دفن الفضائح
ساطع نور الدين
خلال نوبة الصرع التي أصابت العقيد معمر القذافي على شاشة التلفزيون أمس الأول، وزفر فيه انفاسه ونفث عن أحقاده حتى جف حلقه، تردد اكثر من مرة تحذيره إلى الليبيين من أن أميركا لن تسمح لهم بالمضي قدماً في الثورة، وستفعل بليبيا ما فعلته في العراق وأفغانستان والصومال تحديداً. كان يقصد أن الأميركيين معه ولن يتسامحوا مع الإطاحة به، اذا ما أدى ذلك الى قيام إمارة أو ولاية إسلامية ليبية في قلب البحر الأبيض المتوسط.
وهو نفسه التحذير الذي أبقى حسني مبارك وزين العابدين بن علي في السلطة لثلاثين عاماً، والذي يبقي زعماء عرب كثيرين متربعين على العروش لمدد مشابهة، وقد اثبتت التجربة التونسية ثم المصرية انه وهمي، كما برهنت أن الأميركيين يعرفون المجتمعات العربية اكثر مما يعرفها حكامها وأجهزة استخباراتها.. حتى بات بعض المفكرين والباحثين الكبار في اميركا يعتبرون، عن حق نسبياً، ان الثورات العربية هي في جانب منها انتفاضات شعبية على الأصولية الإسلامية وتنظيماتها وبرامجها وشعاراتها، التي تحولت بعد هجمات 11 أيلول عام 2001 الى مركب النجاة الجذاب لغالبية العرب والمسلمين.
لكن القذافي لا يحذو فقط حذو مبارك وبن علي وغيرهما كثيرون ممن حاولوا خداع الأميركيين والغرب عموماً وأسدوا لهم النصح المتكرر بعدم تكرار الخطأ العراقي تحديداً الذي انتج حالات إسلامية طائفية ومذهبية لم تكن موجودة في عهد السفاح صدام حسين. كان الحاكم الليبي يطلق صرخة استغاثة واضحة وواعية، موجهة الى أميركا تحديداً علها تهب لنجدته او تتساهل مع عملية الإبادة الجماعية التي يرتكبها بحق شعبه. وهو في ذلك لم يكن يخرف او يهذي، بل كان ولا يزال على الارجح يتوقع ان تأتيه المساعدة من وراء البحار.
كان من المثير أن القذافي في كلمته المتلفزة، التي تستحق فعلا ان تدرس في معاهد علم النفس ومستشفيات الأمراض العقلية، لم يصبّ جام غضبه لا على اميركا ولا على إسرائيل، بل كان حذراً بعض الشيء في الحديث عنهما، لمعرفته ان مثل هذه الجرعة من الابتذال السياسي لم تعد تجدي نفعاً مع الشعب الليبي الذي ضاق ذرعاً به، والذي يدرك بفطرته وحسه السليم ان الاميركيين والاسرائيليين لن يكونوا سعداء كثيراً بنهاية فضيحة عربية مثله، ألحقت الأذى الفادح بالوطنية الليبية وبمختلف القضايا القومية التي تعامل معها الرجل.
كان القذافي يخاطب أميركا وبعض دول أوروبا بحق مليارات الدولارات التي دفعها في العقدين الماضيين على شكل تعويضات وصفقات حاول بها ان يشتري الصمت على جرائمه والسلامة لنظامه. لكنه لم يسمع حتى الآن رداً شافياً. تلقى سيلاً من الإدانات الاميركية والاوروبية المتتالية التي تبلغه بأن الإبادة الجماعية غير مقبولة، لكن احدا لم يدعوه حتى الآن الى التخلي عن السلطة، على غرار ما جرى مع بن علي ومبارك، واكتفى بعض الاميركيين والاوروبيين بالإعلان عن ان حكمه انتهى نتيجة وحشيته ونتيجة صلابة شعبه.
ثمة ما يوحي بأن سقوط القذافي الوشيك ينبئ بالكشف عن فضائح مالية دولية يجري العمل هذه اللحظات على دفنها مع الزعيم الليبي المفدى.
السفير