ثورات الموجة الثانية
حازم صاغيّة
حين اندلعت ثورات «المعسكر الاشتراكيّ»، لم يقل إلاّ السخفاء إنّ التشيكيّين على حقّ فيما الرومانيّون مخطئون، أو أنّ الهنغاريّين مصيبون فيما الألمان الشرقيّون غير مصيبين.
كانت تلك الموجة تلعب مع التاريخ وتلعب لعبته، بالمعنى الذي لعبت فيه موجة إسقاط الامبراطوريّات بعد الحرب العالميّة الأولى، مطيحةً تلك العثمانيّة وتلك الهابسبورغيّة النمسويّة-الهنغاريّة وجارتها الروسيّة القيصريّة، أو بالمعنى الذي لعبت فيه موجة نزع الاستعمار وقيام الاستقلالات بعد الحرب الثانية.
لقائل أن يقول إنّ نتاج تلك الموجات لم يكن كلّه قابلاً للحياة. فالامبراطوريّة الروسيّة انبعثت من جديد في ثوب شيوعيّ، وكثيرة هي البلدان التي استقلّت ولم تستطع تحويل استقلالها إلى خطوة متقدّمة وإلى نفع عامّ.
ذاك أنّ التاريخ ليس صفراً، والمفاهيم، حتّى لو كانت إيجابيّة ومتقدّمة، لا تغدو ممكنة بمجرّد توكيد العزائم التي تقف وراءها، فهناك وقائع أعرض تتصدّرها القدرة الموضوعيّة على جعل الديموقراطيّة والثورة وسواهما قابلة للتطبيق.
والحال أنّ الموجة الحالية التي عصفت، وتعصف، بالشرق الأوسط، لا تتساوى في حظوظها تبعاً إلى عدم تساويها في المقدّمات التي انطلقت منها، الاجتماعيّ منها والسياسيّ.
وهذا لا علاقة له بمسألة «الحقّ». فكلّ المنتفضين على حقّ لا يقبل أدنى تشكيك، وكلّ الأنظمة، وقد ذهب بها الانحطاط بعيداً، تستحقّ الإسقاط المبرم. أكثر من هذا، ليست هناك ثورات صافية، سيّما وأنّ كلّ ما تكبته الأنظمة الفاسدة والقامعة، جيلاً بعد جيل، يحضر إلى الواجهة مع انهيار تلك الأنظمة. وهو يحضر قاسياً، فوضويّاً، متداخلاً، متوتّراً، يلحّ على حلول سريعة وقصوى. وهذا ما لا ينبغي له أن يعيق الثورات الديموقراطيّة التي تستطيع، بعد استعادتها الحياة السياسيّة والدستوريّة، أن تتعامل مع تلك التناقضات الجامحة بحيث تسكّنها وتلبّي مطالبها بالتدريج.
ما هو أصعب وأشدّ إثارة للحيرة وللتعادُل في الموقف يتعلّق بالتكوينات المجتمعيّة التي تكون سلطات الاستبداد، جيلاً بعد جيل، قد فاقمت تصدّعاتها وأوهنت قدرتها على التحوّل.
والأمثلة كثيرة في الموجة الثانية من ثورات الشرق الأوسط الراهنة: فاليمن يقيم تحت سطح وحدته الرقيق شمال وجنوب متكارهان، يحاول ثانيهما الفرار من الأوّل، كما يتململ العداء بين حاشد وبكيل، ناهيك عن عصبيّة حوثيّة وأخرى مأربيّة وسوى ذلك. والبحرين، لا يخفى على أيّ عارف بالمعطيات المتداولة عنها أنّها تنطوي على أزمة سنّيّة – شيعيّة عميقة ومزمنة. أمّا ليبيا فشرق يتمحور حول بنغازي وغرب يدور حول طرابلس، فضلاً عن كونه ساحلاً وداخلاً غير متصالحين. وكم هو ذو دلالة على سطحيّة المزاعم الإيديولوجيّة التي يستهويها إنكار الواقع، والتعامل مع البلدان كرؤوس بطاطا، ما فعلته محطّة «الجزيرة» حين فرملت ثوريّتها الجامحة عند عتبة البحرين ذات الانتفاضة «الشيعيّة».
وإذا كانت مصر لا تعاني انشقاقات كهذه، فما يبدو، أقلّه حتّى اليوم، أنّ تونس نجحت، ربّما بسبب تقدّمها ذي الأصول البورقيبيّة، في تذليل تناقضاتها «الجهويّة».
هذا لا يعني، بطبيعة الحال، دعوة الجماهير الثائرة إلى أن تسرّح نفسها بنفسها، وتذعن إلى الحجج التي تردّدها الأنظمة جميعاً لغرض الابتزاز: إمّا نحن ومعنا الاستقرار أو التغيير المصحوب بالفوضى. وقد كان سيف الإسلام القذّافي آخر من أوصل هذه الرسالة المسمومة بأكبر جرعة ممكنة من السمّ.
فمطلوب الضغط على الأنظمة كي ترضخ للمطالب الإصلاحيّة، ولإصلاحات جدّيّة تنصّ عليها دساتير جديدة ومُلزمة، فيما يُتّفق على مراحل انتقاليّة لتنفيذها. وفي هذا المعنى، تصرّفت جماعة «الوفاق» البحرينيّة بمسؤوليّة رفيعة حين طالبت بـ»ضمانات» تسبق الحوار الذي يُفترض أن يفضي إلى الإصلاحات.
لكنْ ما العمل مع نظام كـ «الجماهيريّة» يبدي استعداداً للقتل لا ينافسه إلاّ استعداد سيّده، «ملك ملوك أفريقيا»، لاستعراض سخافاته المسرحيّة من درجة خامسة؟ وهنا، تحضر مقارنتان، واحدة بينه وبين الملك إدريس السنوسي الذي انسحب، في 1969، من دون إراقة دم، ثمّ بين نظامه الذي يتباهى بعدم تأثّره بالخارج والنظام البحرينيّ الذي لا يستطيع إلاّ أن يتجاوب مع الخارج: الحالة «الوطنيّة» و»التقدّميّة» الأولى تتحوّل عبئاً ثقيلاً على الليبيّين في دمائهم وأرزاقهم، فيما الثانية «الرجعيّة» تسحب أدوات قمعها من «اللؤلؤة» وتترك الميدان للمتظاهرين.
وقصارى القول إنّ نظاماً كالليبيّ يربك كلّ تحليل وكلّ افتراض. إلاّ أنّه هو، لا الثورة عليه، من يتحمّل وحده مسؤوليّة الفوضى والخراب في حال اندلاعهما.
الحياة