صفحات مختارةمحمد الحاج صالح

هل يدخلُ العربُ التاريخَ مرّة أخرى؟

null
محمد الحاج صالح
تضاءل الإسهامُ الحضاري العربي إثر الغزوين المغولي والصليبي. وبدا أنّ الانحدارَ لا قرارَ له، وأنّ العنصرَ العربيّ في المنطقة المُسماة الآن بالعالم العربي أو الوطن العربي يتلاشى. شمل الانحدارُ كلّ شيءٍ. تدهورت الزراعةُ وتراجعت الصناعةُ والمهنُ تراجعاً يصلُ حدّ الانعدام في المناطق الداخليّة البعيدة والطرفية. وتدهورت القِيَمُ والأخلاقُ، وتناقصُ عددُ المتعلّمين، وانعدم الأمنُ في مناطق واسعة، كما تناقص عددُ السكانِ إلى حدّ النُّدرة.
يُقدّر عدد سكانِ بغداد أواسط العصر العباسي بأربعة ملايين، بينما أمسى تعدادُ السكان أوائل القرن العشرين عشرات الآلاف فقط. كما يُقدّر عددُ سكان ما بين النهرين في العصر الآشوري بعشرين مليون، بينما آلَ سكانُ الجزيرة السورية (القسم الأعلى من بلاد ما بين النهرين) في أوائل القرن العشرين إلى ما لا يتجاوزُ بضعةَ آلاف.
صاغَ الاسلامُ هويّةً عربية كانت غائمةً وربما لم تكن موجودةً إلا في جزيرة العرب واليمن منها طبعاً، وفي البطنين العراقية والسورية أو الشامية وفق المصطلح الإسلامي.
إن أعظمَ “برنامج سياسي” في التاريخ وضعَهُ النبيُّ محمد ونفّذَهُ هو شخصياً وأصحابُهُ ومن آمنوا به. نقول “برنامجاً سياسياً” لأنّ رؤيةَ أبي القاسم كانتْ واضحةً وتطلّعتْ وهي في المهد إلى نشر الأفكار وممارستِها، مستهدفةً وبوضوح نادر في التاريخ جزيرةَ العرب والامبراطورية البيزنطية وفارس (ما بالك وأنتَ تضعُ إسورةَ كسرى على يديك).( والله ياعم لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته إلى أن يظهره الله أو أُهلك دونه).
كان الأسّ الجدير بالاعجاب في “هذا البرنامج السياسي” هو تلك الوسطيّة التي دعا إليها النبيّ (وجعلناكم أمّةً وسطاً) وهي وسطيّةٌ بين اليهودية والمسيحية، وبين فارس وبيزنطة. وهي وسطيّةٌ ترجمها المؤمنون بها ما أكسبَهم إلى حدّ كبير قلوبَ الشعوب المنضوية تحت حكم هاتين الامبراطوريتين، ترجمُوها بالأخذ دون عقدٍ من هذه الشعوب مُعترفين بتقدمّها على العرب. إنّها الوسطيةُ التي لا تدّعي ولا ترغبُ لنفسها طرفاً مقابلاً للآخرين، وإنّما تتفاعلُ وتقبلُ أكثر مما ترفضُ. وهي أيضاً وسطيّةٌ في الأخلاق والقيم والنظرةِ إلى الآخر. إنّها أساسٌ لما يمكن أن نسمّيه في عالم اليوم بالتفاعل الحضاري أو حوارِ الحضارات. باختصار يمكنُ القول أن النبيّ “محمد” صاغَ ثقافةَ العرب في المجال السياسي صياغةً ناجعة بمقاييس ذاك الزمن، فضلاً طبعاً عن الدين. والدينُ ما هو في نشأته إلا الجزءُ الجوهريّ في الثقافة والسياسة مُفكراً به ومَلْظوماً عبر سِلْكِ التاريخ، إنه بمعنى آخر سياسةٌ مغلفةٌ بأسئلة الوجودِ وبشريط تزيين زائدٍ هو الطقوس.
إثر التحرّر من الاستعمار الغربي انتشرَ تفاؤلٌ رومانسيّ وظنّ الناس أنّ بابَ التاريخ انفتحَ أخيراً. لكن سرعان ما تبيّن أنّ باب التاريخ لا يفتح هكذا بسهولة. وانزلقت المجتمعاتُ العربية بقيادة سلطاتها إلى قاعٍ لا قرار له من الانحطاط كلّما بلغتْ غوراً تبعتْهُ أغوارٌ أعمق. فمن هزيمة حزيران، إلى التغوّل المتزايد للأجهزة الأمنية، إلى الحرب الأهلية اللبنانية والجزائرية والسودانية، ثم 11 سبتمبر أيلول واحتلال العراق. رحلةُ ضياعٍ تسلّط فيها حكامٌ لا وازعَ من ضمير لديهم ولا يحدّ من نهمهم للتسلّط حدٌّ. فقدَ المجتمعُ العربي صلتَهُ بالحداثة، وغرق في التخلّف والجهل والتعصّب، والأسوأ من كلّ هذا؛ تدنّي المناعة الأخلاقية. الأمرُ الذي طبع الانتاج الثقافي العربي بالقلق والندب وجلدِ الذات ونقصِ احترام الذات والضِعَةِ والشعورِ العميق بالمَهانة واللاجدوى.
مرضَ العربُ بالاكتئاب، وما علاج الاكتئاب إلا الفرحُ والفاعلية والبهجة.
جاءت الفرحةُ من حرق البوعزيزي شمعةَ الجسدِ لتنير روحُهُ “بهجةَ” العرب. عالحَ البوعزيزي اكتئاب المجتمعات العربية بطريقة إبداعيّة قلّما يجودُ التاريخُ بمثلها. ومن مَكْر التاريخ أنْ يهزأ بمقولة الحكّام العرب “البيّاعين” لكلّ شيء كي يضمنوا “شرعية!” من الغرب، حيث لم يبقَ سياسيٌّ غربي كبير أو صغيرٌ إلا وسمع الموشّحَ إيّاهُ على ألسنةِ حكّام العرب أجمعين. الموشّح الذي يقول بإن بديلَهُم هم الأصوليون والقاعدة. فإذا بالتاريخ يمكرُ بهم ويُلْهم البوعزيزي أنْ يحرقَ نفسه احتجاجاً على الضدّ من التعاليم والفتاوى الأصولية في القتلِ العمد للنفس الذي يُجزى بالتخليدِ في النار. وزيادةً على مَكْرِه أضافَ التاريخُ ما يقوله علمُ الاجتماع الحديث وما قاله المسيحُ قبل ألفي سنة “ليس بالخبز وحدَهُ يحيا الانسان” وما قاله الخليفةُ الثاني باني دولةَ العرب ومُنفذ سياسة أبي القاسم “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟”.
لقد أطلقت الثورات التونسيةُ والمصريةُ والليبية والاحتجاجات المتواترة في أرجاء العالم العربي ديناميّةً مُعْدِيةً، يبدو أنها لن تتوقف. الشعوبُ مبتهجةٌ فرحة، بل ويصل بنا الأمر أن نقول إنها سكرى بنشوةِ اكتشاف الذات واستعادة شيءٍ من الثقة بالنفس، والأهمّ أنها ذاقتْ طعمَ الكرامة والحريّة. وهيهات هيهات أن تنسى تلك النكهة وذاك الطعم. اكتشف العربُ أخيراً أنهم بشرٌ مثل غيرهم، وأنهم قادرون على أن يفعلوا. انْكسرَ الخوفُ وآنَ أوانُ الجسارةِ المُفعمة بالروح الانسانيّة.
ما زال العربُ في ذيلِ الأمم، لكنّهم يقرعون الآن بعنفٍ على باب التاريخ الأوسع. وسينفتحُ على مصراعيه. الدرب طويلٌ والغاية بسيطةٌ جداً؛ عيشٌ كريم وتفاعلٌ مع الحضارات والأمم الأخرى، أيْ ترجمةٌ حديثة وحداثيّةٌ للوسطيّة التي أقرّها أبو القاسم قبل ألفٍ وأربعمائةِ سنةً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى