عالم عربي جديد
الياس خوري
في الوقت الذي تطرح فيه مصر على نفسها اسئلة الفجر الجديد الذي انبثق في ثورة الخامس والعشرين من يناير، يشهد العالم العربي غليانا لا سابق له، من ليبيا الى البحرين، ومن المغرب الى الجزائر، مرورا باحتمالات شتى في جميع المدن العربية. الهبة الثورية الكبرى التي انطلقت من تونس، تحولت الى ثورة شاملة في العالم العربي. وبصرف النظر عن احتمالات نجاة موقتة لبعض الطغاة، فان الحكم بنهاية الزمن القديم قد صدر، والمسألة لا تعدو ان تكون مسألة وقت وجهوزية جماهيرية وتحايل على بعض الأنظمة التي تبدي حمية اجرامية، معتقدة انها تستطيع ان تحمي نفسها من السقوط عبر بناء اسوار من الدم حول القصور المتداعية.
كان العقيد الليبي اول من التقط الاشارة، فهذا الرجل الذي تميز حكمه بالهستيريا والعُظامية والفهلوية والجريمة، انبرى للدفاع عن زميله التونسي المتهاوي زين الدين بن علي. صاحب الكتاب الأخضر الذي هو خلاصة الجهل، يجد نفسه اليوم في المركب الغارق، ولن تنفعه لجانه الثورية التي هي عبارة عن تنظيم مخابراتي لا وظيفة له سوى القمع، او مرتزقته من المثقفين العرب الذين كالوا له المدائح ونالوا جوائزه السخيّة!
من ليبيا الى البحرين تعصف رياح التغيير، التي ستؤسس لشرعية عربية جديدة على انقاض الانقلاب وملوك النفط وضباط المخابرات.
عالم عربي جديد يعلن عن نفسه بوتيرة متسارعة، كأن كل شيء كان يستعد للانفجار في انتظار شرارة انطلقت من تونس، فإذا بها تحرق السهل العربي برمته.
تشير هذه الثورة الى ولادة عالم عربي جديد هو عالم ما بعد الانقلاب العسكري والانقلابات عليه. الشرعية الثورية التي اسستها الناصرية بعد النكبة الفلسطينية انتهت اليوم بعد احتضارها المضني الطويل الذي بدأ بعد الانقلاب الساداتي وانقلابات صغار الجنرالات الآخرين الذين صنعوا من انفسهم اشباه آلهة.
تشير هذه الثورة الوليدة الى مجموعة من الحقائق:
1- هناك نظام عربي واحد يتداعى. وبصرف النظر عن الكلامولوجيا الجمهورية او الملكية، فهذا النظام كان واحدا، ولم تكن تناقضاته الا وليدة العجز عن مواجهة اسرائيل، اي انها تناقضات ملوك الطوائف، الذين توحدهم بنية مؤلفة من ثالوث الفساد والقمع والعجز.
2- كان هذا النظام قائما على اخافة الناس من خطر اصولي مزعوم. فصار النظام ونقيضه وجهين لعملة واحدة، تهدف الى ابعاد المواطن عن التعاطي في الشأن العام، واخضاعه لقمع متعدد الوجه، من الافقار والتجويع الى السجون والمنافي والقتل.
3- في ظل هذا النظام عرفت الثقافة العربية اكثر لحظاتها فسادا وانحلالا، من الرشوة النفطية التي هيمنت على الاعلام والعديد من الانشطة الثقافية، الى الارهاب الذي قاد الى الرقابة والمنع، ولعل نموذج المثقف الكبير نصري حامد ابوزيد، والمنفى الذي طُرد اليه يجسد واقع اللغة القمعية المزدوجة التي اتبعها النظام العربي.
4- تلاعب هذا النظام بكل التناقضات الطائفية والاقوامية، ووضع الناس امام خيار وهمي بينه وبين الحرب الأهلية.
5- استكان هذا النظام للهزيمة امام اسرائيل، وصار طموحه نيل رضى دولة الاحتلال، حتى وان حافظ في بعض اجنحته على هامش للمناورة، كان الهدف منها حماية النظام وبقاءه في السلطة.
حين يتهاوى هذا النظام الذي تحكّم بالعالم العربي اربعين سنة، وقام بتحطيم جميع مؤسسات المجتمع المدني تقريبا، من نقابات واحزاب، فان مهمة التغيير الثوري تصير صعبة، وتحتاج الى اعلى درجات الوعي واليقظة. خيبة الأمل في الثورة ممنوعة، انها الأمل الأخير كي لا يتداعى العالم العربي.
لقد اثبتت الثورة مجموعة من الحقائق
1- ان الشعب الذي اسقط النظام هو مصدر السلطة وصاحبها. هذا يعيدنا الى الف باء الديموقراطية، اي الى فكرة الحرية والمساواة والاخاء. وعلى الجيش الذي لعب في مصر دورا مشرفا ان يعلم ان التلاعب بهذه الاهداف، والمس بفكرة الدولة المدنية سوف يعني العودة الى عهود الخراب والظلام.
2- انتهى زمن الجمهوريات الوراثية، والقادة الملهمين بالعته والجنون والسفاهة. هذا يعني عودة الى روح المؤسسات واستقلال السلطات، واستعادة حرمة القضاء.
3- العالم العربي وحدة جيوسياسية وثقافية، وهذه حقيقة تتجاوز اللغة القومية القديمة الجوفاء، ونرى كيف تثبت نفسها في هذا العصف الثوري الكبير. لا رسالة خالدة ولا مجال لخطاب غائم جديد يحمل جميع بذور الفاشية التي سادت. هذه الوحدة التي تتأسس في ‘ميادين التحرير’ في جميع المدن العربية، هي افق لبناء استراتيجية عربية جديدة، تعيد بناء جامعة الدول العربية في وصفها مؤسسة اقليمية حقيقية.
لا يستطيع العالم العربي الجديد ان ينهض الا اذا استطاع معالجة مسألتي الاحتلال الاسرائيلي والفقر. لم يعد مسموحا ان لا يستعيد العالم العربي قراره ويفرض التراجع الشامل على اسرائيل من جهة، كما لم يعد مسموحا هذا التبذير الهستيري للثروة النفطية.
4- لقد انكشف الرياء الدولي في التعامل مع المنطقة. فرنسا الساركوزية كانت الحليف الأخير للديكتاتور التونسي المخلوع، وامريكا الأوبامية اضطرت الى كشف سياستها الحقيقية تجاه العالم العربي، عبر الفيتو على قرار ادانة الاستيطان الاسرائيلي. وهذا يعني ان العالم العربي الجديد عليه ان يبحث عن علاقات ندّية مع الجميع، وعلى الولايات المتحدة ان تعلم، قبل فوات الآوان، ان الزمن الاسرائيلي القديم يتهاوى، وان استفرادها بالهيمنة على الثروة العربية الى زوال.
5- هذه الثورة تصالح العرب مع العالم الجديد الذي ولد بعد نهاية الحرب الباردة. بدأ القرن الحادي والعشرون عند العرب عام 2011. هذه الولادة ستبقى ناقصة ما لم يضع العرب حدا نهائيا للهيمنة الاسرائيلية. وعلى العالم ان لا يدير اذنا صماء للحق الفلسطيني، كي لا تكون بداية القرن اكثر دموية من نهايته.
القدس العربي