صفحات الحوار

سيف الرحبي: حنيني إلى طفولتي القاسية موقف من الحداثة المشوّهة!

null
ناظم السيد
بيروت ـ ‘القدس العربي’ من أرض بداوة، من جبال قاسية وصحراء موحشة، من ليل تطيله أصوات الذئاب ونهار تمدده شمس مستبدة، خرج سيف الرحبي إلى العالم. في بلدةِ سرور العُمانية، هذا الشريط من الجبال والرمال والنخيل، شهد الحياة عام 1956. وهناك تعلمَ في الكتاتيب والمساجد على أيدي الشيوخ حين لم يكن في عُمان سوى مدرستين فقط. وهناك أيضاً كان يجلس على جبل يراقب السفن أو قوافل الجمال القادمة من الرُبْعِ الخالي، مفكراً في أصواتها التي تدعوه إلى الرحيل. وكان رحيله الأول مع العائلة إلى مَسقط حيث درس في مدرسة السعيدية. ولم يطل به العيش في العاصمة، إذ غادرها في سنِّ الرابعة عشرة إلى القاهرة حيث أكمل دراسته. في العاصمة المصرية تفتح وعيه السياسي والثقافي والحياتي، مشاركاً في الهيئة الطلابية كعضو في هيئتها الإدارية. ومن القاهرة كان السفر إلى دمشق فبيروت ثم إلى باريس وصوفيا وأمستردام فالمغرب وألمانيا. عشرون سنة أمضاها سيف الرحبي متنقلاً بين العواصم والمدن ليعود عام 1989 إلى عُمان متعباً من الترحال والحنين حيث أسس بعد سنتين مجلة ‘نِزْوى’ الثقافية الفصلية.
الصبيُّ الذي تربى تربية محافظة على يد والد فقيه في الدين وفي بيئة شديدة الانغلاق، والفتى الذي أخذته الماركسية والطموحات السياسية في مطلع شبابه، هجر حياته السابقة إلى الشعر. في دمشق تأكد من قدَره الشعري فنشر أولى مجموعاته عام 1980 بعنوان ‘نورسة الجنون’. بعدها تتالت الدواوين: ‘الجبل الأخضر’، ‘أجراس القطيعة’، ‘رأس المسافر’، ‘مِدْية واحدة لا تكفي لذبح عصفور’، ‘رجل من الرُبْع الخالي’، ‘معجم الجحيم’، ‘يد في آخر العالم’، ‘جبال’، ‘الصيد في الظلام’، ‘الجندي الذي رأى الطائر في نومه’، ‘مقبرة السلالة’، ‘قوس قزح الصحراء’، ‘قطار بُولاق الدَكرور’، ‘سألقي التحية على قراصنة ينتظرون الإعصار’ وغيرها. كما نشر كتابي مقالات هما ‘ذاكرة الشتات’ و’حوار الأمكنة والوجوه’، إضافة إلى سيرة نثرية وشعرية بعنوان ‘منازل الخطوة الأولى’. كتبٌ رحّالة كصاحبها أبصرت النور في دمشق وباريس والدار البيضاء وعَمّان والقاهرة وكولونيا.
لكنَّ الشاعر صاحب النبرة السوداء والهادئة، المبتورة والمتقشفة، ظلَّ رغم سفراته الطويلة والعديدة، وفياً إلى المكان الأول. في شعرِه جبال ونخيل ورمال ووحشة وقسوة وليل وذئاب وصمت قاس وصحراء تمحو خلفها كلَّ أثر.
هنا حوار مع الشاعر في مناسبة صدور آخر كتبه الشعرية ‘نشيد الأعمى’.
السير وراء الأعمى
لنبدأ من ‘نشيد الأعمى’، كتابك الأخير. كلما أصدرت كتاباً جديداً، برز أكثر هذا التأمل والنبرة الخافتة في تجربتك الشعرية. من أين جاءك هذا التأمل؟ هل هو طبيعة خاصة رغم أنك ولدت في وسط بيئة صحراوية قاسية وصاخبة بالرياح والأعاصير والحر والبرد والجفاف، كما أن سيرتك الطفولية نفسها كانت مشاغبة وعنيفة؟ هل هو تقدم في العمر أو في التجربة الشعرية؟
ربما هذا كله. أتصور أن التقدم في الزمن والعمر والتجربة يؤدي إلى مثل هذه المنطقة التأملية التي يراجع فيها الإنسان أشياء كثيرة ومسلمات كثيرة على صعيد اللغة والرؤية والعلاقة بالعالم والمحيط. هذا سياق طبيعي، أن يبدأ المرء حياته بنزق وفوضى ثم ينتقل إلى منطقة أكثر هدوءاً، لا أقول رزانة بل تأملاً في الوجود. طبعاً أزعم هذا لأن الكتابة كما أعتقد لا بد من أن يخترقها هذا النوع من التأمل وإلا تستحيل إلى ركام لغوي ولفظي لا قيمة له. يعني علاقتي بالعالم على الصعيد الشخصي وأيضاً الجماعي، علاقتي بالتاريخ والمرحلة العربية والتي تمثل في هذه اللحظة الراهنة أقسى حالات الانحطاط والفظاظة على صعيد الكلمة، هذه العلاقة متوترة وإقصائية وعدوانية متبادلة بين المشهد القائم وبين الذات الرائية والمتأملة والحزينة والغيورة على هذا الواقع القائم على الصعيد الجمعي. لا أعرف إلى أي مدى تتحقق هذه التأملات على الصعيد الفني أو الإبداعي.
‘نشيد الأعمى’ هو أيضاً حصيلة تجربة طويلة في الأسفار عبر المدن وعبر الثقافات وبين الأصدقاء. كأنك انتهيت من كل هذه التجربة إلى العمى، إلى بصيرة الأعمى. كأنك انتهيت إلى هذه العزلة كما يظهر من خلال هذا النشيد الذي هو حوار الأعمى مع الأعمى، أي مع نفسه؟
بالنسبة إلي، هذا شكل كتابي جديد. هذه الحوارية بين أعميين، الأحرى بين أعمى وظله أو بين أعمى وصداه، هي مونولوغ ذاتي لأعمى يتخبط في متاهة الوجود واللايقين والعنف القائم على الصعيد البشري والتاريخ. ربما تجد أن بعض مجموعاتي الشعرية السابقة مخترقة ببعض المسرحة لكن لم يأت هذا الشكل الكتابي إلا لاحقاً. أذكر أن هذا الشكل جاءني في القاهرة. كنت أصحو صباحاً لأكتب، فجأة كنت أرى النص الشعري الذي بين يدي يتشكل على هيئة حوارية أو مسرحية إذا صحَّ التعبير. رأيت هذا الأعمى ينبثق من السديم ويدخل في سديم الكتابة ويدلف هذا الوجود الصعب والمعقد حول أسئلة المعرفة والوجود والتاريخ والعدم. العدم والعمى يسيطران على هذا النص. الأعمى هنا بلا دليل بلا عصا حتى. يتخبط في ظلام محتدم، وجودي، ظلام المرحلة التي نعيشها، ظلام الكائن البشري الممزق، المتشظي بالحروب والعلاقات الوضيعة. هذا النص بيان احتجاجي من قبل أعمى يتأمل هذا المشهد الفظ المحيط.
على سيرة التاريخ، تبدو مهجوساً بالتاريخ. كتبت تاريخ الإسلام والتاريخ العماني على طريقتك الشعرية، كتبت أيضاً البيئة العمانية الجغرافية والاجتماعية كما في كتابك ‘ظلال’ أو ‘منازل الخطوة الأولى’ وغيرهما. لماذا هذا الهجس بالتاريخ رغم أنك تبدو على قطيعة مع المشهد الثقافي العماني، تبدو ابن نفسك وسط البيئة الشعرية العمانية؟
الكتابة في هذا السياق متورطة بالتاريخ بوعي أو بغير وعي، متورطة بشكل ارتطامي وعنيف. مهما كانت الفردية أو هاجس الفردية والعزلة عن المحيط عن المشهد القائم بتجلياته الاجتماعية والثقافية، تظل الكتابة وسط هذا الأفق الفردي المختلف والمصطدم، تظل متورطة بالتاريخ، التاريخ العماني أو العربي أو البشري عموماً كما هي الحال عندي. الكتابة أيضاً متورطة في المشهد الجغرافي. منذ الطفولة ظلت الطبيعة العمانية بنفسها الملحمي المتشعب والشاسع مسيطرة على مخيلتي ووجداني، لدرجة أنني لم أستطع التخلص منها، ولا أنا رغبت في التخلص منها لما تشكله لي من وقود إبداعي. هنا أستعير جملة لغوته تقول: ‘إذا أردت أن تعرف الشعراء والكتاب فاذهب إلى بلادهم’. أتصور أن هذه المقولة صحيحة في سياق حديثنا. الطبيعة العمانية بجغرافيتها الشاسعة كأنما تشكل ملخصاً جيولوجياً لتاريخ الكوكب الأرضي. وصفتها ذات مرة بأنها مسوّدة الخلق اللاحق. المسودة الأولى للخلق البشري والجغرافي اللاحق. هذه الطبيعة، هذا المتحف الجيولوجي الشرس والجمالي أيضاً، ظللت خاضعاً لسطوته على صعيد الكتابة. الكتابة تحمل في هذا السياق هاجساً وجودياً محتدماً وحاداً. الهاجس الوجودي لدى الشاعر بالذات ليست مرجعياته قرائية وكتبية، بل الجغرافيا هي إحدى هذه المرجعيات. قراءة هذه الجغرافيا تمد صاحبها بأسئلة وهواجس من هذا النوع الذي يتشظى فيه مثل هاجس الموت والحياة والإبداع والقدم والزمن. مثلاً، حين ترى الجبال العمانية لحظة الغروب لا بد من أن تشكل لك سؤالاً وجودياً وجمالياً، سؤالاً عن الموت والحياة العابرة لا تجده في أي كتاب حول الحياة والموت والحب والشيخوخة. هذه الجغرافيا كانت تمدني لحظة استنطاقها من قبل الذات الشاعرة والرائية بأسئلة وهواجس كثيفة.
وريث عبدة الجبال
الملاحظ أنك تنظر بطريقة طقوسية وتعبدية إلى الجبال. والمعروف أن قبيلة الرحبي تنحدر من اليمن حيث كانت الجبال تُعبد هناك في السابق. هل تندرج هذه العبادة الشعرية ضمن تاريخ السلالة التي تهجس بها دائماً والتي كتبت عنها كتاب ‘مقبرة السلالة’ إضافة إلى كتابك ‘جبال’؟
ليس بعيداً أبداً، فنحن استمرار لأسلافنا القريبين والبعيدين، سواء السلف السلالي أم السلف البشري ككل. تعجبني في هذا المجال الرؤية التحليلية ليونغ الذي كان يعتبر أن أحلامنا وهواجسنا هي استمرار لأحلام وهواجس إنسان الكهف. طبعاً، كما ذكرت فإن جزءاً من القبائل العمانية هاجرت من اليمن بعد خراب سد مأرب وسكنت عمان، بقيادة ملك يدعى مالك بن فهم. في المقابل رحلت بعض القبائل كالأزدية إلى العراق وتحديداً البصرة. من هنا قد يكون تعاملي بطريقة لا شعورية بهذا الشكل الطقوسي والابتهالي والتوسلي أمام أي ارتطام بالشقاء القائم في هذه الجبال. هذا التضرع الشعري قد يكون امتداداً لشعائر دينية قديمة.
والشعر هو الدين الأول على الأرض.
بالضبط. فعلاً قرأت أن بعض اليمنيين القدماء كانوا يعبدون الجبال. لكن أتصور أن الجبال العمانية أكثر شراسة وعلواً ورهبة من الجبال اليمنية رغم أنها سلاسل جبلية واحدة متواصلة ومتقطعة.
بهذا المعنى يحضر الماء في شعرك بطريقة طقوسية، هل السبب المنطقة التي تربيت فيها والتي كانت تطل على المحيط، أي مدينة مطرح، حيث كنت تجلس على هضبة تودع السفن، ناهيك عن العمانيين هم أسياد بحار ومنهم ابن ماجد. من جهة أخرى يلعب الماء في هذه الصحراء الجافة حيث ولدت الدور الذي لعبه قديماً أيام الجاهلية: دوراً دينياً واجتماعياً وميثولوجياً؟
لسنا بعيدين عن جوهر السؤال السابق. أجل أظن أن الماء عنصر مكوِّن في قصيدتي. كان البحر غير بعيد عني حيث عشت مراهقتي، وحين كان يظهر لعينيَّ كأنما كان أفق يلوح أمامي، أفق ما بعد الصحراء. أذكر أن السيول في الشتاء كانت تحدث أنهاراً تبقى على مدار العام، بعكس الآن حيث يعمُّ الجفاف في المنطقة. مع ذلك أحس ـ كما ذكرت في السؤال ـ بالجفاف الساحق. هذا الجفاف تستدعي الذاكرة نقيضه، أي الماء. بقدر ما يبدو الماء رمزياً في نصي بقدر ما هو واقعي. يعني أنا على صلة شبه يومية بالبحر. حين أسبح أتخلص من توتر الأعصاب الذي يلازمني. لا أستطيع عيش حياتي اليومية إلا في هذا الطقس المائي. لهذا أنا معجب بالصابئة المندائيين في العراق والذين كان بينهم شعراء مهمون أمثال عبد الرزاق عبد الواحد ولميعة عباس عمارة. يشكل الماء في هذه الديانة عنصراً روحياً مهماً يصل حدَّ التعبد، لدرجة أن أعراسهم تقام في المياه بحسب ما قرأت.
إعادة إنتاج الطلل
إلى أي حد يعيد نصك إنتاج القصيدة التقليدية العربية المملوءة بالجبال والمياه والعطش والأطلال، إنما بمفردات حديثة ورؤية حديثة. هل قصيدتك هي قصيدة طلل تعيد تدوير القصيدة قصيدة الأسلاف؟
سؤال جميل. أرى أن هناك امتداداً للقصيدة العربية، تحديداً قصيدة العصر الجاهلي. لكن الأمر ليس إعادة إنتاج بقدر ما هو تمثل للتراث وفق شروط الحداثة. على كل حال، أنا شديد الإعجاب بالقصيدة الجاهلية، باللحظة الطللية تحديداً. هذه اللحظة تشكلت في القصيدة العربية بطريقة جمالية بلغت ذروة لم تبلغها قصائد ملحمية خالدة في الشعر العالمي. لقد لامس الشعر الجاهلي بطريقة مذهلة مسائل الغياب والزمن والعبور السريع للكائن على الأرض ومحو المكان وعبور الأثر.
عفواً على المقاطعة. أعرف أنك تنسى كثيراً. تنسى أسماء أمكنة وشوارع وأسماء أصدقاء وبيوتاً عشت فيها. كأن الصحراء بما تمثله من محو للأثر تلاحقك دائماً حتى على صعيد الذاكرة. هل هذا نوع من الطلل الموجود في داخلك؟ هل هذا النسيان قاموس شعري آخر لديك بتأثير من المكان الذي عشت فيه؟
ربما كان لاوعيي يمتد إلى ذلك التاريخ القديم بالمعنى الأنتروبولوجي. طبعاً تحضر الصحراء عندي ببعدها الرمزي. مثلاً، الربع الخالي يحضر في شعري بمعناه الجغرافي والدلالي.
وأنت كتبت كتباً مثل ‘رجل من الربع الخالي’ و’قوس قزح الصحراء’.
نعم. الربع الخالي هو هنا الداخل الخاوي أيضاً. ثمة صحراء الجغرافيا وصحراء التاريخ وصحراء الداخل. في كل حال، ربما كانت الصحراء تسحق أشياء كثيرة في الذاكرة. تسحق المحطات في المدن والعلاقات والعواطف. لكن في لحظات الصفاء والتذكر تحضر الأماكن لدي وتحتشد بصورة عدوانية بدل أن تحضر بصورة حنونة. كأنما شتات هذه الأماكن والعناصر والعلاقات تشكل في مرحلة من العمر والزمن هاجس قلق وتدمير أكثر مما هو هاجس رأفة وحنان وإمداد عاطفي. هناك جدل معقد في هذه التذكرات.
جزء كبير من شعرك مبني على الإحساس بالكارثة. على ماذا تؤسس هذا الشعور الكارثي، هذه النبرة السوداء والوحشة الأبدية، على العلاقة المضطربة بالمكان أم على العلاقة الشخصية بالعالم؟
على طبيعة رؤيتي الذاتية للوجود والعالم. هي رؤية ممزقة ومهجوسة دائماً بالعبور والخراب والمشهد القيامي، الذي هو ليس مشهداً شعرياً فقط بل هو مشهد واقعي، ولا سيما في العالم العربي بحروبه الصريحة والمضمرة، المباشرة وغير المباشرة. كل هذه العناصر المتوترة للذات في علاقتها بالعالم إضافة إلى الواقع، تؤسس لهذا الإحساس الذي يقيم على تخوم الكارثة والهاوية إن لم يكن في قلبها تماماً. طبعاً أنا لست مع أدب تسويق الكارثة.
رغم أنك تستمتع بالكارثة في الواقع حتى. أعرف أنك كنت مسروراً بالإعصار الذي ضرب عمان قبل فترة. كنت تجلس في البيت وترقب غليان الطبيعة في الخارج بمتعة.
هناك فرق بين النص القيامي وبين تسويق الكارثة. هذا الأخير هو أدب استهلاكي. حتى الكارثة تصبح مستساغة وتفقد معناها في الثقافة الاستهلاكية. لا أتلذذ طبعاً بالكارثة بل أتأمل فيها. ظواهر الطبيعة المرعبة من أعاصير وزلازل وبراكين وفيضانات قد تشكل نوعاً من الرعب الجمالي. أجواء الأعاصير مثلاً تحرك مخيلتي أكثر من الأجواء الهادئة. أذكر أنني أقمت فترة في لاهاي، على حافة بحر الشمال الهائج والمضطرب باستمرار. كانت الرعود تقصف في الليل لدرجة قيامية لم أشاهد مثيلاً لها. هذه الأجواء تخيف عادة لكنها كانت تشكل لي نوعاً من الراحة والهدوء النفسي والروحي. بالنسبة إلى الإعصار الذي أصاب عمان، فقد أحزنني ما أصاب الناس من خسارة أرواح وخراب لكن كما قلت لك فإن جو الأعاصير محبب عندي.
انتهازية الأنظمة السياسية
تربيت تربية دينية على يد والدك رجل الدين، كما أنك بدأت كتابة الشعر الخليلي وإن لم تنشره في كتابك. لكن تجربتك في قصيدة النثر تبدو تجديفاً متواصلاً ضد تلك التربية وتلك التجربة الشعرية الأولى. كيف قيض لك الانتقال إلى تجربة شعرية حديثة بالمعنى الغربي للكلمة، كما أنها نقيضة للتربية الدينية التي تلقيتها؟
طبعاً أنا كتبت الشعر العمودي بشكل مبكر لدرجة أنني نسيت ما كتبت وقتئذ. من فترة كان هناك أصدقاء يبحثون عن قصائد من أجل بحث أكاديمي، فوجدوا مع شعراء كلاسيكيين أصدقاء لي بعض القصاصات التي تحتوي على قصائد شعرية عمودية كنت كتبتها في تلك الفترة. اطلعت على هذه القصائد، فوجدت أنها رغم عموديتها، كانت تهجس بما كتبت لاحقاً. كانت تلك القصائد أمراً طبيعياً في سياق البيئة التي عشت فيها. وقتها لم تكن تهب على عمان أي رياح أدبية أو ثقافية خارج الإطار التقليدي المتداول عبر قرون. الإرث الديني أو الروحي الذي حملته من تكويني الأول لا يتناقض مع التطور اللاحق أو مع التجارب التي عشتها حياتياً وكتابياً لاحقاً.
أعتقد أن تلك التربية موجودة في المفترقات الدلالية لهذه الكتابة اللاحقة. أظن الأشكال التعبدية الطقوسية ذهبت لكن ظلَّ البعد الروحي موجوداً في حياتي وفي نصي الشعري، لا بل إن هناك حنيناً صريحاً ومبطناً إلى تلك الطفولة البعيدة التي عشتها. لا أتعامل بقسوة مع تلك المرحلة بقدر ما أتعامل معها باستعادة نوستالجية. يعني الآن نحن نعيش ليس حداثة ناقصة فقط بل حداثة مشوّهة في جوانبها الحياتية والاجتماعية. لهذا يأتي هذا الجنين إلى تلك المرحلة التي كان فيها الكائن منسجماً مع حيواته المختلفة، مع الطبيعة، مع محيطه الاجتماعي، ورؤيته للدين، ولما يظن أنه صحيح. هذه الحداثة التي أصابت منطقة الخليج أو في العالم العربي عموماً لا تستجيب لشروط العصر التي تشكل الإنسان الجديد بقدر ما هي مرحلة معقدة وصعبة. لا أقصد الحداثة الأدبية بل الحداثة بمعناها العام.
هناك من يقول ليس في العالم العربي حداثة بل حداثويون. أي إن الحداثة عندنا تتحقق على مستوى أفراد محددين.
أعتقد هكذا. على صعيد المجتمع لم تتشكل الحداثة بعد، وأيضاً على المستوى السياسي. في العالم العربي ليست هناك ديمقراطية أو مجتمع مدني. لقد حلت أنظمة تستخدم الحداثة والدين والتاريخ والحاضر في سبيل مشروعها السياسي ضيق الأفق. عندما تعيش مرحلة كهذه يستبد بك الحنين إلى تلك المراحل التي كانت منسجمة مع شروطها الطبيعية والبشرية والحياتية.
لغتك لا تبدو على النقيض من المشهد العماني فحسب وإنما من المشهد في الخليج العربي عموماً، سواء من حيث نثرية الجملة وسيولة الكلام والتخفف من البلاغة والتقشف في الانفعال وهدوء النبرة. هل كان هذا خياراً أم أنه من تشكلات المدن؟
– المدن والبيئات الثقافية التي عشت فيها شكلت هذا الوعي الجديد حول مفهوم الكتابة. هذا لا يشكل قطيعة مع الكلاسيكية بل يجري الأمر وفق مقتضيات الزمن وبحسب وعيي الشعري. لا أرى أنه تمكن استعادة اللغة الكلاسيكية العظيمة الآن إلا على شكل كاريكاتوري ممسوخ. إذا تأملت بعض التجارب الأدبية التي تستعيد تلك الكلاسيكية الآن ستجد أنها مضحكة.
بعيداً عن الشكل، هذه اللغة الكلاسيكية موجودة بدرجات في الشعر الخليجي.
موجودة لكنها مضحكة. إنها استعادة للغة كانت معبّرة عن لحظتها الزمنية. الآن ربما يجب كسر ليس نمطية الكتابة التقليدية فحسب وإنما نمطية الحداثة نفسها. الحداثة في لحظات محددة تصل إلى نمطية وتكرار شعري وترجيع صوتي. كسر النمطية جزء من طموح الشاعر باتجاه هواء جديد وأفق جديد وتلمس الصوت الشخصي في ظل هذا الركام المنجز للقصيدتين العربية والعالمية.
إلى أي حد استطعت أنت أن تكسر هذه النمطية في قصيدتك نفسها وليس في الإرث الكلاسيكي أو الحديث؟ تبدو أحياناً كأنك استكنت إلى قصيدة واحدة وجملة واحدة مع بعض التنويعات بالطبع. حتى قاموسك الشعري نراه يتكرر، جملتك تتكرر، موضوعاتك الشعرية من صحراء وجبال وبحور وهواء وحيوانات محددة تتكرر هي الأخرى، تأملاتك الفلسفية الخافتة تتكرر كذلك. كأنك وقعت في نمطية من نوع آخر. هل هذا وصف صحيح؟
لا أستطيع طبعاً الدفاع عن قصيدتي بل أتركها للقارئ يقيمها على هواه ومزاجه ووعيه. وهذا أمر بديهي. لكن أتصور أن ثمة فرقاً بين النمطية وبين الرقص في سلاسل اللغة والذات. صحيح أن ثمة سلاسل وشبكات تحدك، لكنك تحاول أن تلعب لعبتك الجمالية الحرة. أتصور أن هذا يشكل افتراقاً عن النمطية التي هي نوع من الترجيع الذي يتكرر بشكل مضجر وممل. ربما. من ناحية أخرى، تجديد التجربة الشعرية لا يعني الإتيان بشيء جديد بالمطلق. أنت لديك فضاؤك وهواجسك وعناصرك الشخصية التي تتلمس من خلالها الوجود والعالم. تظل هذه القيمة الأساسية في كل كتابة لكن مع تنويعات من محطة إلى محطة ومن تجربة إلى تجربة. وهذا موجود في تاريخ الإبداع البشري في السينما والمسرح والرواية والشعر والرسم. أذكرك بالمخرج فيلليني الذي تدور أفلامه في الفضاء نفسه واللغة نفسها والمفردات السينمائية نفسها والأماكن نفسها والموضوعات نفسها من طفولة وحب وموت وسخرية ورؤية سوداء. هذا لا يعني نمطية بقدر ما يعني تفجير العناصر الرئيسية في النفس برؤى مختلفة.
مجدداً هذا التكرار لا علاقة له بالصحراء المترامية التي تعيد إنتاج نفسها ورمالها وكثبانها، الصحراء التي صنعت طفولتك؟
أعتقد أن الأمر لا يعدو كونه نوعاً من التعبير عن ثيمات أساسية في قصيدتي. في النهاية نحن مرتهنون لعناصر أساسية كالموت والحب والظلم والقهر. ليس الموضوع هو المهم بل الكيفية التعبيرية.
ثمة ملامح مسرحية في شعرك من حوار ومونولوغ كما في كتابك الأخير ‘نشيد الأعمى’ وكتابك السابق ‘كونشرتو الصحراء’ والذي أخرجه جواد الأسدي للمسرح. المسرح فن مديني، فن حضري. من أين جاء المسرح إلى شعرك، أنت الذي تعيش في بلد ليس فيه مسرح بالمعنى الحرفي للكلمة؟
أتصور أن المسرح حاضر في التجربة الشعرية العربية الحديثة. كثير من الشعراء العرب استلهموا المسرح ربما مع بداية كتابة الرواية أو قبلها.
كأحمد شوقي.
نعم. هذه التجربة المسرحية موجودة. شخصياً، تشكلت من تجارب مختلفة. أعتقد أن المسرح في شعري هو نوع من البحث عن رؤية أوسع في الشعر. العنصر البصري الأقرب إلى السينما يحضر بدوره ليس كاستدعاء ثقافي بل كحاجة تعبيرية وروحية لتوسيع رقعة التجربة والتعبير عن هذه الذات الممزقة التي تحاول أن تشكل هذا التشظي والتمزق إبداعياً. ليس هناك اليوم تجربة شعرية محضة. التجربة الشعرية الآن تقوم على التخوم. هناك تجارب مخترقة بالنثر وأخرى بالمشهدي وأخرى بالمسرحي.
معوِّقات البيروقراطية
كيف يتعاطى المشهد الأدبي العماني مع قصيدتك؟
يمكن الحديث في عمان عن تجارب شعرية مختلفة سواء أولئك المجايلين لي كزاهر الغافري أم عن الجيل الجديد. ثمة أصوات شعرية جديدة مختلفة فعلاً ويمكن رؤيتها على ضوء التجربة الشعرية العربية الحديثة.
لكن هذه التجارب تبدو كأنها غير عابرة للحدود. شخصياً ـ وأنا لست مقياساً ـ لا أعرف الكثير عن هؤلاء الشعراء باستثناء زاهر الغافري، بعكس ما يصلنا من تجارب شعرية في السعودية أو اليمن أو الإمارات العربية المتحدة أو البحرين.
أتصور أن التقصير في المنابر الثقافية العمانية التي لا توصل الأصوات الشعرية العمانية إلى القارئ العربي. هذا التقصير ينعكس عدم معرفة بالخارطة الشعرية العمانية. التجربة الشعرية العمانية فيها الكثير من التوهج والخصوصية. حتى التجربة الروائية جيدة. ثمة روائيون من الجيل الشاب جيدون. كذلك هناك نقاد وباحثون. المنابر الإعلامية والثقافية مسؤولة بشكل أساسي عن هذا الالتباس. أظن أن توسع المنابر، ولا سيما مواقع الانترنت، ساهم في التعريف أكثر بالتجارب العمانية. لقد بات العمانيون يتعاملون مع الخارج بطرقهم الحرة في ظل التقصير الذي أشرت إليه.
إلى أي حد يمكن أن تلعب مجلة ‘نزوى’ التي تترأس تحريرها مثل هذا الدور التواصلي مع المحيط العربي؟
أعتقد أن ‘نزوى’ أدت دوراً معيناً في هذا السياق وإن لم يكن كافياً. لقد استطاعت أن توصل الثقافة العمانية، تحديداً الحديثة، إلى الخارج. هناك خصوصية تاريخية ثقافية لعمان تختلف عن المحيط العربي بما فيه الخليجي.
‘نزوى’ تحاول حتى أن تضيء أسماء مجهولة في التاريخ العماني. طبعاً هناك غلبة للتجارب الجديدة التي نفرز لها مساحات واسعة في كل عدد. كنا نطمح الى أن نصبح ـ كمؤسسة تعنى بالثقافة والنشر ـ أكثر انتشاراً كما هي حال المؤسسات الثقافية والإعلامية في الدول العربية والخليجية كما في الكويت والإمارات مثلاً. وما زال هذا الطموح قائماً.
نحاول طبع كتب للجيل الشاب سواء في عمان أم في لبنان بالتعاون مع دور نشر مثل ‘الانتشار’. أيضاً تشكل ‘جمعية الكتاب العمانيين’ خطوة مهمة باتجاه نشر هذا النتاج والتواصل مع المحيط العربي والعالم ككل.
بمن يصطدم هذا الطموح؟
أولاً مع البيروقراطية المؤسسية، ثم مع العقل الثقافي التقليدي الذي لا يقرأ. ورغم أنه لا يقرأ ينمذج الأشخاص والكتابات في رؤية محدودة اتهامية كأن يلصق بك تهمة العلمانية التي تعني خطأ عنده الكفر والإلحاد، أو صفة الحداثة التي تعني عنده الكفر أيضاً. مثل هذه الاتهامات تنم عن جهل وليس عن وعي ديني مستنير. أقول لك بصراحة، وأنا لا أتكلم عن هذا الموضوع كثيراً، إن المجلة اصطدمت بعقبات كثيرة لتثبت صوتها وتكون حاضرة ومضيئة في بلدها. ولا تزال هذه العقبات قائمة لكن بدرجات متفاوتة. ولو لم يكن لدينا نوع من الهاجس ‘الرسالي’ للتحديث لكان الإحباط كسر طموحنا من زمان.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى