ثورة مصر

هل تلفحنا الروح العربية الجديدة؟

بقلم منى فياض
بدأت في تونس: “الشعب يريد إسقاط النظام”، “الشعب يريد إسقاط الحكومة”، “الشعب يريد رحيل بن علي”، “لا لسرقة الثورة”، “حزب التجمّع… ارحل، ارحلوا أيها الفاسدون”، “لا للنظام الرئاسي، نعم لنظام برلمانيّ، لا لعودة التسلط، نعم لحرية التعبير، نعم لحرية المرأة، لا لتدخّل الجيش، لا لتسييس الدين”، مع دعوات الى فصل الدين عن الدولة.
شعارات على جدران البيوت والمؤسسات والبنوك والعمارات والساحات. إنها الشعارات التي حملها التونسيون واستماتوا من أجلها ونجحوا في إطلاق إشارة البدء بالتغيير، تغيير وجه العالم العربي، وأخيراً ولادة شرق أوسط ديموقراطي.
لم تتأخر أمّ الدنيا. انتفض شباب الغضب المصري فاستكملت الدينامية الجديدة انطلاقها من قلب العالم العربي، وأكدت شعارات المتظاهرين مجدداً مطالب لا تتعلق بالخبز والبطالة فقط، بل طالبت بالتغيير الجذري الذي تريده أن يطاول جميع أوجه الحياة، جميعها بالمعنى الحرفي للكلمة. أرادوا تحقيق أحلامهم، لذا أرادوا رحيل الرئيس وحزبه الحاكم ونظامه. أرادوا الحرية والعدالة الاجتماعية والانتخابات الحرة النزيهة، ودستوراً جديداً يليق بهذا الجيل الموهوب والخلاّق الذي يستحق بلداً وممثلين سياسيين (لن يقبل العربي بحكّام بعد الآن) جديرين بإدارة بلد، فيه هذا الشباب الذي سيفجّر طاقات الشعوب العربية وسيُلهم العالم كله ويؤكد للبشر المسحوقين، تحت شعارات مختلفة، أن لهم قيمة وأن لهم كرامة يجب أن تُحفظا. الكرامة هي نقيض شعارات الممانعة الفارغة من المضمون. هي العيش الكريم في معناه الواسع، وهي الحقوق السياسية الكاملة، وحرية التعبير، بجميع الوسائل السلمية، وحرية الصحافة، والشفافية، ما يعني ضد الفساد.
أهم ما كرّسه الشباب المصري المنتفض، الممارسات المدنية والمتمدنة النموذجية بدءاً من النظافة مروراً بهتاف “سلمية، سلمية” الشهير، الذي يجب أن يكون مرجعيتنا نحن الشعوب العربية المشرقية العنيفة التي تستسهل إراقة الدماء، بل وتتغنى بها.
أعطتنا ثورتا تونس ومصر درساً في أن التغيير الجذري وتحقيق العدالة يمكن أن يتمّا من دون عنف أو كراهية. وأظهرتا أن قوة اللاعنف أقوى وأعدل من كل عنف، وأنها هي الأخلاق في عينها.
ميدان التحرير كان بالفعل ميدان الحرية، حرية الإنسانية وانعتاقها من العبودية المكبّلة باسم الايديولوجيات القاتلة. غابت الخطب الرنانة والمقولات الايديولوجية، التي، ويا للغرابة، سمعناها هنا أمام السفارة المصرية من ديناصورات الوطنية المؤدلجة الغابرة. لم يرتفع في ميدان التحرير أيٌّ من الشعارات الإيديولوجية التي استعجل “حزب الله” والنظامان السوري والإيراني تلبيسها للمصريين. حتى “الإخوان المسلمون” لم يرفعوا شعارهم المعهود “الاسلام هو الحل”، وغابت شعارات شتم الامبريالية والصهيونية. ليس لأنهم راضون عن العلاقة المهينة والمجحفة التي أقامها النظام المصري مع اسرائيل، وسكوته المريب عن تعاملها الوحشي مع الفلسطينيين، بل لأن لعنها والمطالبة بحرقها، فيما يتم التعامل معها سراً والاستماتة في عقد السلام معها وحتى في عقد صفقات السلاح الحلال التي للمصادفة تسكت عنها وثائق “ويكيليكس”، لا يفيدان سوى تنفيس الغضب! المطلوب إلزامها الخضوع لمنطق القانون الدولي واحترام الاتفاقات والقرارات الدولية وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة ودولتهم الكاملة السيادة. لا نعدّل ميزان القوى هذا، بالهتاف، بل بالعمل على تحقيق مطالبنا بالوسائل المشروعة والقانونية قبل استخدام العنف. ولأننا لا يمكن أن نطالب الدول بأن نُعامَل بعدل واحترام طالما أن هذا الاحترام غير متوافر للمواطن العربي في أوطانه، وطالما لم نقم بتحقيق العدالة بيننا نحن المواطنين العرب الخاضعين لظلم ذوي القربى، فلن تتحرر فلسطين. الأحرار في بلدانهم هم الأقوياء، لذا المهمة الأولى أن نكون أحراراً في أوطاننا. وهذا ما تطلبه وتؤكده الثورة الشبابية المدنية السلمية الناضجة، عبر المزج بين المطالب المعيشية ومطالب الاصلاح السياسي ومكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين. وهذا ما يعيه شباب ثورة 25 يناير ويبدو أنهم لن يتراجعوا عن تحقيقه.
وائل غنيم الذي وصف النظام المصري بأنه يمتلك منظومة متكاملة لإعدام كرامة المصريين؛ لم يعن له هذا ولرفاقه الانتقام أو تصفية الحسابات – ناموسنا اللبناني المكرّس. يقول وائل غنيم، أنهم ربما يرغبون في قلوبهم بأخذ حقهم من أناس كثر، لكنهم على وعي تام بأنه ليس وقت تصفية الحساب ولا تقسيم الكعكة ولا فرض الايديولوجيات. إنه فقط وقت المطالبة بالحقوق. لم يهاجم أيٌّ منهم لا الشرطة، ولا حتى القتلة المأجورين عندما كان يتسنى لهم ذلك، ولم ينتقم أيٌّ منهم من البلطجية الذين هاجموهم، بل كانوا يصرخون عند القبض على أحدهم: “سلمية، سلمية”. ذلك لأنها ثورة سلمية ومدنية، ثورة لا تخوّن ولا تهدّد، ثورة تراحم، بدت واضحة للعيان في ميدان التحرير الذي تحول في لحظة نموذجاً للمدينة الفاضلة التي نحلم بها جميعاً. إنها ثورة في الأخلاق. ثورة تقول للشعوب العربية، لا تخافوا من الشباب العربي، ثقوا بهم ودعوهم يحققون أحلامهم. ثورة لا تريد بعد الآن حكاماً وزعماء كاريزميين يقمعون الشعب ويسامحهم، يرتكبون الأخطاء المميتة ونتركهم يأخذوننا الى الهاوية لأن لهم سحراً علينا وتبهرنا خطاباتهم البليغة. لم نعد نريد خطابة ولا بروباغندا. يريد هذا الشباب ممثلين سياسيين يقومون بمهامهم ويرحلون؛ وعلى حد تعبير احدى اللافتات المصرية الغنية بروح الدعابة الذكية: اصنعوا كراسي المسؤولين من التيفال، كي لا يلتصقوا بها إذ سرعان ما يعتقد واحدهم نفسه ظل الله على الأرض. يكرر شباب الثورة المصرية: الشرطة في خدمة الشعب، السياسيون المنتخبون هم كذلك لخدمة الشعب، وليس العكس. لم تعد شعوبنا العربية تقبل بأن تكون مهدورة الكرامة وتقبل بخدمة الحكام الذين يحكمون إلى الأبد! إنه عصر الانترنت والـ”تويتر” والـ”فايسبوك” الذي يصلنا بالعالم حقاً.
الشباب المصري نضج سريعاً جداً، وهو النضج الذي لا يزال ينقصنا. شعاراتهم نقيض شعاراتنا؛ إن أول ما هتفوا به ومارسوه بعد انتصارهم كان:
الشعب يريد أن يغيّر سلميا
الشعب يريد أن يبني دولة مدنية
الشعب يريد أن لا ينتقم
الشعب يريد أن لا يخوّن
الشعب يريد المصالحة
الشعب أراد. ولأن إرادته جاءت محقة وملبية لأسمى ما توصلت اليه الانسانية، فقد تحققت مثل السحر.
الشعب يريد. فأيّ درس للشعوب!
العالم العربي يتطلع الى المستقبل، ولبنان لا يزال ينظر الى الخلف! ¶
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى