صفحات مختارة

العرب والانفراج التاريخي

هاشم صالح
حتى الآن كنت أتحدث عن العرب والانسداد التاريخي. ولكن بعد الانتفاضتين المباركتين في كلّ من تونس ومصر آن الأوان للتحدث عن العرب والانفراج التاريخي. فما بعد الانسداد الا الانفراج. بالطبع يخطئ من يظن أن الأمور قد انتهت! فالاحتقان لا يزال سائدا في معظم الدول العربية الأخرى وخاصة دول الحزب الواحد والصحيفة الواحدة والفكر المؤدلج المهترئ الذي يذكرك بالعهد القديم لدول أوروبا الشرقية أو حتى كيم ايل سونغ وابنه في كوريا الشمالية. لا داعي لذكر الأسماء فهي معروفة. وهذا الانسداد لن يزول دفعة واحدة حتى في تونس ومصر. نقول ذلك رغم أن التاريخ أخذ يتنفس الصعداء في هاتين الدولتين المباركتين. ولكن المشاكل من التراكم والضخامة بحيث أنك تكاد تشفق على الحكام الجدد الذين سيتحملون المسؤولية الآن. فحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية وتأسيس دولة الحق والقانون، أي دولة مدنية تنطبق قوانينها على الجميع دون استثناء، عملية ليست سهلة على الاطلاق. لذلك سوف أبتدئ دراستي هذه بالتحدث عن جوانب الانسداد قبل ان أختتمها بلمحة بسيطة عن آفاق الانفراج القادم ان شاء الله في معظم أقطار العرب.
اننا نعاني من انسدادين خطيرين لا انسداد واحد. وهما منفصلان ومتصلان في ذات الوقت. الأول انسداد خارجي يخص عدم القدرة على حل مشكلة فلسطين لا حربا ولا سلما. كل الحلول جربت وكلها فشلت. ونحن أمام الحائط المسدود في حيص بيص. والأنظمة المتعاقبة تقول لك : لا ديمقراطية ولا حرية ولا تنمية حقيقية الا بعد تحرير فلسطين او حل مشكلة فلسطين.انها القضية المقدسة التي تشكل أولوية الأولويات. ولكن المشكلة هي انه بعد مائة سنة من الصراع لم نستطع تحرير فلسطين ولا تحرير الداخل من الفقر والجهل والتخلف. لقد فشلنا على كلا الصعيدين. وهنا يكمن الانسداد الخانق. ومزايدات الأنظمة الحاكمة لم تعد مقنعة على الاطلاق. فلم يعد أحد مستعدا لانتظار تحرير فلسطين من اجل انشاء نظام دستوري قانوني ديمقراطي. ولا نعرف لماذا يتعارض تحرير فلسطين مع كل ذلك! وبالتالي فهذه الورقة سقطت من أيدي الأنظمة رغم ان بعضها لا يزال يستخدمها بشكل سمج ومفضوح.
أما الانسداد الثاني فهو داخلي يخص عدم القدرة على حسم المسألة التراثية : أي بلورة تأويل جديد ومستنير لكل تراثنا العربي الاسلامي. وهو التأويل العقلاني القادر على ان يصالحه مع الحداثة الكونية. وبناء على هذا التأويل الجديد سوف تتحدد علاقتنا بالآخر غربا كان ام شرقا. كما سوف تتحدد علاقتنا مع بعضنا البعض وتنحل مسألة الانقسامات العرقية والطائفية التي تمزقنا وتهدد بتحويلنا الى دويلات متنازعة او متخاصمة.
التحالف الموضوعي بين الانسداد الخارجي والانسداد الداخلي:
لكي أشخص الوضع اكثر سوف أضيف ما يلي : أنا أزعم بأن هناك تحالفا موضوعيا بين العدو الداخلي والعدو الخارجي على تفاقم هذا الانسداد التاريخي : أي باختصار شديد بين الاصولية الراديكالية والصهيونية العالمية. وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال تفجير كنيسة النجاة في بغداد او كنيسة القديسين في الاسكندرية. القوى المعادية للعرب والمسلمين وجدت في هذين التفجيرين الاجراميين فرصة ذهبية لتشويه سمعة الاسلام والمسلمين اكثر فاكثر. يحصل ذلك كما لو ان صورتنا لم تتشوه بما فيه الكفاية بعد 11 سبتمبر وتفجيرات مدريد ولندن وسواها حتى نضيف مشاكل جديدة. وقضية فلسطين هي اول من يدفع الثمن. لماذا تراجعت واصبحت في الدرجة الثالثة او الرابعة من اهتمامات العالم؟ لأن هناك شيئا آخر غطى عليها.
البعض يقول : لا يجوز لنا ان نستخف بالعقائد واليقينيات المقدسة وثوابت الأمة.ومعهم الحق. ولكن البعض الآخر يقول : لا يمكن ان نخرج من حالة الانسداد التاريخي الا اذا وضعنا هذه العقائد والثوابت والمقدسات على محك النقد التاريخي والتقييم الفلسفي والغربلة الشمولية لفرز الصالح عن الطالح. ومعهم الحق ايضا. فكيف يمكن ان نصالح بين هذين الموقفين اللذين يبدوان متناقضين تماما؟أليست حالة الانسداد التاريخي ناتجة عن هذا التناقض بالذات؟ هكذا نجد أنفسنا وكأننا ندور في حلقة مفرغة او مغلقة كليا.فمن جهة لا تحرير فكري حقيقي بدون نقد راديكالي للعقلية التراثية التي تتحكم بنا.ومن جهة اخرى لا يمكن نقد هذه العقلية التراثية لانها تتخذ طابع المقدسات والمعصوميات والمسلمات التي لا تناقش ولا تمس. فما الحل؟ ما العمل؟
الحل هو ان يتم ذلك خطوة خطوة وبالتدريج وليس دفعة واحدة. ويمكن ان يساهم حتى رجال الدين أنفسهم في هذه العملية. نعم رجال الدين!
مثال عملي على فك الانسداد التاريخي في الاسلام:
للانتقال من مرحلة اللاهوت السياسي الطائفي القديم الذي سيطر علينا طيلة قرون وقرون، الى مرحلة الفلسفة السياسية الحديثة القائمة على فكرة المواطنية وحقوق الانسان واحترام كرامته أيا يكن، لسنا بحاجة الى اجراء قطيعة راديكالية مباغتة قد تزعزع العقلية الجماعية في الصميم. يمكننا ان ننتقل بهدوء تدريجي فنستعيد ثقة العالم بنا واحترامه لنا ونستطيع حل المشاكل العالقة بيننا.
بالأمس القريب كنت أتمشى في احد شوارع المغرب الجميل حيث أقيم حاليا فوقع بصري فجأة على صفحات احدى الجرائد التي تقول في صفحتها الاولى : علماء ومفكرون يدعون الى الاستعاضة عن مفهوم أهل الذمة بمفهوم المواطنة. أعترف بأني فوجئت، ويا لها من مفاجأة سعيدة، عندما علمت بعد قراءة المقال وأنا لا أكاد أصدق عيني ان الدكتور يوسف القرضاوي والأستاذ راشد الغنوشي مستعدان للتخلي عن مصطلح أهل الذمة.صحيح انه ليس مصطلحا قرآنيا ولكنه مكرس في الفقه الاسلامي الكبير منذ مئات السنين الى درجة انه اتخذ طابع المعصومية. الدكتور يوسف القرضاوي يقول ما معناه : الفقهاء المسلمون جميعا قالوا : ان أهل الذمة من أهل دار الاسلام. ومعنى ذلك بالتعبير الحديث انهم: مواطنون. فلماذا لا نتنازل عن هذه الكلمة(أهل الذمة) التي تسوءهم ونقول : هم مواطنون؟
برافو!هذا عين العقل. هذا أفضل رد وأبلغ رد على التكفيريين الذي ارتكبوا جريمة كنيسة النجاة او كنيسة القديسين. هذا دليل على ان الفقه الاسلامي يمكن ان يتطور من الداخل ومن قبل كبار علماء الدين المسؤلين. لو قال هذا الكلام محمد اركون، وهو يقوله منذ سنوات وسنوات، لقامت عليه الدنيا ولم تقعد ولصرخوا في وجهه غاضبين مستنكرين: أنت مستغرب، مستشرق، خارج على أمة الاسلام..أنت تريد تدمير الثوابت والمقدسات، الخ. ولكن الذي يقوله الآن هو رئيس اتحاد علماء المسلمين من جهة، وزعيم الحركة الاسلامية التونسية(النهضة) من جهة أخرى. وكلامهما له وزن شعبي في اوساط جماهير المسلمين. هذا الكلام يفحم بابا روما ايضا الذي يتهم الاسلام بأنه عاجز عن التطور لاهوتيا على عكس المسيحية. وبالتالي ففائدته مزدوجة.قد يزاود عليهما الدكتور ايمن الظواهري ويتهمهما بالخروج على الاسلام!لأنه دائما يوجد مزايد ومزايد اكثر! ولكن ماهمّ! فشعبيتهما داخل الجماهير الاسلامية لا تقل أهمية عن شعبيته ان لم تزد.
ولكن اذا كانت كلمة “أهل الذمة” ليست قرآنية فان كلمة “الجزية” قرآنية.ومع ذلك فان الشيخ يوسف القرضاوي مستعد للتخلي عنها استنادا الى موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.يقول الشيخ مردفا:
لماذا لا نتنازل عن هذه الكلمة(أهل الذمة)التي تسوؤهم ونقول هم (مواطنون) في حين ان عمر تنازل عما هو أهم من كلمة أهل الذمة؟ لقد تنازل عن كلمة (الجزية) المذكورة في القرآن حينما جاءه عرب بني تغلب وقالوا له : نحن قوم عرب نأنف من كلمة الجزية فخذ منا ما تأخذ باسم الصدقة ولو مضاعفة فنحن مستعدون لذلك.فتردد عمر في البداية ثم قبل أخيرا.
هذا مثال ساطع على ان التطور الفقهي او التطور اللاهوتي شيء ممكن بل وضروري للحفاظ على الوحدة الوطنية المتماسكة للبلدان العربية. انه تطور يزيل الخوف من نفوس المسيحيين العرب ويرد لهم الاعتبار ويشعرهم بأنهم أخوة للمسلمين العرب ومتساوون معهم في الحقوق والواجبات داخل الدولة المدنية الحديثة ذات القوانين التي تنطبق على الجميع.
أما الشيخ راشد الغنوشي فيصل به الأمر الى حد تحييد كلمة الجهاد التي تعطي فكرة مرعبة ومشوهة عن الاسلام الحنيف في الخارج وتؤلب علينا دول العالم أجمع وتشوه سمعتنا.يقول مثلا:
السلم هو الأصل في العلاقة مع غير المسلم.فالجهاد لم يُجعل أداة للدعوة الى الاسلام او لفرضه على مخالفيه او لاستئصال الكفر من العالم.
كلامه مطابق للمقصد القرآني: لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، او:فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. او: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين. الخ. قلت مطابق للمقصد القرآني ولكن جزئيا في الواقع وليس كليا. لماذا؟ لأن مقولة “استئصال الكفر من العالم” تدل على رفض الاعتراف بالتعددية الدينية او العقائدية. فالآخرون من مسيحيين او يهود او بوذيين الخ لا يعتبرون أنفسهم كفارا. بل انهم يحبون تراثهم ويتمسكون به مثلما نحب نحن تراثنا ونتمسك به ونفتخر وبحق. انه يخلع المعنى على وجودهم ويبث روح الأمل والرجاء في قلوبهم تماما كما يفعل تراثنا العربي الاسلامي بالنسبة لنا. أيا يكن من أمر فان عشرات الفتاوى اللاهوتية التي كانت تحظى بقدسية مطلقة سوف يتم تعديلها او التخلي عنها في السنوات القادمة لكي يتصالح العرب والمسلمون مع الحداثة والعصر. ومصطلحا “أهل الذمة” و”الجزية” ليسا الا مثالين بسيطين من جملة أمثلة أخرى عديدة..كل الفقه القديم الذي يتحكم برقابنا منذ ألف سنة سوف يتم تفكيكه، وكل اليقينيات اللاهوتية الراسخة رسوخ الجبال في العقلية الجماعية سوف تتعرض للأرخنة والغربلة والتمحيص.
القرآن الكريم والانفتاح اللاهوتي على الآخرين:
لو انه فتحت كليات لتعليم تاريخ الأديان المقارنة في الجامعات العربية لفهمنا ذلك بسهولة. والقرآن الكريم يقر بالتعددية في العديد من آياته البينات:
يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم ان الله عليم خبير(الحجرات.13)
او : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون(المائدة.48)
او: ان الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون(البقرة.62)
هكذا تلاحظون ان القرآن الكريم يعترف بالتعددية العقائدية بشرط التقى والعمل الصالح. ثم ان الله هو وحده الذي يحكم على البشر يوم القيامة بالكفر او بالايمان ولا يحق لمخلوق على وجه الارض ان يفعل ذلك مكانه. وبالتالي فالتكفير الذي يمارسه المتزمتون أمر مرفوض وناتج اما عن الجهل واما عن التعصب الاعمى واما عن الاثنين معا.كل الفتاوى التكفيرية باطلة ضمن هذا المنظور القرآني الواسع والحكيم.بمعنى : ان كل من آمن بالله وعمل صالحا وفعل الخير لنفسه وللمجتمع فهو مؤمن أيا يكن دينه او عقيدته او مذهبه. هكذا تلاحظون ان هناك فهما آخر ممكنا لرسالة القرآن والاسلام. وهو فهم مضاد للتأويل المتزمت الضيق الذي يهيمن علينا منذ عصور الانحطاط وحتى اليوم.
و تلاحظون ايضا ان ما يدعى بالثوابت يمكن ان تتغير وتتطور اللهم الا اذا اعتبرنا ان الجهل من ثوابت الأمة! وهذا غير صحيح او قل لا ينطبق الا على عصور الانحطاط. أما في العصر الذهبي المجيد فكان نور العلم هو من ثوابت الأمة. وتلاحظون ايضا أني لم أستشهد بمفكري الحداثة العربية العلمانيين لتدعيم فكرتي وانما بالشيوخ العقلاء فقط.كان يمكن ايضا ان أستشهد هنا بالاستاذ جمال البنا الذي له مواقف اكثر جرأة فيما يخص قضية الحجاب والاختلاط والايمان وسواها.
المسيحية الأوروبية والخروج من الانسداد اللاهوتي:
والواقع ان علماء المسيحية في أوروبا خرجوا على لاهوتهم القديم المنغلق بعد الفاتيكان الثاني فلماذا لا يخرج علماء الاسلام؟ ألم يعترفوا بالاسلام لاول مرة عام 1965؟ ألم يقولوا بأنهم يحترمون عقائد الاسلام والمسلمين؟ ألم يقولوا بأن كل من آمن بالله خالق السماوات والارض فهو ناج عند الله وداخل في سلامه وفي مقدمتهم: المسلمون؟
هل تعتقدون انه كان سهلا عليهم ان يقولوا هذا الكلام وينفتحوا كل هذا الانفتاح على العدو التاريخي؟ لقد نقضوا احدى ثوابت العقيدة الكاثوليكية على مدار القرون: وهي تكفير المسلمين. وهذا يعني ان التطور والانفتاح ممكن حتى في الشؤون اللاهوتية الاكثر حساسية. لقد وضعوا بذلك حدا لتلك المقولة اللاهوتية الشهيرة التي حكمت الكنيسة مدة ألفي سنة تقريبا والتي تكفر كل الاديان الاخرى ما عدا المسيحية.
من المعلوم ان اللاهوت المسيحي كان ينص على ما يلي:خارج الكنيسة الكاثوليكية الرومانية المقدسة لا خلاص في الدار الآخرة ولا مرضاة عند الله. وهكذا استبعدوا من رحمة الله ليس فقط كل الاديان الاخرى غير المسيحية وانما ايضا المذاهب المسيحية غير الكاثوليكية وبخاصة المذهب البروتستانتي الذي كفروه لعدة قرون.
كان ينبغي ان أتحدث عن كيفية فك الانسداد التاريخي داخل الاسلام نفسه بين المذاهب الكبرى: السنية والشيعية والاباضية. هنا ايضا يوجد تكفير وتكفير مضاد وينبغي الخروج من هذه الحالة التكفيرية القروسطية والتوصل الى ايمان جديد واسع رحب يتسع صدره للجميع. ينبغي على مؤتمرات الحوار بين المذاهب الاسلامية ان تنجح مثلما نجحت الحركة المسكونية التي قربت بين المذاهب المسيحية في أوروبا وتجاوزت خلافاتها المزمنة وتكفيرها لبعضها البعض.وكل ذلك مؤشر على ضرورة بلورة لاهوت جديد في الاسلام يتجاوز اللاهوت القديم المرتكز على حديث الفرقة الناجية وبقية الفرق في النار.
هكذا تلاحظون ان فك الانسداد التاريخي وانطلاق المارد من قمقمه أمر ممكن. ولتحقيق ذلك ينبغي تطبيق كل المناهج الحديثة على التراث الاسلامي كما فعل محمد اركون بكل تمكن واقتدار. وهنا نتخطى بالطبع منظور الشيوخ التقليديين المذكورين آنفا لكي ندخل في منظور جديد يكمله ويتجاوزه في آن معا: هو منظور الحداثة الفكرية والحرية الدينية الكاملة. ولكن كل ذلك سيأتي على مراحل وليس دفعة واحدة. وبالتالي فالحل سيكون من الداخل لا من الخارج والا فلن يكون مقنعا للجماهير المؤمنة العريضة ولا ناجعا ولن يرسخ في الارض. نعم ان تجديد الفكر الاسلامي أمر ممكن.وقد اصبح ضرورة ملحة في وقتنا الراهن اذا ما أردنا الخروج من حالة الانسداد الخطيرة التي نعيشها والتي تهدد بالتفاقم، فالانفجار. بل هي منفجرة تماما. وبالتالي فلنجيش كل طاقاتنا لتطبيق المناهج الألسنية والتاريخية والاجتماعية والانتربولوجية المقارنة على تراثنا العربي الاسلامي العريق. فالتحرير الفكري لن يحصل قبل القيام بهذا العمل النقدي الكبير.
هل الانفجار هو الحل الوحيد لفك الانسداد التاريخي؟
أخيرا لا بد ان نقول كلمة عن انسداد ثالث لم أتحدث عنه حتى الآن ألا وهو الناتج عن الاستقطاب الثنائي الحاد بين الانظمة البوليسية ومعارضاتها الاصولية. وقد سبب الاحتقان الشديد على مدار الثلاثين عاما الماضية، الشيء الذي انتهى بالانفجار. وهو أمر كان متوقعا لان حالة الانسداد تفاقمت جدا في الآونة الاخيرة ولم يعد هناك من حل آخر. فالضغط يولد الانفجار بحسب القانون الفيزيائي الذي ينطبق على البشر ايضا.انها أنظمة رابضة على قلوب الشعوب أبديا دون ان تستطيع تحقيق أي نوع من انواع التحرير: لا الداخلي ولا الخارجي.لا فلسطين تحررت ولا الحريات الداخلية تحققت. وبالتالي فالامور لا يمكن ان تستمر على ما هي عليه الى أبد الآبدين.عاجلا او آجلا سوف يتم تكنيس هذه الأنظمة بشكل او بآخر حتى ولو حل محلها الشيطان!وقد تأخر سقوطها في الواقع اكثر مما يجب.فقد كان متوقعا ان تنهار بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية التي تدعمها. كنا نتأمل ان تهب علينا رياح الحرية التي هبت على شعوب أوروبا الشرقية بعد سقوط جدار برلين منذ عام 1989فأخرجتها من نظام الحزب الواحد واللغة السياسية المتخشبة والمهترئة ودمقرطتها. ولكن من الأفضل ان يجيء الشيء متأخرا على الا يجيء أبدا كما يقول المثل الفرنسي. أيا يكن من أمر فان الانفجار الثوري المبارك الذي حصل في كل من تونس ومصر يفتح نافذة على الأفق ويفك الانسداد التاريخي بالقوة بعد دفع ضريبة الدم. كل ما نتأمله هو ان تنجح القوى الاصولية في عملية اصلاحها الداخلي كما فعلت في تركيا على يد أردوغان ورفاقه. وعندئذ لا تعود هناك مشكلة عويصة تحول دون تعاون كلا جناحي الأمة، الاسلامي والعلماني، لانقاذ الوضع. لا ريب في ان المشاكل ستظل مطروحة ولن تحل بين عشية وضحاها. ولكن على الاقل يمكن ان ندخل في دروب التعددية السياسية والتناوب السلمي على السلطة بعد طول جمود واختناق. اني أعرف اني أستبق على الامور كثيرا وأتفاءل اكثر مما يجب. ولكن لا بد من الانخراط في هذا الاتجاه بشكل او بآخر. فنظرية الاستعصاء الاسلامي او العربي على الديمقراطية والشفافية سقطت بفضل التجربة التركية. واذا ما نجحت التجربة التونسية والمصرية الجارية حاليا وعرفت كيف تستفيد من التجربة التركية فان ذلك سيؤدي الى تعميمها على كل العرب. هذا هو الممكن اليوم. أما المستحيل فلن يتحقق قبل عشرين او ثلاثين سنة. وذلك باعتبار ان مستحيل اليوم هو الممكن غدا. ونقصد به الحرية الكاملة والديمقراطية الكاملة والمساواة الكاملة لجميع المواطنين في ظل دولة القانون والمؤسسات. وبالتالي فنحن نسير في أحسن الأحوال نحو النموذج التركي : أي النموذج الاسلامي الوسطي المستنير نسبيا. أما التنوير الكامل فلا تستطيع مجتمعاتنا ان تتحمله اليوم. ينبغي ان ننتظر لكي تنضج الظروف ويصبح مستحيل اليوم هو ممكن الغد.
الغرب والانسداد التاريخي للعرب:
بقيت كلمة أخيرة عن الغرب المتغطرس ودوره في تفاقم الانسداد التاريخي للعرب. بالاضافة الى قضية فلسطين التي يرفض حلها بسبب تأييده المطلق للباطل الصهيوني وخيانته لكل المباديء التنويرية والانسانية هنا فان الغرب لعب دورا خطيرا عندما دعم أنظمة الاستبداد في العالم العربي ولا يزال. وبرر ذلك بأنه يريد تحاشي الأنظمة الأصولية على الطريقة الايرانية. هذه الحجة ظلت معقولة وتملك بعض المبررات حتى اندلاع الثورتين التونسية والمصرية. هاتان الثورتان المباركتان وضعتا حدا لهذه الأطروحة التي سيطرت على مثقفي الغرب وقادته طيلة الثلاثين عاما الماضية. بعد الآن لا يوجد خوف من اندلاع ثورة أصولية في العالم العربي. بل ويمكن القول بأننا دخلنا في مرحلة ما بعد الأصولية. صحيح ان الأصولية كفكر قروسطي راسخ لم تنته ولن تنتهي قبل وقت طويل. ولكنها انتهت كموجة هادرة تكتسح في طريقها كل شيء. فشعار “الاسلام هو الحل” لم يعد مقنعا الا لشرائح محدودة في مجتمعاتنا بعد التجربة الايرانية والسودانية والطالبانية المخيفة. وهنا تكمن فائدة هذه التجارب السلبية المكلفة جدا. فلولاها لما سقط ذلك الوهم اللاهوتي الكبير الجبار الذي يسيطر على عقول الملايين والقائل بأن تطبيق الشريعة والنظام الاصولي القروسطي سوف يحل كل مشاكلنا بضربة عصا سحرية.اذن الحل الاصولي انكشفت آفاقه ومحدودياته بعد ان مررنا به وجربناه وذقنا طعمه المر. انظر كيف تحاول القوى الديمقراطية في ايران ان تتخلص منه بأي شكل. حتى الاخوان المسلمون او قسم منهم على الأقل تخلوا عن وهم الدولة الدينية الثيوقراطية وأصبحوا يتحدثون عن الدولة المدنية الدستورية الحديثة، دولة القانون والمؤسسات. وأصلا لولا تصريحاتهم الطائفية السابقة وفتاواهم التكفيرية التي تخلع المشروعية على الاغتيالات الاجرامية والتفجيرات العشوائية لما طال عمر الأنظمة البوليسية الى مثل هذا الحد. نستخلص من ذلك انه لم يعد هناك أي مبرر للغرب في دعم أنظمة توتاليتارية تخنق الحريات على كافة الأصعدة والمستويات كما فعل طيلة ثلاثين سنة بحجة مكافحة الأصولية. وهذا يعني ان الأنظمة البوليسية المتبقية ينبغي ان تتساقط الواحدة بعد الاخرى بعد سقوط بن علي ومبارك.لم يعد هناك أي مبرر لوجودها او استمراريتها كرابضة على قلب الشعوب. هذا هو منطق التاريخ.واذن فالمسألة مسألة وقت ليس الا.
نعم ان الانسداد التاريخي الحاصل طيلة الثلاثين او الاربعين سنة الماضية ناتج عن الخطر الاصولي الذي عرفت الأنظمة القائمة كيف تستخدمه كبعبع لاقناع الغرب بدعمها واطالة عمرها. وبالفعل فان التصريحات العنترية، الطائفية، التكفيرية، المرعبة، للاخوان الاصوليين أعطت لكلامها مصداقية وآذانا صاغية في الغرب الاوروبي-الاميركي الذي يتحكم بمصير المنطقة والعالم. وكان للغرب عذره في عرقلة وصولها الى السلطة حتى بعد ان ربحت الانتخابات في الجزائر مثلا. ولكن هذه الحيلة انكشفت الآن بعد ان تخلى الاصوليون عن خطهم التكفيري القروسطي الظلامي وتبنوا لغة جديدة مطمئنة او على الاقل غير مفزعة كما في السابق. وعندئذ اكتشفنا ان الانسداد التاريخي اللاهوتي يمكن ان ينفرج اذا ما تخلينا عن التفسير الحرفي السلفي الارهابي للنصوص الدينية وتبنينا تأويلا آخر لرسالة الاسلام والقرآن.وهذا التأويل الآخر المنفتح الذي بلوره الترابي قبل القرضاوي والغنوشي هو الذي سيفقد الأنظمة البوليسية مصداقيتها وسيعجل الاطاحة بها.لقد انتهت الفزاعة الاصولية! أين هي الأصولية في ثورة الياسمين المباركة او في الزلزال المصري العظيم؟
هكذا نلاحظ ان الانسداد التاريخي للوضع العربي ناتج عن عدة عوامل لا عامل واحد.انه معقد ومتفاقم ومحتقن الى أقصى الحدود بسبب تشابك هذه العوامل المختلفة بالذات.من هنا الطابع الانفجاري للوضع العربي برمته.فما بعد الانسداد الا الانفجار. لكن لنعد ولو للحظة الى خيانة الغرب للتنوير الذي يزعم انه يحكم باسمه ومن خلال قيمه.كيف برر هذه الخيانة عندما تعامل مع الانظمة الاستبدادية بل وحماها من الانهيار؟ يقول التونسي بشير بن يحمد رئيس تحرير مجلة جون أفريك الصادرة في باريس والواسع الاطلاع ما يلي : ان الدعم المكيافيلي الوقح الذي تحظى به الأنظمة العربية البوليسية الفاسدة من قبل قادة الديمقراطيات الغربية الكبرى له بواعث دقيقة محددة تماما وليس عبثيا ولا عشوائيا.وفي احدى المرات سألت أحد قادة هذه الدول الكبرى عن السر في دعم أنظمة من هذا النوع فرد علي قائلا:
لقد فكرنا في الأمر طويلا وقلبناه من كافة جوانبه وتوصلنا الى النتيجة التالية:
لقد اضطرتنا الظروف الى دعم أنظمتكم الديكتاتورية وحكامها،وتوثيق علاقاتنا معهم،ودغدغة أناهم المتضخمة،وغض الطرف عن فظائعهم وحقاراتهم،لأنهم يؤمّنون لنا المصالح التالية:
أولا : الانضمام العام المؤكد الى السياسة الخارجية للغرب في مجملها وبخطوطها العريضة.
ثانيا : لأن هذه الأنظمة تؤمّن السلام بين الدول العربية واسرائيل الغالية علينا جدا.
ثالثا : مساهمة هذه الأنظمة العلنية او السرية معنا في محاربة الارهاب.فقد وظفت أجهزة مخابراتها لمساعدتنا على محاربة الأصولية الراديكالية بما فيها ايران.
رابعا : ان هذه الأنظمة تؤمن لنا التوصل الى مصادرها البترولية.
لهذه الأسباب كلها دعمناها ومنعنا الحركات الاصولية من قلبها والحلول محلها.
(مجلة جون أفريك.الافتتاحية.عدد 11 فبراير.2011.)
موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى