحسوبية والتعريص باسم الوطنية، تعبنا من مصر “الباشا” و”البيه” و”سيادة اللوا” و”المأمور” و”كفّ المخبر”، تعبنا من مصر الجبانة، وها هي الصرخة تأتي من ميدان التحرير، عارية، ومفضوحة:
“مصر يا أمه يا بهية
يا أم طرحة وجلابية…”
ثمّة مصر جديدة تولد يا ناس
نعرف أن الولادة عسيرة
وأن المخاض طويل
لكنها آتية
لا محالة.

() شاعر مصري مقيم في بلجيكا
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى