عن الاستنكار المحرّك والصيرورات الثورية
فادي العبدالله
مقاومون صغار.
قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية، في تونس ثم في مصر، كان التحليل السياسي في فرنسا وغيرها، شأنه شأن خطاب السياسيين، غافلاً تماماً عن مثل هذا الاحتمال، بخلاف بعض الأعمال الفنية والثقافية التي لم تنفك تناقش معاني المقاومة والانتفاضة والاستنكار. هكذا تجاور، في حوار خفي، فيلمان “حتى المطر” (للاسبانية ايسيار بولين) و”مقاوماتنا” (للفرنسي رومان كوجيتور) مع دعوة المقاوم العتيق وسفير فرنسا ستيفان هيسل الشباب إلى استخدام الاستنكار محرّكاً لنشاط سياسي متمرد.
يشكل تاريخ ستيفان هيسل ومسيرته نموذجاً لسير أشخاص طبعوا مراحل مهمة من عالمنا المعاصر بصلابتهم واقتناعهم بعدد من المبادئ. فاليهودي الألماني الذي أتى الى فرنسا صغيراً مع عائلته، أصبح في ما بعد أحد معاوني الجنرال ديغول، والمقاومين ضد الاحتلال النازي، مثلما أصبح علامة في تاريخ الفرار المتكرر من المعسكرات النازية، غير أن انجازه الأهم ربما، قبل خوضه عالم الديبلوماسية، في مشاركته في صياغة الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو أوضح ان التشديد على صفة “العالمي”، بدل “الدولي” بحسب الاقتراح الانغلو ساكسوني، كان لإبراز ان هذه الحقوق اعلى من الحيز الذي تستقطعه الدولة أو تستطيع ان تشرّع في إطاره. هيسل إلى اليوم يلقّننا دروساً كثيرة.
دروس هيسل
ستيفن هيسل، البالغ من العمر 93 عاماً، يلقّننا درساً بكرّاسته ذات الصفحات الخمس والعشرين “indignez vous” التي نحار في تعريب تسميتها، والتي أصبحت ظاهرة في عالم النشر الفرنسي في نهاية العام المنصرم، حيث بيع منها حتى الآن أكثر من نصف مليون نسخة، وتتوجه نحو المليون قريباً في وقت قياسي وباتت شبه مفقودة في عديد المكتبات الباريسية، وهو درس أيضاً في انتشار القراءة ورغبة الفرنسين فيها، وفي نجاحات دور النشر من حيث لا نحتسب. سبب الحيرة هو في ارتباط indignation الفرنسية، ومعناها يقرب من استنكار، بمفهوم dignité أي الكرامة. فتسمية الكتيّب قد تعني استنكروا، كما لو كان الاستنكار رفضاً للمس بكرامتكم. غير أن ما يدعونا هيسل إلى انكاره ورفضه، ليس مساً شخصياً، بل مس بالكرامة الإنسانية كلها. وهو يحض الأجيال الشابة اليوم على العثور على مواضيع استنكارها، مقترحاً اثنين على الأقل، الأول تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، والثاني مشكلة البيئة العالمية، مشيراً إلى ضرورة انشاء “اقتصاد اجتماعي” ليس هدفه الوحيد زيادة الأرباح، متكئاً بقوة على المشروع الذي كانت المقاومة الفرنسية قد وضعته وقدّمته إلى ديغول يوم عاد إلى فرنسا المحررة، ويتضمن بحسب هيسل مبادئ أساسية ينبغي الدفاع عنها، لجهة تأمين العدالة الاجتماعية والرعاية الصحية وتمكين مواهب كل فرد من التفتح بحرية واخضاع وسائل الانتاج الضخمة إلى الدولة التي ينبغي ان يكون الصالح العام بوصلة أعمالها. وهذا أيضاً درس أساسي لنا، بأن العمل المقاوم لا يسعه، إن كان يريد حقاً صالح مجتمعه، أن ينفصل عن رسم خطة للمستقبل، وإلا كان مجرد عنف بحت، وأن المقاومين الحقيقيين، وإن قلة، لا ينفصلون عن الحلم بمستقبل أكثر عدالة لمجتمعهم، ولا يسعهم، ولو في ظل احتلال متوحش، إلا التمهل قليلاً للتفكر في كيفية اقامة هذه العدالة وكيفية الوصول إلى بلدٍ يقوم على المساواة والتضامن.
لا شك أن الرجل التسعيني كان ينظر صوب إيران، لا تونس أو مصر، حين كتب أن القادرين على التغيير إنما هم الشباب، اذا ما تمكنوا من الافادة من التقنيات المعاصرة في التواصل والتفاعل من أجل ضم جهودهم وإنشاء شبكات تجمعهم وتجعلهم قوة ضاغطة ذات معنى. وهو أيضاً مدرك تنوع اهتمامات هذا الشباب، في أنحاء مختلفة من العالم. ولئن كان لا يفرض أولوياته على الآخرين في برنامج يزعم الموضوعية، ويرى أن على كل فرد ان يعثر بنفسه على مواضيع استنكاره، فإنه شخصياً يرى أبرزها في قضية غزة المتحولة سجناً كبيراً يعاني فيه مليون ونصف مليون إنسان أسوأ انواع الحصار والقمع. هذا الرأي يفسر الحملة الكبيرة التي يشنّها ضده بعض الكتبة الفرنسيين المدافعين عن سياسة الحكومة الاسرائيلية.
لا يعني هذا أن الرجل يدافع عن “حماس” بالتأكيد، وهو، المقاوم ضد النازية، يدرك أن لا إمكان لمقاومة لا عنفية بالكامل في مواجهة كل ذاك العنف المتواصل والمدجج بالسلاح الضخم. غير أن حجته، الذكية طبعاً، هي إن الشجب الأخلاقي المبدئي للعنف لا يحل هذه الإشكالية، لكن قد يكون في الإمكان اقناع “حماس”، وغيرها، بالمقاومة السلمية عبر تأكيد عدم فاعلية العنف، بالاعتماد مثلاً على قلق اسرائيل الضخم من ممارسات سلمية أسبوعية في بعض القرى التي تعاني من آثار اقامة جدار الفصل، كما من الملاحقات القضائية الدولية لها.
إنها بالطبع لمفارقة أن يدعو مقاوم سابق ضد النازية إلى المقاومات اللاعنفية، وقد يكون ذلك درساً آخر من دروس هيسل الكثيرة بالقياس إلى العدد الضئيل لصفحات كرّاسته! فقد يكون ذلك تفاعلاً مع العصر حيث الإعلام والصورة وسائل أساسية لضمان النجاح، كما مع نجاحات حركة غاندي في الهند أو تسامح مانديلا في جنوب افريقيا. لكن دعوته هذه، بتأكيدها لا جدوى العنف، تشير إلى ان المعيار ليس أخلاقياً في نهاية الأمر، إنما واقعي. فما تجدي إذاً صواريخ “حماس” البدائية أو عملياتها الهزيلة، إن كان الرد يخلّف دماراً شاملاً في أوساط الفلسطينيين وحيواتهم؟ أما في حال المقاومة الفرنسية، وتحديداً مع التحدي الديغولي لفيشي وتوحيد صفوف المقاومين، فقد كانت متكئة على حرب متكافئة تخوضها بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة ضد الجيش النازي، وكانت تالياً جزءاً من هذه الحرب، وفي إطارها تكتسب معنى وفاعلية.
مقاومات شتى ما بين فرنسا واميركا اللاتينية
في فيلمه الأول، يرسم الفرنسي رومان كوجيتور صورة للمقاومة مغايرة عن صورة المقاومين العاملين على الإضرار بالجيش الألماني فيما يخططون لمستقبل فرنسا اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. في فيلمه هذا، تتشكل “المقاومة” من مجموعة مراهقين فارّين من حملات تسخير الشبّان الفرنسيين للعمل في المصانع الألمانية، آخر أيام الحرب العالمية الثانية، وإلى هذه المجموعة ينضمّ بطل الفيلم، فرنسوا (اسمه الحركي راسين)، برغبة في إثارة إعجاب صديقته المشتهاة، غافلاً ان لا مجال للتراجع إثر ذاك. بين هؤلاء المراهقين ذوي الهورمونات الفائرة والغرائز العنفية الفالتة، في ظل ممثل شبه وحيد عن عالم “الكبار” يصلهم بشبكة المقاومة ويحاول تلقينهم بعض المبادئ الأولية في العمل العسكري، يتعلم هذا “البطل” أن يكون جباناً، أن يسعى إلى الهرب، وحين تلزمه الأمور أن يحمل على كتفيه رفيقاً جريحاً، أن يصبح قاتلاً ومغتصباً فاقداً للكلام وسيلةً للتواصل بين البشر، حين يعود إلى صديقته. لا أحلام كبيرة، لا تمجيد للنضال، بل على العكس إبراز بصري لبشاعة الجراح والمعاناة، وإبراز قصصي لتحوّل العنف والكيد والانتقام قيماً وحيدة في ظل “المقاومة”.
فجأة يبدو هذا الاظهار الفج لعنف الشباب حناناً مكبوتاً وتسامحاً غفوراً، مع مونولوغ الختام الطويل، حيث يعود “البطل” مراهقاً، أي ذاك الذي لا يزال المستقبل أمامه ينتظر رسمه، متعباً ولكن حالماً. حين يعود المخرج ليهدي – برّقة – الفيلم إلى جده… المقاوم!
أما الإسبانية ايسيار بولين في فيلمها “حتى المطر”، فتصور قصة محبوكة بعناية عن تصوير فيلم في بوليفيا، يحكي حكاية احد الرهبان المنتفضين على سوء معاملة الاسبان للسكان الأصليين في القارة الأميركية بعيد اكتشافها. غير ان هذا التصوير يتزامن مع انتفاضة شعبية في المدينة البوليفية بعدما لزّمت الدولة قطاع المياه إلى شركة خاصة، مانعةً الفقراء حتى من جمع المطر أو حفر الآبار. أحد محرّكي هذه الانتفاضة، دانيال، مواطن محلي فقير اختير ليلعب دوراً رئيسياً في الفيلم، ما يمتحن صدق المخرج والممثلين في الغاية المزعومة لفيلمهم وتضامنهم مع المساكين! حتى بعد أن يدفع المنتج خمسة آلاف دولار له، يستمر دانيال في التظاهر ويُضرَب ويُعتقَل ويشوَّه وجهه، إلا انه يستمر في التظاهر قائلاً: “انت لا تدرك الأمر. الماء هو الحياة!”. هو إذاً مسوق ومدفوع إلى الاستمرار في الانتفاضة، التي تحوّل المدينة ساحة لمعركة قاسية تنتهي بانتصار الناس، بفعل صيرورة ثورية، إذا ما شئنا استخدام عبارات دولوز. لم يخترها بل أُلزم بها لأن السلطات لم تترك له ولرفاقه خياراً آخر، على رغم تكلفة هذا الخيار الثوري على حياة أبنائهم.
لكن ألم تكن تلك أيضاً حال بطل “مقاوماتنا” ورفاقه، المسوقين رغماً عنهم في صيرورة المقاومة؟ ليس التناقض بين موقفي الفيلمين إلا نظرة خادعة: في مقابل العنف المجاني والغريزي للمراهقين المقاومين، نجد اندفاعاً واستعداداً للتضحية من جانب البوليفيين البسطاء مع تجنّبهم العنف غير المبرر ولجوئهم إلى العمل السلمي، ما يزيد السلطة غيظاً ويدفعها إلى قمعهم بالحديد والنار، وهذا ما يغذي انتفاضتهم ويزيدها قوة حتى النصر. إلا أن الواقع أن أبطال الفيلمين، الفرنسي كما الإسباني، مدفوعون إلى اقدارهم دفعاً لا يد لهم فيه في كلا الحالين. جل ما في الأمر أن المأخوذ في صيرورة ثورية، يظل يحمل معه إليها خصائص سنّه ووعيه، فلا تجعله هذه الخصائص أذكى أو أشرف أو أجدر بالقيادة أو أحق بالسلطة من غيره من الناس، بل يظل المراهق مراهقاً وربّ العائلة ربّاً لعائلته يناضل من أجلها ويضحّي. في كل الأحوال، ليست مثل تلك الصيرورة قراراً يتخذ – عن وعي أو عن استخفاف أو عن رغبة في حيازة المجد أو الاستحواذ على اهتمام الكاميرات – ولا يجوز للمقاومة والانتفاضة أن تبنى على مثل ذلك، بل تلك الصيرورة هي ما لا مناص منه ولا محيد عنه إذا ما حكمت بها الظروف القاهرة والملحّة التي لم يعد من طاقة على احتمالها، وهذا ما علّمتنا إياه تونس ومصر، وقبلهما هبّة اللبنانيين لأسابيع قليلة سبقت استيلاء قادة الطوائف عليها وقيادتهم مركبها إلى حيث نعلم.
هل يجيب ذانك الفيلمان، في شكل ما، عن نداء هيسل إلى الشباب للاستنكار؟ صحيح أنه يدعو إلى إعمال العقل واختيار القضية، لا الانسياق وراء برامج وشعارات معلّبة سلفاً، إلا أن التمعن في هذين الفيلمين يشير إلى أن هيسل يخاطب شباباً غربياً يملك ترف الاختيار، إلا انه لن يقوم بانتفاضات عارمة إلا متى فاض به الاستنكار، من دون قرار مسبق، كما شهدت فرنسا في ضواحيها ومدنها وفي جامعات شبابها ومدارسهم بضع مرات في الأعوام القليلة المنصرمة. تشخيصه لفاعلية المقاومة السلمية صحيح بالطبع، لكنه يبدو مشروطاً بقوة الإعلام، وهذا ما بات محوراً رئيسياً للنزاع بين الأنظمة والشعوب (بعض الأنظمة قطع وسائل الإعلام قبل أن ينزل متظاهر واحد إلى الشارع!).
ماذا في إمكاننا أن نفعل لمساعدتهم؟ يطرح الفيلم الاسباني هذا السؤال. في اجمل مشاهد الفيلم، تقف شاحنة الجيش وفيها عدد من المعتقلين في قيظ الشمس اللاهبة، قبالة سيارة فيها المخرج وأحد ممثليه، انطون، اقلهم اكتراثاً بما يحدث في الخارج واكثرهم التزاماً للعمل وانغماساً في الشراب معاً. حين يلاحظهم، يتحدى السكّير بنادق الجنود المشهرة ويتقدم من دون وجل من الشاحنة حاملاً جعته، فيرشف جرعة ثم يعطيها إلى المعتقلين ليتقاسموها، ثم يرجع من دون أن ينظر إلى الخلف إلى سيارته. إلى سائر المنتفضين في شوارع تونس ومدن مصر، أمس واليوم، وغداً يلاقيهم أندادهم في أقطار شتى: ما يمكننا أن نفعل هو أن نفرد لكم صفحات جرائدنا وحيطان “فايسبوكنا” وأن نقول لكم “بصحتكم”، فقاسمونا ثَمَل الحرية ونشوة الأمل ¶
النهار