ثورة بلا إمام
نيفين مسعد
كان أحد أهم إنجازات ثورة الخامس والعشرين من يناير هو جمع المصريين حول هدف واحد هو اسقاط النظام. وحتى لا يصير هذا الإنجاز حبيس تجربة ميدان التحرير وأيام المعاناة الثمانية عشرة فإن المطلوب هو تعزيز الثقة بين جميع الأطراف والبعد عن الممارسات موضع الاختلاف.
العلامة الشيخ يوسف القرضاوى لا موضع للمزايدة على تفقهه فى الدين على نحو رفعه إلى منصب رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين. كما أن أحدا لا يجادل فى الثمن الباهظ الذى دفعه نظير انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين حتى تكرر اعتقاله واضطر إلى مبارحة وطنه والإقامة فى قطر. كما أنه فقيه مشهود له بالاعتدال وله كتابات تخالف التيار العام للفكر الإسلامى فى تناول قضايا بذاتها. لكن هذا كله شىء وإمامته ما يربو على مليونى شخص احتشدوا لأداء صلاة الجمعة والاحتفال بانتصار الثورة فى ميدان التحرير شىء آخر.
فى السياسة تلعب الرموز دورا أساسيا فى ايصال الرسائل، وإمامة جمعة النصر بواسطة الشيخ القرضاوى صاحب الخلفية الإخوانية التى شارك بها ممثلا لإخوان قطر فى لقاءات التنظيم العالمى للإخوان المسلمين والتى رشحته لمنصب المرشد العام للجماعة ــ وإن رفض ــ تترك انطباعات غير مريحة لدى المراقب الذى يتابع تفاعل القوى السياسية على الساحة المصرية.
فالقرضاوى بحكم خلفيته الإخوانية المذكورة يؤمن بأن المشروع الذى أعده مؤسس الجماعة «هو المشروع السياسى الذى يحتاج إلى تفعيل»، كما أنه يقتنع بأن الإخوان هم «أفضل مجموعات الشعب المصرى بسلوكهم وأخلاقياتهم وفكرهم وأكثرهم استقامة ونقاء». وهو حر فيما يعتقد، لكن ميدان التحرير هو ساحة عامة لجميع المصريين من مختلف الاتجاهات والأديان أيضا، كما أنه ليس منبرا للدعاية السياسية غير المباشرة لتيار بذاته. فالمواطن المصرى البسيط غير المسيس الذى انبهر لمرأى الشيخ القرضاوى والصلاة من خلفه، والذى تدافع مع أمثاله ليمسح على عباءة الشيخ ويقبل يده لا يملك القدرة على الفصل فى شخصية الرجل بين الخطيب فى مناسبة وطنية جامعة وبين الكادر الإخوانى صاحب الخيارات والتفضيلات السياسية الخاصة، وهذا بالضبط هو مربط الفرس.
على الفور التقطت إحدى الفضائيات العربية ظهور الشيخ القرضاوى فى ساحة التحرير ورصدت الحشود الهائلة من المصريين الذين اصطفوا لأداء صلاة الجمعة من خلفه وأطلقت عليه «إمام الثورة». ويعد هذا الوصف صادما بكل المقاييس لأسباب كثيرة أولها، أنه إذا كان من المقطوع به أن هذه الثورة تستمد قوتها من أنها بلا قيادة توجهها فالأولى أنه ليس لها إمام يرشدها. صحيح أن الشيخ القرضاوى اتخذ منذ بداية الأحداث موقفا داعما للثورة والثوار ومختلفا بشكل جذرى عن موقف المؤسستين الدينيتين الرسميتين المصريتين اللتين دافعتا عن نظام الرئيس السابق حتى الرمق الأخير إلا أن هذا لا يجعله إماما للثورة. فالعديد من عتاة الشيوخ والدعاة الجدد كانوا مؤيدين للثورة.
ثم أن كثيرا من المصريين لم يستطيعوا تقبل نقد الشيخ القرضاوى للنظام المصرى السابق مقابل سكوته على النظام فى قطر حيث الحكم وراثى ولا يوجد برلمان منتخب ولا حياة حزبية والأهم حيث توجد أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى الخليج كان الشيخ قد اعتبر وجودها جزءا من اتفاقيات أمريكية قطرية واجبة الاحترام. والسبب الثانى لاستهجان وصف الشيخ القرضاوى ب» إمام الثورة» أن هذا الوصف يحمل إيحاءات سلبية ترتبط بعلاقة الخمينى بالثورة الإيرانية، فقد عاد الخمينى إلى طهران من منفاه بفرنسا بعد نجاح الثورة الإسلامية كما عاد القرضاوى إلى القاهرة من قطر بعد نجاح الثورة المصرية. وقد أثارت المقارنة الاستعلائية التى أجراها المرشد الإيرانى على خامنئى بين الثورتين الإيرانية والمصرية استياء الغالبية الساحقة من المصريين.
إن إذاعة الثورة التى ألهبت حماسة الجماهير طيلة أيام الاعتصام الصعبة كان يتعاقب على الخطابة فيها ممثلون لتيارات سياسية متعددة، وبالمثل فإن منبر صلاة الجمعة يفترض أن يعتليه خطباء مستقلون مع مراعاة أن صلاة الجمعة فى التحرير يجب أن يكون لها طابعها المؤقت. والحق أنه لولا هذا التحفظ المبدئى لكانت هناك متعة حقيقية فى الإصغاء لخطبة القرضاوى التى استهلها بمخاطبة المصريين مسلمين ومسيحيين فى سابقة تعد هى الأولى من نوعها لخطيب، والتى أفاض فيها فى التأكيد على الوحدة المصرية ولكانت هذه الخطبة دليلا على تغير فى محتوى الخطاب الدينى منذ اندلاع الثورة المصرية.
فى القاموس المصرى هذه الأيام تتكرر عبارات معينة بشكل نمطى تتحدث عن ركوب الموجة، وسرقة الثورة ،والالتفاف حولها، وهى عبارات يتهم بها الكل بعضهم البعض. وقد حذر الشيخ القرضاوى نفسه شباب مصر من سرقة ثورتهم، وهو تحذير يحتاج فى واقع الأمر إلى كثير من التدبر خاصة عندما يفاجئنا خبر مذهل عن منع وائل غنيم ــ صاحب حملة «كلنا خالد سعيد» التى أطلقت شرارة الثورة ــ من اعتلاء المنصة التى يقف عليها الشيخ. وهنا تتبادر إلى الذهن دفعة من الأسئلة أهمها: من ذا الذى يحاول خطف الثورة من وائل غنيم وأمثاله من الشباب الواعى المتفتح المؤمن بالدولة الديمقراطية ذات المرجعية المدنية؟ وممن تحديدا كان يحذر الشيخ القرضاوى الشباب فى ميدان التحرير؟ والأهم من كانت له سلطة اتخاذ القرار الخاص بصعود رمز وطنى دون آخر؟!
من المقبول أن تفتح الخارجية المصرية قاعة كبار الزوار بمطار القاهرة للشيخ القرضاوى فى لفتة متميزة لشخصه لا يحظى بها كثيرون أما غير المقبول فهو أن يَفتح له من لا نعرفهم ساحة الخطابة فى ميدان التحرير.
الشروق