عن العرب، والرابطة العربية والقومية العربية
ياسين الحاج صالح
أظهرت الثورتان التونسية والمصرية وجوداً أكيداً لمستوى عربي جامع. فقد تفاعل جمهور عربي واسع وبدرجة عالية من الإيجابية مع الـثـورتـين، وارتـفـعت معنويـاتـه أثـناء سـيرهما، ثم بفعل نجاحهما الأولـي في إسـقاط رئيسين. ولا يبـدو أن الأمـر يتصل بتعاطف إنساني مجرد، بل بدرجة قوية من الـتـماهـي، تتصل بتشابه البلدان العربية وتشابه أوضاعها ومطالب السكان فيها، وكذلك بشعور قرابة قوي لا شك فيه. لقد سعد كثيرون منا بما حققه التونسيون والمصريون، وتشرفوا بإنجازهم، وتوجسوا من أخطار إخفاقهم، وبلغت الحماسة بكثيرين أن وجهوا لهم النصائح. ومثل ذلك ظهر حيال ليبيا واليمن. باختصار ظهر مستوى قوي من الأخوة العربية، كان خفياً أو غير متوقع.
على أن هناك وجهاً آخر للمستوى العربي الجامع، يتمثل في أن نخب السلطة في العالم العربي ظهرت متقاربة أكثر من أي وقت مضى، وعلى رغم خصوماتها وتباغضها، لم يبتهج قلب أي مـنها بسقوط الحاكمين التونسي والمصري.
ولقد كانت واعية كل الوعي أن تعاطف قطاع مهم من محكوميها مع المصريين والتوانسة هو في الواقع موجه ضدها هــي، وأن سعــادتــهم بسقوط بن علي ومبارك هي بمــثابة تعبير عن مشاعرهم حيالها هي، وأن في قــوة المصريين والتوانسة قوة معنوية وســياسيــة لمحكوميها، والعكس بالعكس. وعلى هذا النحو ظهر أن المجال العربي منقسم أفقــياً إلى طبقتين: طبقة الحاكمين و«حبايبهم» وأصحابهم وأتــباعهم ومأجوريهم، وطبقة المحكومين الواسعة المتنوعة، التي ظهرت على حين غرة قوة متعاطفة متقاربة.
ولقد أظهر تلاحق الاحتجاجات الاجتماعية في بلدان عربية عدة، كأنما في سباق، أن الرابطة بين هذه البلدان بنيوية وليست وجدانية فحسب، وأنه يمكننا التكلم على نظام عربي، أي على حقل من التفاعلات المتبادلة الأكثف من تفاعل هذه البلدان مع غيرها، وعلى المستويين السيكولوجي والثقافي، وكذلك المستوى السياسي. وهو ما يعني أن هناك «داخلاً» عربياً من نوع ما، بالنظر إلى أنه يمكن تعريف الداخل بأنه إطار من التفاعلات المتميزة، بكثافتها العالية وبمعناها المتقارب. ليست التفاعلات هذه بكثافة التفاعلات داخل كل دولة طبعاً، لكنها ليست من نوع ولا بكثافة التفاعلات مع دول أخرى، ولو كانت تركيا أو إيران، دع عنك باكستان أو إندونيسيا أو آسيا الوسطى، أو أفريقيا جنوب الصحراء. بوضوح، تظهر الرابطة العربية متمايزة عن الرابطة الإسلامية، وأقوى منها.
لكن في الوقت نفسه لم تطرح أي من الثورتين شعارات عربية جامعة، أو تتطرق إلى ما يفترض أنها القضية العربية الجامعة، فلسطين، أو تدعو إلى وحدة العرب أو تضامنهم. كانت ثورات داخلية محضة، وشعاراتها ومطالبها تحيل إلى العلاقة بين المواطنين والدولة، لا إلى علاقة الدولة بغيرها. ولذلك بالذات لم تبهج الثورتان والانتفاضات الجارية في غير بلد قلب أي من النظم المتكارهة.
فكيف نفهم أنه كان للثورتين تأثير عربي واسع، يمكن الكلام عليه بلغة التماهي، وأنهما لم تعرفا نفسيهما مع ذلك باللغة المعتادة للرابطة العربية، هذه التي تتكلم على الوحدة العربية وعلى فلسطين؟
لا نقترب من إجابة معقولة عن السؤال إلا إذا ميزنا بين الرابطة العربية، التي قد نسميها العروبة، وبين القومية العربية، فلا تطابق بين الاثنتين.
لا تنضبط الثورتان المصرية والتونسية ولا التفاعل العربي الواسع معهما بالعقيدة القومية العربية. تقوم هذه على مبدأ «العروبة أولاً» أو العروبة المطلقة. وعلى أن تونس ومصر وغيرهما «أقطار» في «وطن عربي» كبير، ينتظر أن يتحقق يوماً في دولة واحدة. وأن سكان بلداننا عرب، لا يفرقهم دين ولا يباعدهم حد على ما يقول نشيد معروف، بينما تباعدهم حدود «طبيعية» عن غيرهم، ولا يكاد يجمعهم بهذا الغير جامع. تنكر هذه العروبة المطلقة تعدد البلدان العربية وتمايزاً متعدد المستويات بينها، وتنكر أيضاً التعدد الداخلي لكل من هذه البلدان، وتنكر أخيراً اندراج البلدان العربية كلها في متعدد أكبر هو العالم.
وبفعل هذه الإنكارات الثلاثة يتسبب توتر مستديم في العلاقات بين الدول العربية المتفاوتة الرسوخ؛ وفي تولد مشكلات أقليات إثنية وقومية في أكثرها، أخذت أشكالاً متفجرة أو مريرة في البلدين اللذين تبنّيا العروبة المطلقة، سورية والعراق، فضلاً عن مشكلة ممانعة ثقافية حيال العالم (إيديولوجية «الأصالة») بفعل تمركزها المفرط حول الذات.
في المقابل، لا يبدو أن الثورة المصرية تنضبط بمبدأ المصرية المطلقة أو «مصر أولاً». الواقع أن هذه بالضبط كانت إيديولوجية نظام مبارك، ونظيراتها هي إيديولوجيات النظم العربية الأخرى القائمة، بما فيها نظام بن علي. وقد آلت بمصر إلى وزن دولي وإقليمي أصغر، وإلى قدر من التبعية مهين للبلد ولشعبه، من دون أن تعود على عموم المصريين بالخير. بل إننا نقدّر أن بعداً وطنياً مصرياً لا بد من أن يحمل على البعد الديموقراطي للثورة المصرية، وأن البعد الوطني ذاك هو ما قد يدفع نحو إعادة اعتبار للرابطة العربية، كرابطة ثقافية، وكإطار إقليمي حاضن، بل ربما يقود إلى درجة من التصادم مع المحور الأميركي الإسرائيلي.
تبدو إيديولوجيات من نوع «مصر أولاً» و«سورية أولاً» وأشباهها متوافقة مع تدهور وزن الدول المعنية في محيطها، وهو عربي أساساً، ونحو ضرب من الوطنية الاستبدادية أو المطلقة التي لا تعود بالخير على المصريين والسوريين…، وكذلك نحو درجة أدنى من الاستقلال الوطني وأعلى من التبعية للمراكز الدولية الفاعلة.
نميل، في المحصلة، إلى أن الثورتين تنضبطان بفكرة الوطنية الدستورية المرتبطة بفكرة الحكم الدستوري والدولة الديموقراطية. وهذه عموماً ذات منزع عقلاني، ربما ترى إلى الرابطة العربية كرصيد حضاري واستراتيجي يتعين الحفاظ عليه وتثميره. ومن هذا الباب، وبما هـي مشترك بين وطنيات ديموقراطية ودسـتورية، ربما تظـهر العـروبة كخير عربي عام، بدل أن تكون منطقة تنازع معمم كحالها اليوم.
وضمن مفهوم الوطنية الديموقراطية تترتب الهوية أيضاً على نحو مغاير للنحو القومي العربي. تشغل مصر أو تونس… الصدارة. العروبة والإسلام تحديدان مكملان للهوية الوطنية، لا تستقيم بحال ضدهما، لكن السيادة ليست لأي منهما. السيادة للأمة المعرّفة «وطنياً» ومواطنياً، وليس قومياً ولا دينياً. وهنا قد يمكننا التكلم على العروبة الدستورية، هذه التي تقر بتعدد أصيل في المجال العربي، وبتعدد مكون لكل من البلدان العربية، وباندراج بلداننا في عالم أوسع.
أما الإسلام الدستوري، أو الديموقراطي، فسيكون مطروحاً على جدول الأعمال، السياسي والفكري، خلال الشهور المقبلة.