بشار الأسد يلعب في الوقت الضائع
هوشنك بروكا
تناقلت وسائل الإعلام أمس خبراً سورياً “نادراً”، مفاده أنّ الرئيس السوري بشار الأسد قد “وعد السوريين بإصلاحات سياسية في بلاده”.
أما الحكمة في شعور الأسد ب”ضرورة الإصلاح”، فهي ما سماها ب”الأحداث التي قامت في تونس ومصر واليمن، التي أتت بحقبة جديدة في الشرق الأوسط”، حسب تعبيره.
“صح النوم..الكلام ده مش اليوم”. هكذا سيرد عليه الشارع السوري، كما يرد الشارع المصري بذات الكلام على ديكتاتوره اليوم.
في خطاب القسم الرئاسي الأول الذي ألقاه في 17 تموز 2000، تحدث الأسد الثاني إلى السوريين بلغة “الفيلسوف”، فتفلسف في “الحاجة الماسة” إلى “تفكير إبداعي جديد”، وإلى “النقد الضروري البناء”، و”الشفافية الضرورية”، و”الديمقراطية”، و”العدالة الإجتماعية”، و”الوحدة والحرية والإشتراكية”، فضلاً عن “حقوق الإنسان”، وسوى ذلك من المقولات الكبيرة التي لم تخرج، حتى اللحظة، من حدود “بيع” الكلام والشعارات للناس، دون أن تحدث أي تغيير فعلي ملموس في سوريا.
فأين اختفت وعود الرئيس الشاب “الموعود”، التي أعلنها للسوريين إبان وراثته للسلطة “ديكتاتوراً خلفاً” لأبيه، في العاشر من تموز سنة 2000؟
مع أية رياحٍ طارت “إصلاحات”(ه) التي قال فيها كلاماً كثيراً، دون فعل أي شيء على أرض الواقع؟
أين طار “ربيع دمشق”(ه)، الذي وعد به السوريين ب”سوريا خضراء جديدة مختلفة”، كما أعلن ذات دمشق؟
أين طار “مجتمعه المدني”، الذي وعد به السوريين في ربيعٍ ولد ميتاً، والذي سرعان ما سقط في خريفٍ طويلٍ، لا يزال مستمراً حتى اللحظة؟
لماذا لم يصلح الرئيس الشاب كل ما أفسده والده و”حركته التصحيحية” و”بعثه الصحيح”، كما وعد السوريين ب”إصلاحات لا بدّ منها”، عند الأول من مجيئه إلى كرسي السلطة؟
لماذا داس الرئيس على الدستور السوري وفصّله على مقاسه، وذلك بتعديله الفقرة الخاصة بعمر الرئيس، لتمكنه من قيادة الجيش و”انتخابه” لرئاسة الجمهورية، وذلك بموجب “مرسوم تشريعي”، صدر غصباً عن أنف السوريين، وبرلمانهم الذي لم يخرج من كونه “ديكوراً جمهورياً” تحت الطلب؟
ألم يترفع حضرة الديكتاتور بقدرة “مرسومٍ قادر”، بين ليلةٍ وضحاها، إلى رتبة “فريق”، وهي أعلى رتبة عسكرية في الجيش السوري، علماً أنه كان يحمل في يناير 1994 رتبة ملازم أول؟
أين اختفت وعوده التي قطعها مع “أكراده”(ه) بعد تسلمه للسلطة وخصوصاً بعد الإنتفاضة الآذارية التي انطلقت شرارتها من قامشلو في 12 آذار 2004، وانتشر غضبها في جميع المناطق ذات الغالبية الكردية، مثل عفرين وكوباني وديريك وعامودا ودرباسية، وسقط فيها ما يقارب الأربعين شهيداً؟
أين هو تمثيل الأكراد رسمياً في سوريا الممنوعة عليهم منعاً باتاً، ثقافةً وإجتماعاً وسياسةً واقتصاداً، طالما هم يكوّنون “جزءاً أساسياً من النسيج الإجتماعي والحضاري السوري”، بحسب كلمةٍ له خطبها في أكراد(ه) الغاضبين، بُعيد انتفاضة قامشلو ربيع 2004؟
أين هو الإصلاح السياسي والإقتصادي الذي قال أنه سيركبه للعبور إلى “تصحيح سوري جديد”؟
منذ “عقدٍ ضائعٍ” من وراثته للسلطة خلفاً لأبيه، تسير سوريا من سيءٍ إلى أسوأ، وتنزلق من خرافةٍ سياسية إلى أخرى، وتخرج من “ربيعٍ كاذبٍ” لتدخل إلى آخر: كل شيءٍ في سوريا، خلا الحقيقة الديكتاتورية، ليس إلا “كذباً”، أو “حقيقةً غائبةً” مؤجلة، إلى أن يشاء الديكتاتور.
حالة الطوارئ والأحكام العرفية المفروضة على البلاد منذ الثامن من آذار 1963، دفعت بسوريا في ظل حكم الأسد الثاني إلى المزيد من “الطوارئية” والأحكام العرفية، والمزيد من القمع والإرهاب المنظم، ناهيك عن تضييق الخناق على الحريات، وإقصاء كلّ رأي خارج على قناعة الرئيس وإيديولوجية حزب الرئيس ومصلحة عائلة الرئيس.
سجون نظامه القمعي امتلأت بخيرة أبناء الشعب السوري بكلّ أطيافه وقومياته وأديانه وطوائفه، من معتقلي الرأي والضمير، فقط لأنهم ينادون ب”سوريا للجميع”، و”سوريا من الكل إلى الكل”، ولأنهم يركبون آراءاً وقناعات لا تشتهيها رياح ديكتاتوريته.
بحسب منظمات عالمية مناهضة للتعذيب، تعتبر سوريا واحدةً من أكثر الدول التي تمارس التعذيب بحق السجناء، فضلاً عن ممارستها الإرهاب المنظم ضد الشعب، عبر أجهزتها الأمنية الكثيرة، كالأمن العسكري والأمن السياسي وأمن الدولة، وسواها من المؤسسات الأمنية الأخرى المختصة في صناعة الإرهاب الموجه، ضد الشعب وكلّ من يخالف النظام.
تقدّر بعض المنظمات الحقوقية السورية والعالمية، عدد السجناء المفقودين في الثلاثين سنة الماضية فقط من الديكتاتورية الأسدية، بأكثر من 17 ألف سجين.
أما عن الدَوس على حقوق الإنسان والحريات في سوريا، فحدث ولا حرج. موضوعة حقوق الإنسان والحريات، هي آخر ما يمكن أن يفكر فيها نظامٍ ليس له إلا أن يقمع ويحظر ويمنع.
هذا هو سلوك النظام السوري، طوال تاريخه الحافل ب”قتل” الحريات والحقوق، إذ يمتهن القمع “بلا قناع”، حسب توصيف الهيومان رايتس ووتش، ويمارس المنع بلا حدود، ضد كل ما يمكن إدراجه تحت حقوق الإنسان وما حواليه.
فعلى الرغم من الوعود الكثيرة التي قطعها مع الشعب السوري بدفع سوريا نحو المزيد من الحرية والديمقراطية ولإصلاح السياسي والإقتصادي، إلا أن عقداً كاملاً من حكمه الفردي المحكم على سوريا، أثبت ديكتاتور دمشق للسوريين أنه عاجز تماماً عن تحقيق أية إصلاحات حقيقية جذرية هيكلية، في ظل قيادته الخارجة عن كل حكمة، لأنه يعلم علم اليقين إنّ أية محاولة للأصلاح الحقيقي، إنما هي “مقامرة سياسية” سيدفع هو ومن حوله من حرسٍ قديمٍ وجديد ثمنها غالياً. إذن، أية محاولة نحو “إصلاح” سوريا، ستحرك الشارع السوري، دون أدنى شك، إلى المطالبة ب”إصلاح” كرسيه أولاً، الذي جاء إليه بالوراثة، رغماً عن أنف السوريين.
لكنه الآن..والآن فقط، بعد الطوفان التونسي والقيامة المصرية، وسقوط الديكتاتوريات العربية، في الشوارع والساحات، التي حوّلتها الجماهير العربية الغاضبة، إلى “غرف عمليات” لإدارة “حكومات إنتقالية” أو “حكومات إنقاذ وطنية”، طلع علينا الرئيس الأسد “ديمقراطياً جداً”، و”مفكراً إبداعياً جداً”، ليتحدث لنا نحن السوريين الذين شبعنا كلامه الماضي، عن “ضرورة الإصلاح” وركوب موجة التغيير التي ستدخل الشرق الأوسط حقبة جديدة لا محال، كما قال.
“صح النوم..الكلام ده مش اليوم”، على حد تعبير الشارع المصري الغاضب الآن، والمصّر على تحرير مصره من قبضة الديكتاتور.
صح النوم يا حضرة الدكتور الديكتاتور، فقد فاتك “قطار الإصلاح”، كما فات بن علي من قبل، ويفوت الآن على مبارك.
الأسد، بعد شهادته(السرية بالطبع) على ما شهدته كلٍّ من تونس ومصر، يحاول على ما يبدو اللعب مع الشعب السوري، في الوقت الضائع، قبل أن يبدأ هذا الأخير لعبته الأخيرة معه، ويضربه ضربته القاضية: ضربة السقوط الأخيرة.
بعد تصديق الأسد لغضب الشعبين التونسي والمصري، الذَين أقاما الدنيا على الثنائي الديكتاتور بن علي ومبارك ولم يقعداها، لا بدّ وأنه سيصدق الآن، شعبه السوري أيضاً، الذي سيواجهه يقيامةٍ قادمة، في القريب العاجل من سوريا الغضب القادم.
على بعد أيامٍ ثلاث فقط من الغضب المصري المشتعل الآن في شوارع مصر، سيكون السوريون وديكتاتورهم في دمشق، على موعدٍ مع يوم الغضب السوري المعلن في الخامس من هذا الشهر.
صدق ديكتاتور دمشق المزرعة، حين صدّق الشوارع العربية الغاضبة التي تحمل الآن على أكتافها “شرق أوسط جديد”، بحكومات وبرلمانات جديدة، في زمانٍ وعالمٍ جديدين. ولكن الذي يجب أن يصدقه أيضاً، هو أنّ لا فرصة له ولأخوانه في الديكتاتورية، ولا نصيب في القادم من هذا الشرق الأوسط الجديد، إلا الهروب: الهروب إلى خارج التاريخ أو دونه.
هو، صدّق حقبة الشوارع الجديدة، الآن، ولكن القادم من الشوارع، وتواريخها، لن يصدّقه.
هو، صدّق الشعب الآن، ولكن الشعب لن يصدّقه.
هو، اقتنع الآن بغضب الشعب، ولكن الشعب لن يقتنع به.
هو، يعترف الآن بالشعب، ولكن الشعب لن يعترف به.
هو، يخاف الشعب الآن، ولكن الشعب لم يعد يخافه.
هو، يرضخ للشعب الآن، ولكن الشعب لن يرضخ له.
هو، يتنازل للشعب الآن، ولكن الشعب لن يتنازل له بعد مصر الآن، وما قبلها من تونس.
هو وعد الشعب الآن بالإصلاح، ولكن الشعب لن يعده إلا بالسقوط.
هو يلعب الآن مع الشعب، في الوقت الضائع، ولكن الشعب لن يلعب معه، إلا في وقت الشارع.
سوريا تعيش الزمن الضائع منذ أكثر من أربعة عقودٍ، وذهبت فيها ولا تزال، من ضياعٍ إلى ضياع.
لا وقت للسوريين، الآن، مع وقت الديكتاتور الضائع.
الآن، حان وقت الشارع.