صفحات سورية

سعار الدم

null
على كنعان
من غرائب العصر الدموية ما يجري في مواجهة ثورة الشباب في مصر، لكنه أمثولة نموذجية من فظائع الاستبداد الشرقي الذي تحدث عنه ماركس، وإن سبقتها في ميادين  أخرى من أرض العروبة المفجوعة مجازر أشد هولا وفظاعة، ولا غرض لكل ما جرى وسيجري إلا تثبيت كراسي الحكم والاستمرار في القمع والنهب والطغيان. ثلاثون سنة ولم يشبع وحيد القرن من أمجاد سلطانه، وقد بلغ من العمر عتيا؟.. هل بقي لديه ذرة من الإحساس الوطني أو الإنساني وهو يغطي عينيه ويسد أذنيه عما يغلي في الشوارع؟ أم أنه فقد السمع والبصر والبصيرة معا وكأنه في قاعة كتيمة من المرايا لا يرى إلا صورته (صورة دوريان غراي) ولا يسمع إلا صدى صوته المنكر. أتذكر ديغول وانتفاضة الطلبة سنة 1968، فهل يرى هذا الرجل غير المبارك أنه أعظم من الزعيم الفرنسي؟ وهل كان ذلك الزعيم يحكم بلاده بلا دستور حتى تخلى عن كرسيه وعاد إلى منتجعه الأخير، بينما يوغل هذا المسعور في هدر مزيد من الدم الفتي في شوارع الكنانة، مدعيا خدمة مصر بإنهاء الفوضى وتحقيق الاستقرار؟ أي استقرار يقوم على الدم المسفوك من قلوب الضحايا والشهداء؟ ولماذا يكذب على نفسه وعلى شعبه وعلى العالم أجمع بأنه غير راغب بالسلطة.. وهو يتشبث بها بأنيابه ومخالبه وأجهزة القمع وحتى بعصابات المافيا وزعران البلطجية من حوله؟ يذكرني هذا الطاغية بتحول مقاليد الحكم من بني أمية إلى بني العباس، وصرخة سديف، ذلك الشاعر الموتور أمام السفاح: لا يغرنك ما ترى من رجال/ إن تحت الضلوع داء دويا/ فضع السيف وارفع العفو/…إلخ. وكان أن أمر السفاح بقتل جميع من استجار به من شباب بني أمية الأبرياء المسالمين.
وإذا كانت مشاعري ومبادئي تقف ضد الأحقاد والانتقام الدموي، إلا أن هذا الفرعون الجديد لا يجوز أن ينتهي دون حساب. إن الكاتب العربي يخجل إلى درجة مخزية ما دام لا يملك إلا الكلمات، وحتى هذه الأداة المعنوية الناعمة لا يسمحون لنا أن نمارسها بحرية. من حق كل إنسان يعشق الحرية في أوطاننا وفي العالم أجمع أن يحيي شعب مصر الصامد ويعتز به، وهذا الشعب العظيم كفيل بتقرير مصيره، وشبابه يبدعون اليوم في ابتكار أعظم ثورة عقلانية مسالمة، كما يبدعون في كتابة تاريخ مصر الجديد بدمائهم البريئة الزكية.
لكن المشكلة أن الطبقة الحاكمة لا يمكن أن تختزل بفرد، ولو كان من نمط هتلر ذاته. إن عمر سليمان ومن حوله من كبار المسؤولين يكررون أفكار الطاغية، وإن اختلفت بعض العبارات. إنهم أصوات سيدهم أو أصداء صوته الكريه، واتهام الشباب الثائر بأجندات خارجية ستظل وصمة العار التي لن تمحى عن جبين هذا النائب الإمعة، رغم هدوئه المسرحي ومسحة وجهه الصفراوي. إن الأجندات الخارجية موجودة فعلا ومتمثلة بمشاعرنا وأفكارنا المتعاطفة والمؤيدة لهذه الثورة الشعبية الرائدة. إن مئات الملايين من شعوب الأمة، فضلا عن الشعوب الصديقة تقف إلى جانب هذه الثورة وتباركها، فمتى تفهم هذه الطبقة ورؤوسها النخرة وعصاباتها البطجية هذه الحقيقة؟
إنها المعركة إذن، وصراع المصالح والأهداف بين عشاق الحرية والكرامة وسيادة القانون وبين أباطرة الحكم ومن حولهم من عائلات النهب وقطعان القطط السمان وسارقي ثروات الوطن وأقوات الناس، وهؤلاء الفاسدون المفسدون ليس لهم وطن إلا جيوبهم وفروع المصارف الأجنبية التي أودعوا ثرواتهم فيها. والنهاية المحتومة لن تكون إلا لصالح الشعب وثورته المظفرة. إن الهوة المخزية من العار والمهانة التي وضع رئيسى النظام  المصري المنهار فيها نفسه لا تليق بأي عربي ولا أي إنسان، وإن كان خاملا أو معتوها أو صاحب سوابق إجرامية، فكيف بمن كان طيارا مصريا في حرب أكتوبر؟.. يبدو أن الذين يستحون ماتوا يا صاحب السيادة، أو أن أصحابك وحماتك الصهاينة في شرم الشيخ قد علموك أشياء لا نفهمها، وما من سبيل إلى ذلك. كنا في عمر هؤلاء الشباب وأجدادهم، من شباب وكهول، يواجهون قوات العدوان الثلاثي في بورسعيد والسويس والإسماعيلية.. ولقد تعلمنا منهم الكثير الكثير، كما يتعلم الشباب العربي اليوم، من الجزائر وليبيا إلى الأردن ومن اليمن إلى سوريا، دروسا لا يمكن أن تنسى.
وفي ضوء ما جرى في تونس وما يجري في مصر، أين تقف بلادي/ سوريا، وخاصة أن هناك أصواتا بدأت تطالب الرئيس السوري الشاب بإنجاز ما وعد به في مستهل استلامه مقاليد الحكم؟
إن واقع سوريا يبدو أكثر تعقيدا وأشد بلبلة والتباسا ومرارة. ولكنه، من جهة أخرى، لايقل وعيا وإشراقا وتماسكا، رغم الأمراض الوبائية التي جرى تسريبها إليه وتسللت إلى نسيجه الاجتماعي. وإذا كان بعض الأخوة الكتاب، ومنهم الأستاذ عبد الله تركماني، قد توجهوا للرئيس مطالبين بالإصلاح والتغيير، فمن واجب كل مواطن واع وحريص على سلامة بلده وحرية شعبه وكرامته، فردية وجماعية، أن يقول رأيه ويعلن عن تصوره، قبل أن يطغى السيل ويجرف كل ما يجده في طريقه.
بنية النظام في بلادنا، كما أرى الصورة من بعيد، تقوم على ثلاثة أعمدة وإن اختلفت بالحجوم والفاعلية والتأثير: المؤسسة الأمنية، التجار، ثم رجال الدين. العمود الأساسي هو الأمن الذي يمسك بجميع المفاصل والخيوط، ولكن الخلل في أي من العمودين الآخرين سيؤدي حتما إلى بلبلة النظام وحشره في عنق الزجاجة. لكن هذه الأعمدة الخفية والمعلنة ترتدي حجابا أو برقعا سميكا لا ينفذ منه بصيص من ضياء، وهي مغلفة  محجوبة تحت مظلة واسعة برع خبراء المعسكر الاشتراكي المرحوم بصنعها على الشكل التالي:
المؤسسة الأمنية تشكل شبكة عصبية وقدرة حركية تمتد من العاصمة إلى المدن كافة وأقاصي القرى، وتبني مجساتها واستطالاتها وأعشاشها في كل مدرسة، في كل دائرة رسمية، في كل حي، وربما في كل مجمع سكني داخل المدينة. هذا يعني أن هناك ما لا يقل عن مليونين من الأزلام والمنتفعين والمتطوعين المرتبطين بشكل أو بآخر بأحد فروع المؤسسة الأمنية، بدءا من طلائع البعث وشبيبة الثورة إلى اتحاد الطلبة، ومن النقابات العمالية والفلاحية والحرفية وغرف الصناعة والتجارة إلى المجالس البلدية، ولم تسلم حتى الجمعيات الخيرية من ذلك. وأذكر، في أواخر الستينات، أن الأوامر الحزبية كانت تطالب كل عضو باستمالة وتنسيب عدد معين من جيرانه ليكونوا رديفا للحزب وداعما شعبيا له.
والسؤال: ماذا باستطاعة الفرد، وإن كان رئيسا، أن يفعل أمام هذه الشبكة المختلفة بكل تأكيد عن واقع تونس ومصر؟ صحيح أن الرئيس هو صاحب القرار. لكن وراء هذا القرار مستشارين وجماعات ضغط من الأقرباء وقيادة الحزب والأمن والتجار والكهنوت الديني، وهؤلاء لهم مصالهم وامتيازاتهم المادية والمعنوية. وكم أتمنى أن يظل الجيش، خارج تلك الشبكة الأخطبوطية، مكرسا لمواجهة الخطر الخارجي.
المطلوب أولا إطلاق حرية الاجتماع والتعبير والاهتمام بالمعلمين والقضاء وسيادة القانون وإنهاء الأحكام العرفية وجميع القوانين التي سنت في ظلها. فلا أمل بأي نظام لا يحصل المواطن على حقه في عشر سنوات من التشرد بين المحاكم. وضع دستور عصري جديد يطرح للاستفتاء الحر. إجراء انتخابات برلمانية وبلدية حرة من أية وصاية، رسمية أو دينية أو أمنية.
إذا كان رئيس اتحاد الكتاب ونقيب الصحفيين تفرضه القيادة القطرية للحزب على جميع الكتاب والعاملين في الإعلام، فماذا نقول عن واقع المؤسسات والمجالس الأخرى والأهم من تشريعية ونقابية وبلدية وإدارة محلية، وهذه كلها يتم تشكيلها في دهاليز وزارة الداخلية وفروعها في المحافظات؟! وهذه إحدى أعاجيب العصر والتاريخ في بلادنا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى