ثورة مصر

ثورة مصر وتونس: مَن الذي تفاجأ؟

اياد زيعور
في تموز العام 2009 نشرت مجلة الايكونوميست تحقيقاً مطولاً عن العالم العربي بعنوان «الاستيقاظ من السبات». يلخص التقرير التفاوت الهائل بين التطور الاجتماعي والركود السياسي بقصة «أبو تجاعيد» العربي الذي وقع في غيبوبة العام 1980 ليستيقظ العام 2009. «أبو تجاعيد» لن يرى أي تغيير في المشهد السياسي: الحكام أنفسهم مع زيادة في التجاعيد. لكن أبا تجاعيد لن يصدق عينيه لحجم التغيير الاجتماعي (وما زال القول للايكونوميست): انفجار في نسبة الشباب في المجتمع وفي التوجّه نحو المدينة (القاهرة كانت تعد 9 ملايين العام 1976 لتصبح 18 مليوناً العام 2006). لكن الصدمة الكبرى كانت عندما أدار التلفاز، كانت أخبار التلفزيون تقول كلاماً لم يتصور ان ينطق به هذا الجهاز الذي كان عادة لا يتكلم إلا عن نشاطات سيادة الرئيس او جلالة الملك.
في الصفحة التاسعة تطلق الايكونوميست تنبؤها الواثق بالثورة: «في كل بلد عربي الخصوبة في انخفاض، المزيد من الأفراد ـ لا سيما النساء ـ يحصلون على تعليم أفضل، رجال الأعمال يحدثون تأثيراً أكبر في الاقتصاد (لأول مرة في مصر يتجاوز عدد العاملين في القطاع الخاص عدد الذين يعملون في الدولة)، والفضائيات فكت قيد إعلام السلطة، لتوجد جمهوراً يطالب حكامه بتبرير أفعالهم. كل وحدها، لا تبدو أي من هذه التغييرات كبيرة، لكن معاً، تحدث هذه التغييرات اهتزازات تحت الأرض ستؤدي حتماً الى انهيار الحكومات الفاسدة. لكن السؤال الأهم يبقى هو متى سيحدث ذلك».
الذي يعرف كيف يصنع القرار في أميركا لا يمكنه الشك أبداً في أن أميركا لم تتفاجأ بما حدث في مصر وتونس. فملف الايكونوميست اعتمد على مجموعة من الأكاديميين هم أنفسهم الذين يعتمد عليهم العقل السياسي الأميركي لإعطائه الصورة الشاملة. من هنا يمكن فهم موقف أميركا من هذه الثورات: لأنها تعرف أنه قدر لا مفر منه كان من الطبيعي أن تنحني للعاصفة.
المفاجئ أن يتفاجأ العرب بما حدث، فهم اصحاب العلاقة. وهذا ما يمكن تفسيره جزئياً بهزال فاعلية القطاع الاكاديمي في بلادنا بسبب الجهل بدوره وقيمته. وفي الواقع، فإن المرء لا يحتاج الى إمكانات معهد كارنيغي او معهد بروكينغز ليدرك حجم وسرعة التطور الاجتماعي في بلادنا قبل شهر من مقال الايكونوميست نشرت مقالاً بعنوان «أفول إسرائيل: الكمية والنوعية»، اعتمدت فيه على ذاكرة عمتي الذهبية لأصف التطور الذي أصاب مجتمعنا منذ العام 48 حتى اليوم. وبمقارنة بسيطة سمحت لنفسي بالقول بقرب أفول إسرائيل، ليس على طريقة هانوي، بل على طريقة هونغ كونغ. الفجوة التي كانت شاسعة في البداية مع إسرائيل تضيق بسرعة، الفارق في النوعية الإسرائيلية لم يعد يعوّض الفارق مع الكمية العربية. وإذا أدرك العرب هذه الحقائق فلن يصعب عليهم إقناع الغرب بالتخلي عن الصفقة الخاسرة (إسرائيل) كما يقتضي مبدأ «بقاء الأصلح»، لا سيما وسط التنافس المحموم مع الصين.
لم تفاجئني ثورتا مصر وتونس، والفضل لحكايات عمتي التي تظهر بوضوح ثمانين سنة من التاريخ شهدتها (إضافة الى ستين أخرى تروي فيها الحكايات نقلاً عن أهلها). مع مئة وأربعين سنة من التاريخ تظهر صورة مذهلة لحجم البؤس والتخلف الذي كنا نعيشه وحجم وسرعة التغيير. إذا كان من الممكن قياس البؤس والتخلف بخط بياني فإن هذا الخط كان يسير ثابتاً في بلدتنا منذ مئات السنين. حتى جاءت أيام حرب الـ14 (1914ـ1918) والمجاعة، ليأخذ البؤس شكلاً خيالياً لا يمكن تصوره. انتشرت الجثث في الشوارع ولم يقوَ الأحياء على دفن الأموات من الجوع. الرجال اخذوا الى التجنيد الإجباري مع الجيش العثماني، ومن رجع منهم تمنى لو أنه لم يرجع. جدي كان من الذين رجعوا من الحملة الفاشلة على قناة السويس ليجد زوجته وقد ماتت من الجوع، وفوق جثتها يتمرغ طفله، متمسكاً بثدي أمه الذي جفّ منه الحليب…
بعد انتهاء المجاعة بوصول قمح حوران، لم يخف البؤس إلا قليلا. تصور عمتي تلك الأيام تصويراً يشبه كثيراً رواية البؤساء لفيكتور هيغو لكن بدون أوانٍ نحاسية تستحق ان تسرق. المشاهد مليئة بصور الموت، الضباع، الجن، وأشدّها هولاً، الأوبئة التي كانت تخطف الأطفال خاصة، كان انقطاعاً كاملاً مع أي شكل من اشكال المدنية.
في بداية الأربعينيات بدأت بوادر التغيير حين ذهب الشباب مشياً الى حيفا وعادوا بالليرة الفلسطينية. فضل جدي النزول الى بيروت التي كانت أبعد من حيفا في رحلة تدوم يوماً كاملاً مشياً على الأقدام محملاً بالأغراض على ظهره. يروي لي والدي انه مع كل غرض جديد يأتي من بيروت كانت الحياة تتغير في القرية ومعها تتغير طريقة التفكير.
بعد هذه الرحلات ووصول أول أستاذ الى القرية، كانت بداية التغيير الكبير في بداية الخمسينيات مع «بوسطة منيف» التي افتتحت اول خط تواصل حقيقي مع المدينة وأصبحت نافذتنا على العالم.
وحتى لا يتحوّل هذا المقال الى رواية من روايات ميخائيل نعيمة يكفي أن أذكر أن اليوم يندر ان تجد شاباً في البلدة لا يثرثر بالانكليزية على الانترنت او لا يتصفح الفيسبوك. عمتي الأمية وزوجها اللحام أنجبا أطباء وأساتذة، والأحفاد تفوقوا على آبائهم. انه لأمر مدهش ان يحدث كل هذا التغيير، من الجوع الى الفيسبوك، في حياة شخص واحد… ما زال حياً يرزق.
إسرائيل لم تتفاجأ أيضاً وإن ادعت غير ذلك، فكرة انغلاق فجوة الحضارة مع العرب ترعبها… لأن رقبتها على المحك. يشبه وضع إسرائيل اليوم مع العرب وضع بلطجي مفتول العضلات كان يتنمّر على أطفال أيتام لم يعرفوا كيف يعملون معاً ليهزموه. لكن مع مرور الوقت يشبّ الأطفال وتنمو عضلاتهم بينما تترهل عضلات البلطجي. لم ينتبه الأطفال بعد الى عضلاتهم ولم ينظروا الى المرآة ليروا شواربهم قد نمت. البلطجي يعرف حقيقة وضعه ويحبس أنفاسه خوفاً من اليوم الذي يدرك الطفل فيه أنه أصبح رجلاً. حتى ذلك الحين لا يملك هذا الشقي إلا ان يلاحق المرايا ويكسرها آملاً في ان تستمر غفلة الأطفال. لكن عاجلاً ام آجلاً سيرى اليتيم وجهه وعضلاته… ولو على سطح الماء.
اهرب يا بلطجي يا جبان، الصغار كبروا، وقريباً سيصفون الحساب.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى