بعض المطلوب في الأيام القادمة
د. علي محمد فخرو
من المؤكد أن جميع الشعوب العربية دون استثناء قد حسمت أمرها عاطفياً ونفسياً وذهنيّاً مع مطلبي الحرية والديموقراطية.
ومن المؤكّد أيضاً أنها على استعداد أن تدفع ثمناً غالياً، من دمائها ونفيسها وأمانها، من أجل حسم هذين الموضوعين. وهي بذلك تحاول إحداث قطيعة جراحية مع خوف تاريخي من سطوة الاستبداد وتردُّد وجهل مفجعين لمواجهة رموزه ووسائل بطشه عبر قرون من ممارسة السّياسة ببلادة وقلة حيلة.
لكنّ طلب الحرية والديموقراطية شيء والانتقال إلى تحقُّقهما في الواقع شيء آخر. ويشعر الإنسان بأهمية ردم الفجوة بين هذين الشّيئين وهو يراقب الثورات والانتفاضات التي اجتاحت مؤخراً الوطن العربي كلٍّه. والسؤال هو: كيف السبيل لردم تلك الفجوة حتى لا تضيع التضحيات الشعبية المبهرة هباءَ وينجح المتربّصون الفاسدون المستبدّون في منع الانتقال الحقيقي المستمر إلى الحرية والديموقراطية أو تشويهه وإدخاله في دّوامة الأمراض المجتمعية العربية الكثيرة؟
هناك أولاً الأخذ بنصيحة خطيب ورجل الدولة اليوناني ديموسثينوس الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد وهي ‘أن هناك إجراء يعرفه العقلاء، وفيه المصلحة والأمن للجميع، خصوصاً عند مواجهة الديموقراطيين للمستبدّين، وهو إجراء ممارسة الشكّ’. المقصود هنا هو ممارسة مستوى عقلاني وحذر من الشكّ تجاه ما يقوله ويعد به ويطرحه المستبدّون حتى لا يضيع الوقت ولا تتيه المطالب. ليس المقصود هو الشّلل أو التردّد المرضي وإنما المقصود هو بقاء العين مفتوحة لرؤية المطبّات التي تحفرها هذه الجهة أو تلك.
هناك عامل الوقت المعطى لعملية الانتقال لأجواء الحرية ولممارسة الديموقراطية. ليس المهم أن يكون قصيراً أو طويلاً ولكن المهم هو مقدار ونوع وصدق الجهود التي ترافقه. فإذا كانت تلك الجهود تحقق يومياً انتصارات وخطوات نحو الأهداف المعلنة ولا تسمح بظاهرة الخطوة الواحدة للأمام التي تتبعها خطوة للخلف فلا خوف على مسيرة الانتقال نحو الحرية والديموقراطية من التعثُّر. ولنتذكّر دوماً بأن الديموقراطية سيرورة لها بداية وليس لها نهاية ولها أرضيّة ولكن ليس لها سقف. وليتذكّر من سيضعون تلك الجهود المطلوبة القول المأثور من أن الديموقراطية هي نظرية تؤكّد قدرة الناس العاديٍّين على معرفة ما يريدون وأنهم يستحقُّون الحصول على ما يريدون بجدارة وأمانة. فالاستماع إلى نبض الشارع الذي قدّم التضحيات هو الذي يجب أن يقود جهود المناضلين من أجل الديموقراطية والحرية.
هناك ثالثاً الحاجة لوجود مؤسسات مجتمعيّة تقوم بتدريب الألوف من الشباب الثائرين أو المنتفضين على شروط وأولويات ووسائل ممارسات الانتقال للديموقراطية. إن الشباب الذين قاموا ويقومون وسيقومون بالتحركات التاريخية المتألّقة في أرض العرب كلها سيحتاجون الى اكتساب المعرفة والمهارات والاتجاهات والعادات التي ستجعل منهم أدوات مجتمعية قادرة على قيادة مسيرة الإنتقال بمهارة وبمستوى أخلاقي رفيع وبقدرة فائقة على مقارعة ألاعيب الفاسدين والمفسدين لكل شيء نبيل في دنيانا العربية.
قضية الإعداد والتدريب هذه هي قضية القضايا في الأيام القادمة. إن المجتمع العربي المفجوع بآلام وجراحات الماضي والمتقيّح بانقسامات الحاضر الطائفية والقبلية والسياسية العبثية لن يستطيع تحمُّل التجريب وكثرة الأخطاء غير المقصودة وعثرات مسيرة النضُّج عند الشباب. ذلك أن عيش المجتمعات العربية تحت سقف ألاعيب الاستبداد عبر قرون طويلة جعلته قابلاً للإنكسار السّريع ولعدم القدرة على النّفس الطويل. ولا علاج لذلك إلا بوجود قيادات شابّة مهيّأة، من قبل نفسها وبمساعدة الآخرين، لتكون في مستوى مواجهة أمواج أعداء التغيير والإصلاح والتثوير في أرض العرب، وما أكثرهم وما أعظم قدراتهم على الخداع والمناورة والنّفاق.
لقد قبل المجتمع العربي، مرغماً أحياناً ومستسلماً مخدوعاً راضياً أحياناً أخرى، بالعيش تحت أنظمة استبدادية ظالمة فاسدة جشعة عبر حوالي أربعة عشر قرناً من الزمن.
للخروج من ذلك الإرث، وبعد أن كسر حواجز الخوف والتخويف وقبل دفع الثمن الباهظ، سيحتاج إلى عدة عقود من الزّمن تتصف بجهود لا تتوقف وبعزائم لا تتعب وبقيادات قابلة للتعلُّم والتكيف وبعدّة أجيال تضحّي بوقتها وعرقها ودمها من أجل أجيال ستأتي وتعيش في أرض عربية لن تقبل قط الرجوع إلى الملك العضوض أو الجمهوريات البهلوانية الإرثية أو الحزب القائد المهيمن أو الجيش المخلّص أو الزّعيم الملهم الأوحد أو رجال الأعمال الأنانيين الجشعين، وإنما سيكون هناك فقط المواطن الحر المسؤول العادل النبيل المتآخي مع الآخرين.
القدس العربي