جندي مجهول
ساطع نور الدين
ليس عملا من اعمال المقاومة التقليدية، المسلحة او المدنية، التي يجري عادة ادراجها في سياق ايديولوجي او سياسي او حتى تنظيمي. لكنها مقاومة بالمعنى الحرفي للكلمة، وهي تبحث الان عن توصيفها، وعن محصلتها. الهوية لا جدال فيها، وكذا بالنسبة الى العصبية التي تحركها وتثيرها الى هذا الحد غير المألوف.
هي تشبه الى حد بعيد العملية الفدائية الجريئة التي نفذها فلسطيني ضد المدرسة التلمودية في القدس المحتلة في آذار الماضي، وادت الى مقتل ثمانية اسرائيليين وجرح آخرين، والتي لا تزال تثير الحيرة حول الهوية السياسية والتنظيمية لمنفذها، الذي تحول الى جندي فلسطيني مجهول، برغم ان اسمه كان معلوما وتاريخه العائلي والاجتماعي والتعليمي. ولم تستطع أي حركة فلسطينية حتى الان ان تزعم انه ينتمي اليها، او ان تدعي انه تأثر ببرنامجها الوطني او حتى خضع لتدريب عسكري في احد معسكراتها.
الفارق الوحيد بينها وبين عملية القدس التي جرت امس، هي ان منفذها لم يطلق النار من بندقية آلية، بل اطلق غضبه وحقده ويأسه من جرافة مدنية تعمل في شق الطرقات وتمهيد الارض للبناء او الزرع. فكانت النتيجة ايضا اربعة قتلى اسرائيليين واكثر من ثلاثين جريحا… فضلا عن الحصيلة الاهم وهي ان احدا لا يعرف ولن يعرف من اين اتى هذا الفلسطيني الذي دفع حياته ثمنا، قررت جميع التنظيمات الفلسطينية من دون استثناء انها لم تعد تستطيع دفعه في هذه المرحلة بالذات.
الارجح ان التنظيم الذي اعلن مسؤوليته عن العملية تحت اسم كتائب تحرير الجليل هو تنظيم وهمي، ليس له وجود في سجلات المقاومة ولا في اطرها التنظيمية التي تضم عشرات الاسماء. والاغلب انه لم يقصد من ذلك الاسم التمويه على احدى حركات المقاومة الرئيسية التي ارادت ان تتخفى وراءه، لكي لا تتعرض للانتقام الاسرائيلي، او اللوم الفلسطيني لانه يعرض للخطر تهدئة متعثرة اصلا، مثيرة للجدل في قطاع غزة، ومثيرة للحرج في الضفة الغربية.
لا يمكن لأحد ان يزعم ان منفذ عملية الامس، وهو عامل جرافة عادي، قد تدرب في احد المعسكرات السرية، على قيادة آليته الضخمة وحرفها عن وجهتها الاصلية من اجل ان تقتلع عددا من الاسرائيليين، الذين صاروا عنوانا وحيدا لشعوره بالذل والهوان، وهو يعمل في تغيير معالم ارض وطنه المصادرة، ويشهد على تبديل مظاهر بقاء شعبه. المؤكد انه قرر العمل بمفرده، وشعر ظهيرة هذا اليوم ان الفرصة قد حانت لتنفيذ وعده لنفسه بان ينتقم، على طريقته الفريدة ، التي لم يسبقه اليها احد.
جندي مجهول جديد يخرج من صفوف الشعب الفلسطيني ليعبر عن اغتراب شعبي عام عن جميع حركات المقاومة الفلسطينية من دون استثناء، سواء تلك التي اغرتها السلطة بالفعل او التي لا تزال تستغويها. لا حاجة الى معرفة اسمه، او عنوانه، المهم ان هدفه نبيل جدا، بخلاف كثيرين ممن باتوا يطلبون الموت فقط من اجل الشهرة.
مقدسي يحوّل جرافته سلاحاً: مقتل 3 إسرائيليين وإصابة العشرات
حول الفلسطيني المقدسي حسام تيسير دويات، الذي أمر الاحتلال بهدم منزله في القدس الشرقية المحتلة بدعوى انه بُني من غير إذن، جرافة يعمل عليها، الى سلاح فتاك في احد الشوارع الرئيسية في المدينة المقدسة، ما أدى الى مقتل ثلاثة إسرائيليين وإصابة العشرات، قبل ان يستشهد برصاص الاحتلال.
والعملية هذه هي الثانية هذا العام التي ينفذها مقدسي في قلب الدولة العبرية، بعدما كان مقدسي آخر قد قتل ثمانية طلاب في معهد «مركاز هراف» التلمودي في 6 آذار الماضي، قبل ان يستشهد.
في غضون ذلك، أقدم مئات المسافرين على اقتحام البوابات الرئيسية لمعبر رفح الحدودي مع مصر أمس، جراء البطء الشديد في إدخال الفلسطينيين عبر المعبر، واقتصار الأمر على بضع مئات من أصل ستة آلاف تم الاتفاق على إدخالهم، قبل ان تنجح قوات الامن المصرية بالتعاون مع حركة حماس، في إغلاق المعبر.
ونقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط عن وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط ان «ما حدث أمام المعبر… يمثل محاولة أقل ما توصف به أنها سخيفة وفي الوقت نفسه غير مسؤولة» مضيفا انه «يجب الحذر من استخدام الأطفال في عمليات لا معنى لها، لكي يدفع بهم في اتجاه الخطوط المصرية». وتابع أن «مصر لا يمكن ان تقبل بأي اختراق لأراضيها بالقوة… إن الأخوة الفلسطينيين إخوة أعزاء نسمح لهم بالدخول والخروج طبقا لحاجاتهم وسنمضي في هذا الطريق» محذرا من «عواقب خطيرة لمحاولة تكسير خط الحدود وتحطيمه». (تفاصيل صفحة 14).
عملية الجرافة
وذكرت الشرطة الإسرائيلية ان منفذ العملية سائق جرافة كان يعمل لمصلحة شركة بناء خاصة، في شارع يافا في القدس حيث تجرى أعمال حفر في إطار مشروع لإقامة خط للسكك الحديد في المدينة. وتمت العملية أمام مبنى تستخدمه وكالات عالمية للأنباء.
وقام سائق الجرّافة، التي تزن 20 طنا، بمهاجمة حافلتين للنقل العام انقلبت إحداهما على جانبها فيما تضررت الأخرى، كما سحق عددا من السيارات على مسافة 500 متر، بعضها أصيب بأضرار شديدة، فيما انقلبت أخرى، ما ادى الى مقتل ثلاثة اسرائيليين بينهم امرأتان، وإصابة 45 على الأقل.
وقالت الشرطية اليانور ناشوم «رأيت الجرافة تقترب من الحافلة، وأطلقت طلقتين على زجاج نافذتها الأمامية وأعتقد أنني أصبت السائق» فيما اشار العنصر في وحدة خاصة «لمكافحة الارهاب» ايلي مزراحي الى انه هرع الى المكان مع شريك له، موضحا «صعدت الى سلم (الجرافة)، وفيما كان لا يزال يقود كالمجنون محاولا إيذاء مدنيين، أطلقت النار عليه مرتين وصفيته».
وأعلنت كل من «كتائب شهداء الأقصى» و«كتائب أحرار الجليل ـ مجموعات عماد مغنية» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، مسؤوليتها عن العملية، غير ان قائد الشرطة دودي كوهين رجح ان يكون المهاجم «إرهابيا» تصرف بمفرده، مضيفا «يبدو كأنه عمل عفوي».
ومنفذ العملية يدعى حسام دويات (29 عاما) وهو اب لولدين ويقطن ضاحية صور باهر في القدس الشرقية المحتلة. وذكر المتحدث باسم الشرطة الإسرائيلية مياك رزونفيلد «نحن نعرفه من سجله الإجرامي السابق، ولكن لم يكن له سجل على مستوى الارهاب» فيما اعتبر المتحدث باسم الحكومة الاسرائيلية مارك ريغيف العملية «عملا من العنف الإجرامي العديم المعنى».
وفي ما قد يشكل الدافع لتنفيذ العملية، كان الاحتلال قد غرّم دويات 166 ألف شيكل (50 الف دولار)، بحجة ان منزله بُني من دون إذن، كما اصدرت اسرائيل أمرا بهدمه، وذلك بحسب حسيب النشاشيبي الذي يترأس منظمة تعنى بالدفاع عن ضحايا حالات مماثلة.
وقال أقارب للشهيد انه مؤمن، لكن لم يعرف ان لديه أي علاقة بفصائل المقاومة، فيما أغمي على والدته لدى إبلاغها نبأ استشهاده. وقالت إحدى صديقات زوجة الشهيد «الكل في حالة صدمة» فيما ولولت عمته من على شرفة المنزل «انه شهيد… انه بطل».
وتجمع أقارب دويات في منزل العائلة، الذي دخلته الشرطة الإسرائيلية وأخذت صورا كما استجوبت الأقارب، قبل ان تغادر.
ودعم المسؤولون الاسرائيليون، وبينهم رئيس الوزراء ايهود أولمرت ووزير الدفاع إيهود باراك، هدم منزل العائلة وحظر مخصصات التأمين الوطني التي تحصل عليها. وقال باراك إنه لا يعرف لماذا لم يتم حتى الآن هدم منزل منفذ عملية مدرسة «مركاز هراف» التلمودية في 6 آذار الماضي، التي أدت الى مقتل ثمانية طلاب دينيين، داعيا الى الرد الفوري على عملية امس.
أما نائب رئيس الحكومة حاييم رامون، فرأى ان العملية أظهرت انه يتعين إبعاد بعض الفلسطينيين الذين يقطنون في القدس، فيما قال المتحدث باسم بلدية القدس غيدي شميرلينغ ان على جميع عمال البناء في القدس الشرقية، ان يخضعوا لعملية تدقيق من قبل الشرطة.
وأدان كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات «أي هجمات تستهدف مدنيين، سواء أكانوا إسرائيليين أم فلسطينيين» فيما قال المتحدث باسم حماس سامي ابو زهري «بحسب المصادر الاسرائيلية الحادث مقصود. وإذا كانت الامور كذلك فهي نتيجة طبيعية لاستمرار العدوان والجرائم ضد أهلنا في الضفة الغربية والقدس المحتلة» مضيفا «لا نتوقع أن يكون لها تأثير على التهدئة في غزة».
أما حركة الجهاد الاسلامي، فاعتبرت الهجوم «رسالة واضحة للعدو المجرم» مضيفة «اذا ظن العدو ان تهدئة غزة ستحقق له الامن وستسمح له بالاستفراد في الضفة، فهو واهم».
في واشنطن، قالت المتحدثة باسم البيت الابيض دانا بيرينو ان الرئيس الاميركي جورج بوش اتصل بأولمرت «لتقديم تعازيه في ضحايا الهجوم الارهابي» مضيفة ان بوش «تحدث مع (اولمـــرت) كذلك بشأن عملية السلام في الشرق الاوسط».
وفي وقت لاحق، أجرى بوش اتصالا هاتفيا بالرئيس الفلسطيني محمود عباس الموجود في عاصمة سلوفينيا لوبليانا، ابلغه فيه «استعداده للتدخل في المفاوضات متى طلبتم مني ذلك» بحسب المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل ابو ردينة الذي اضاف ان وزيرة الخارجية الاميركية كوندليسا رايس «ستظل تعمل مع الجانبين بشكل مستمر، وستستقبل الوفدين المفاوضين في منتصف هذا الشهر». وتابع ان عباس «اكد على ضرورة سرعة العمل للوصول الى اتفاق هذا العام، وعلى ضرورة استمرار بذل الجهود وإزالة العقبات التي تواجهنا من اجل الوصول الى اتفاق».
(«السفير»، أب، أ ف ب، رويترز، أ ش أ)