صفحات العالم

حلقة جديدة في عولمة الهلع

محمد الحدّاد
لم يتأكد بعد الخبر، لكن مؤشرات عديدة تدفع إلى الاعتقاد بأن مستودعات مؤسسة عالمية ضخمة لتصنيع لحوم الخنازير هي التي كانت مبعث الوباء الذي يهدّد العالم اليوم، والمؤسسة أميركية المنشأ عالمية في رأس مالها، اختارت منطقة قروية نائية في المكسيك لبناء مستودعاتها. ليست هذه أوّل مرة يواجه فيها العالم خطرا منبعثا من مواد استهلاكية، بل كل اللحوم قد مرت بالتوالي في أزمات من هذا النوع، من الأبقار المجنونة إلى الأسماك المسمومة مرورا بأنفلونزا الطيور. ما يلفت الانتباه أنّ كلّ أزمة تنشر الهلع بين كل سكان المعمورة ويموت بسببها بشر ويصاب آخرون ثم يغلق الملف وكأن شيئا لم يحدث، ولا يُعلم على وجه الدقة والتأكيد ما كان سببها ومصدرها، وهل كانت حالة الاستنفار ضرورية أم مبالغا فيها، وهل كانت سببا في تفادي الأدهى أم أنها أضافت إلى مشاكل البشر مشكلة جديدة. هي عولمة الهلع، إذ يكفي أن يحدث حدث في مكان معزول من العالم حتى يدخل كل البيوت ويصبح حديث الجميع ويمثل تهديدا لكل إنسان.
كنت أشاهد تحقيقا تلفزيونيا عن القرية المكسيكية النائية التي يبدو أنها كانت مبعث الوباء فتساءلت: من كان يهتم بمصير ثلاثة آلاف قروي معزولين عن العالم عاشوا سنوات قرب المستودعات من دون شعور بالخطر؟ ومن كان سيعرف ذاك الصبي الذي حظي الآن بشهرة عالمية كونه أوّل مصاب بشري في التاريخ بأنفلونزا الخنازير؟ كأن ثمة قصداً في أن تُجعل البشرية في حالة هلع مستمر، فإذا لم تبدأ نشرات الأخبار بحوادث الإرهاب فهي تصدمك بأخبار الأوبئة الجديدة التي تهددك وتهدد أبناءك، وإذا لم تكن الأوبئة الخبر البارز فلن تنجو من التذكير بمخاطر التلوث وثقب الأوزون المهدد بانتشار السرطان وتحديات التراجع الخطير لمستويات المياه الجوفية المهدد الأجيال القادمة بالعطش، وارتفاع درجات الحرارة وخطر التصحر أو انهيار جبال الجليد وغرق الجزر والسواحل، وهلم جرا. يضاف إلى هذا كله أزمات الاقتصاد العالمي المتواترة وهي تذكرك باستمرار بإمكانية أن تفقد عملك وتتعرض وأبناءك للبطالة.
أمر محير فعلا هذا الانتقال الجذري الذي عشناه بين عقدين: في العشرية الأولى من القرن العشرين كان يبدو سقوط المنظومة الشيوعية نهاية المحن والمخاطر، وكانت الهيئات العالمية تبشر بعهود الرخاء والأمن في العالم كله، ثم جاءت العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين فجعلت ما كان يسمى بتوازن الرعب (النووي) ذكرى جميلة بالمقارنة مع الهلع المعولم الذي يتهددنا اليوم منبعثا من كلّ أنواع المصادر التي تشكل حياتنا اليومية. كأنه يراد للناس أن يعيشوا حالة تدمير أعصاب مستمرة فينشغلون بالهلع عن المتابعة الدقيقة لما يخطط له كبار الساسة وأصحاب القرار الاقتصادي، فيبدو كأن القدر هو الذي يهددهم، وليست قرارات مسؤولين عالميين يخفون عن الرأي العام الكثير من المعلومات والوقائع.
القرية المكسيكية مصدر المشكلة كانت بلا طرقات معبدة وبلا سيارات ولا مستشفيات، وأهلها كانوا يعيشون خارج التاريخ، والمستودعات الضخمة بجوارهم كانت محاطة بالأسلاك الشائكة والجدران العالية. لم يكن واردا أن يشك أحد من السكان في شيء، وهب أنه فعل، فلا أمل في أن يتحوّل شكه إلى شكوى أو إلى مقال ينشر في الإعلام. ههنا لب المشكلة: من يراقب الشركات الضخمة التي تنتشر في البلدان النامية هروبا من التقيد بالقوانين الصارمة المفروضة عليها في البلدان المصنعة؟
لقد أنشأت العولمة حركة عكسية مقارنة بما عرف في الثورة الصناعية. كانت الحركة في السابق تتجه من القرى إلى المدن حيث تتركز الصناعات، وبعد فترات طويلة من النضال سُنت القوانين لمراقبة المصانع حماية لعمالها ومجاوريها وللبيئة المحيطة بها. أما الحركة الحالية فهي في الاتجاه المضاد، إذ تغادر المؤسسات الكبرى بلدانها الأصلية وتتوزع في البلدان النامية وتنشر صناعاتها ومستودعاتها في بيئات غير مؤهلة لممارسة رقابة حقيقية على ما يحيط بها. الحكومات المحلية نفسها قد لا تعلم على وجه الدقة بما يحصل في حصون الصناعات المعولمة، وهي تضطر مع ذلك للقبول بالأمر مقابل الانتفاع بفرص التشغيل أو بالضرائب والرشاوى.
لكنّ مواطن البلدان الغنية يكتشف اليوم أنه لم يعد في منأى عن الخطر. فبُعد المسافات وعلو الأسوار لا يعصمان أحدا، والخطر المصدّر نحو البلدان الفقيرة يعود في صيغة معقدة إلى أصحابه الأولين – يعود في صورة هلع يؤرق اطمئنان المجتمعات الغربية بأنها تعيش بعيدا عن البرابرة. إن الهلع الذي يصيب الجميع بصفة دورية لا بدّ أن يذكّر بحقيقة أساسية هي أنّ التقدم إذا لم يوظف لصالح الإنسان فإنه يصبح نقمة عليه، أي على الجميع.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى