صبحي حديديصفحات سورية

افول نجوم الحزب الجمهوري: نوت غنغريش نموذجا

null
صبحي حديدي
في مناسبة العيد الوطني للولايات المتحدة الأمريكية، ولكي لا يبدو غارقاً بدوره في دائرة الجمود والإنكماش التي صارت تميّز رجالات الحزب الجمهوري، طلع نوت غنغريش علي مواطنيه برسالة وجيزة شاء لها أن تأخذ صيغة الشعار سهل الحفظ والترديد: إحفروا هنا، إحفروا الآن، واجعلوا الرابع من تموز (يوليو) يوماً لاستقلال الطاقة ! وتابع يهتف: سواء كنتم ديمقراطيين أو جمهوريين، إذا لم يكن زعماؤكم يصغون جيداً إلي الإرادة التي عبّر عنها الشعب بوضوح، فإنّ عليكم تغيير هذه الحال، بأن تبعثوا إلي واشنطن رسالة مفادها أنّ هذا الرابع من تموز لن يشبه أيّ رابع من تموز آخر !
والحال أنه سوف يشبه الكثير من الأيام التي تنقضي علي الحزب الجمهوري وهو يعيش ما يشبه الخلل الفادح في ميزان التفكير، السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي، بين خطّ المحافظين الجدد الذي يفضي في الخارج إلي كارثة تتلو الأخري، والخطّ المحافظ القديم الراكد الذي يجعل سياسة الحزب في الداخل أشبه بدوران في المكان حول الحلول العتيقة والكليشيهات مسبقة الصنع. ولا يُلام غنغريش إذا تفاخر بأنّ المرشّح الجمهوري الرئاسي جون ماكين ينهل من أفكاره، كما أنّ المرشّح الديمقراطي باراك أوباما يجهد لطمس الأفكار ذاتها لأنها تهدّد بفضح مفاهيم الأخير الغامضة عن التغيير.
هذا نجم علا في سماء الحزب ذات يوم غير بعيد، ثمّ انطفأ وانحسر نفوذه حتي كاد أن يُنسي، لولا أنه لا يكفّ عن التذكير بنفسه وبأفكاره، وكأنه يعيش في أواخر كانون الأول (ديسمبر) 1995، حين اختارته أسبوعية تايم الأمريكية رجل العام. كان نوت آنذاك أبرز وجوه الحزب الجمهوري، رئيساً للكونغرس، وصانع ضجيج منتظم يكفي لإبقائه في سدّة الحدث اليومي وعلي خشبة المسرح الأكثر اجتذاباً للأنظار. صحيح أنه كان أحد أبطال العقد مع أمريكا ، أو ذلك البيان الإنتخابي الذي تباري علي توقيعه مرشحو الحزب الجمهوري في انتخابات تلك السنة، كمَنْ يتبارون في شعائر الإخصاب وإحياء الأرض الموات. وصحيح، أخيراً، أنه كان أستاذ التاريخ الحديث، والروائي المولع بقصص الخيال العلمي ـ التاريخي، وأطول المحافظين الجدد لساناً في كل ما يتصل بالأخلاق والقيم والأعراف. ولكن من الصحيح أيضاً أنه كان مشروع نجم آفل أو يكاد، وبلاغة الضجيج التي دشنها منذ الدقيقة الأولي لجلوسه في الركن الأعلي من قاعة اجتماعات الكونغرس أخذت تستهلك بعضها كالنار التي أكلت الكثير ولم يتبق أمامها سوي أن تأكل بعضها. و العقد مع أمريكا سرعان ما انقلب إلي عقد علي أمريكا حتي قبل أن يبلغ اليوم المئة من عمره الأقصي الذي حدّده الذين أدّوا اليمين. وأمّا أستاذ التاريخ فقد تراجع بمعدّل 180 درجة في أول اختبار لاذع مع اللوبي اليهودي حول علاقة الولايات المتحدة بالهولوكوست، فانحني، وأطاح بزميلته المؤرّخة كريستينا جيفري، هو الذي جاء بها لتدوّن مآثره الشخصية التي آمن ـ ويؤمن اليوم أيضاًـ أنها ستكون اسثنائية، غير عادية، وخالدة.
الأرجح أن البديل قد عزّ علي الـ تايم التي تعيش وفق حسابات أكثر حرجاً ومشقة من سراط مستقيم طويل متعرّج، وأنها وقعت في حيص بيص وهي تفكّر في رجل لا يشبه في شيء نفر المرشحين المحتملين، أو ينفرد عنهم في كل شيء. وكانت اللائحة تتسع آنذاك لأسماء مثل إسحق رابين، بيل كلينتون، ريشارد هولبروك، جاك شيراك، كولن باول… وكانت ستتسع وتتسع دونما نهاية ملموسة أو معايير واضحة. واختصار العالم إلي أمريكا، ثمّ اختصاره ثانية إلي معارك شدّ العضل بين الكونغرس والبيت الأبيض، ثمّ اعتصاره في الختام إلي محض ولادة جديدة لتيار محافظ عتيق في التاريخ السياسي الأمريكي، كان الستراتيجية الأفضل والأنجع للعثور علي رجل العام ورجل العالم. وهكذا حمل البروفيسور نيوتن ليروي ماكفرسن (غنغرش) آمال وآلام العالم بأسره، من وارسو وسراييفو وبكين، إلي غزّة وبلفاست وطهران، ومن حرائق أوكلاهوما إلي حدائق البيت الأبيض.
غير أنّ تلك لم تكن في طبائع المهامّ النبيلة التي نذر الرجل نفسه لأدائها، والحقّ يقال. ففي عام 1970 اختار لأطروحة الدكتوراه موضوع الإستعمار البلجيكي للكونغو، وانتقد سياسات الحكومة البلجيكية ليس لأنها مارست أسوأ أنماط الإستعمار في العصر الحديث، بل لأنها… لم تكن إستعمارية بالقدر الكافي، أو عجزت عن فهم الرسالة الإمبريالية الأعمق من وراء إرسال الأساطيل عبر البحار. وكتب غنغرش: ضمن ثوابت الليبرالية الأمريكية في القرن العشرين، يُعتبر الإستعمار الأوروبي سياسة غير مقبولة. ولكن ماذا كان معني تلك السياسة عند المواطنين الأفارقة أنفسهم؟ هل قامت القوي الإمبريالية بأداء وظيفة مؤلمة ولكنها إيجابية، حين اخترقت المجتمعات التقليدية وعبّدت الطريق أمام تحديث أكثر سرعة ؟ نعم، يجيب غنغرش دون تردد: لقد حاول البلجيكيون حلّ واحدة من أعقد مشكلات عصرنا، أي كيفية تحديث مجتمع تقليدي .
ومنذ كتابه الأول نافذة للفرصة: مسوّدة من أجل المستقبل ، والذي صدر عام 1984 ووقّعه مع زوجته ماريان، وغنغرش يبشّر بثبات الأحوال، ويحذّر من التغييرات الدراماتيكية التي تعصف بالقيم وتقتلع البشر من جذورهم. وهو، في ذلك الكتاب وتلك الحقبة من تفكيره، يبدي الكثير من التأثّر بأفكار عالم الإجتماع السوداوي ألفن توفلر (صاحب الموجة الثالثة و صدمة المستقبل وسلسلة الأعمال القيامية التي تحيل الآدمي إلي قالب تكنولوجي أصمّ أعزل)، ويهتف بحرارة مشبوبة: التكنولوجيا أولاً، والتكنولوجيا أخيراً، هي التي تدلنا علي طريق الغني، قبل أن تعلّمنا الطرائق المعرفية اللازمة لاجتناب الفقر. ولكنّ غنغريش كان مضطراً إلي خيانة تعاليم توفلر، بقصد الوفاء للنزعة المحافظة التي ترسم المسار الجوهري لعقائده، ولهذا فقد تأرجح طويلاً بين الحماس الرؤيوي للكوامن المستقبلية في التكنولوجيا، وبين الفزع (المحافظ، جوهرياً) إزاء مفاعيلها و آثارها الجانبية الهدامة حسب تعبيره. وكان يفكّر علي المنوال التالي، مثلاً: اختراع الدراجة مفيد للإنسانية، ولكن ألم يمنح فرصة أكبر للناشئة كي يتملصوا من رقابة الكبار؟ كي يسرحوا ويمرحوا دون وازع؟
ولأنه بالغ الإحتفاء بثوابت القيم الأمريكية، والموقع الإستثنائي لتلك القيم في السلّم الأخلاقي للإنسانية، فإنّ غنغرش يعطي التكنولوجيا المعاصرة فرصة إشاعة وترسيخ وإحياء القيم القديمة، قبل تجديدها كرموز سارية المفعول في الوجدان والإنضباط العام. والتاريخ في ذلك كله ملزم بتعليمنا الدروس ذاتها التي تعلّمها بنيامين فرانكلين وألكسيس دوتوكفيل، ونحن مطالبون بتكرار صرخة باتريك هنري أعطني الحرّية، أو فاعطني المنيّة ؛ أو الوقوف موقف ناثان هيل: ليتني أملك حياة ثانية، لكي أهبها من أجلك يا وطني !
وهو أستاذ التاريخ الذي لا يدرس أو يدرّس التاريخ بقدر ما يرجّع أصداءه، علي حد تعبير غاري ويلز. إنه مفتون بالأسطورة والحكمة والتقليد العريق والرمز و… التخييل القصصي الذي يلوي المخيلة الإبداعية إلي جدول لإعادة ترتيب العالم علي نحو شائه. في روايته 1945 ، المتأثرة كثيراً بأدب اسحق أسيموف، والتي تمسخ الخيال العلمي إلي ألعاب لاستقلاب التاريخ، يصف غنغرش سقوط أدولف هتلر ضحية غيبوبة تدوم بضعة أسابيع إثر حادث طائرة في السادس من كانون الأول (ديسمبر) 1941، أي قبيل التاريخ الفعلي لإعلانه الحرب علي الولايات المتحدة. وحين يصحو من الغيبوبة يقرر شنّ الحرب علي أمريكا لقطع الطريق علي نجاحها في تطوير السلاح النووي، الوحيد القادر علي تدمير الرايخ . والدرس المستمد هو، ببساطة: المزيد المزيد من التسلح، في غيبوبة هتلر (أو ستالين، أو صدام حسين، أو الإرهاب أو الأصولية …) مثلما في صحوته، وصحوة بدائله المعاصرة. كتابه الأعلي صخباً حمل عنوان تجديد أمريكا ، وصدر في طور دقيق بين الصعود والأفول (ومع ذلك، حصد المؤلف مكافأة مقدارها 4,5 مليون دولار من دار النشر هاربر كولنز) وفيه بدا غنغرش مفتوناً بالتعداد:
ـ ثمة أعمدة خمسة لحكمة الحضارة الأمريكية، هي الدروس التاريخية، والقوة الشخصية، والمؤسسة الاستثمارية الحرّة، وروح الإبتكار والاكتشاف، والمساواة (كما يعرفها رجل أعمال واحد وحيد يدعي و. إدواردز ديمنغ)؛
ـ وثمة خمسة أسباب لدراسة التاريخ الأمريكي، هي أنّ التاريخ ذاكرة جمعية، والتاريخ الأمريكي هو تاريخ الحضارة الأمريكية في الآن ذاته، وذلك كله ينطوي علي امتياز استثنائي تنفرد به أمريكا عن التاريخ الإنساني العام، والتاريخ مصدر يعلّمنا بقدر ما يسمح لنا باستخدامه، وأالتجربة التاريخية تساعدنا في استخراج طرائق جديدة لحل المشكلات الراهنة.
ـ وثمة سبعة جوانب أساسية، وتسعة مستويات رؤيوية في القوة الشخصية، وخمسة مبادئ جوهرية في صيغة المساواة كما يقترحها ديمنغ، وثلاثة مفاهيم كبري للإستثمار الاقتصادي الحرّ فضلاً عن وجود خمسة أعداء ألداء لهذا الإستثمار، وسبعة عوائق أمام روح الابتكار والاكتشاف…
وللمرء أن يضع في الحسبان جملة حيثيات أخري تسير بهذا الخليط من حافة الميلودراما إلي هوّة التراجيكوميديا: حكاية تصريحاته اللاهبة حول انفجار أوكلاهوما الشهير، وعلاقاته العلنية مع الأصولية البروتستانتية الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة، وحماسه الفروسي لنقل السفارة الأمريكية إلي القدس. وهنالك أيضاً قضية المؤرخة كريستينا جيفري، وكانت أحد الفصول في مسلسل الدغدغة بينه وبين اللوبي اليهودي في أمريكا. والحكاية أن غنغرش، وبعد وقت قصير من اعتلاء رئاسة المجلس، عيّن زميلته في منصب مؤرخة الكونغرس الرسمية، ثم أطاح بها بعد أقلّ من شهر لأنّ ممثلي اللوبي اليهودي نبشوا مراجعة لأحد الكتب الخاصة بمناهج تدريس التاريخ، كانت جيفري قد كتبتها في عام 1986 بصفة سرّية لصالح وزارة التعليم، واحتجت فيها علي رفع الهولوكوست كفزّاعة في وجه الباحثين الشباب الذين يريدون تدقيق حقائق التاريخ. ورغم أن الزوبعة هدأت بسرعة لأن المراجعة لم تسفر عن أيّ عداء ملموس للسامية، ورغم أنّ أحد أساتذة التاريخ اليهود (وينحدر من أسرة كانت ضحية للهولوكوست) كتب رسالة مطوّلة مفصّلة يدافع فيها عن وجهة نظر جيفري، فإنّ غنغرش اتخذ لوحده قرار الإطاحة بالزميلة البائسة، وقدّمها كبش فداء لأزمنة عاصفة ستضعه وجهاً لوجه مع اللوبي اليهودي في صفوف الديمقراطيين كما الجمهوريين. وكانت حجّته بليغة في الواقع: ألسنا نحاول ضبط الميزانية مع الرئيس؟ ألا يساعد فصل جيفري علي توفير بند مالي؟ ألسنا القدوة في التعاقد مع أمريكا؟
وليس بلا أوهام عتيقة لا تني تتجدّد، أي تتضخم وتترهل، أنه اليوم يتفاخر بحملتين سياسيتين تاريخيتين كما يصرّ علي القول، جلبتا إلي أمريكا طرازاً من التغيير الحقيقي الذي يعجز المرشح الديمقراطي أوباما (ومثله المرشح الجمهوري ماكين، ضمناً) عن اقتراحه: الثورة الريغانية ، نسبة إلي الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، سنة 1984؛ و العقد مع أمريكا بعد عشر سنوات. وفي كتابه الجديد التغيير الحقيقي: من عالم يفشل إلي عالم ينجح ، يعود غنغريش القهقري إلي مصافّ سبق له أن هبط منها مضطراً، بسبب غائلة الفشل السياسي الذريع والفضائح المالية وإفلاس الأطروحات الكبري والصغري علي حدّ سواء. صحيح أنه أحجم عن ترشيح نفسه لبطاقة الحزب ضدّ ماكين، ولكن من الصحيح أيضاً أنه يواصل الإصرار علي تمثيل أسوأ مصائر نجوم الفلسفة الريغانية، في الصعود السريع والانحدار الأسرع!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى