و سيُرحّل الزعيم ولكن ماذا بعد؟
عبدالباسط سيدا
لن نتوقف عند الخطبة التي ارتجلها العقيد معمر القذافي بهذيان غير معهود، وهي خطبة تؤكد أن صاحبها قد بات مجرد زعيم لثكنة باب العزيزة؛ فهي حافلة بالغرائب والعجائب، مفعمة بالصلف والعنجهية، زاخرة بالإهانات الموجهة إلى الشعب الليبي العزيز الذي صبر عقوداً طويلة على ظلمه وظلاميته. هذا الشعب المجاهد الذي عانى الأمرّين بفعل نزوات القائد وحاشيته الثوروية التي أنهكت البلاد والعباد؛ وبددت الثروات؛ وسطّحت العقول؛ وأجبرت أصحاب الكفاءات الليبية على السكوت أو الرحيل، بعد أن غيبت الكثير منهم.
والشيء بالشيء يُذكر، فقد ذكرتنا خطبة الزعيم هذه بخطب سلفه وعزيزه صدام حسين وتهديداته، التي نفذها بالفعل ضد أبناء شعبه الذي قصفه بالطائرات،وضربه بكافة صنوف الأسلحة بما في ذلك الكيميائية منها والحارقة (النابالم)؛ وقتل منهم مئات الآلاف – وليس العشرات- كما بدّد الثروات، وانتهك الأعراض، وأباد المدن والقرى؛ لذلك علينا أن نكون منصفين في حكمنا على مدى أسبقية الأخ القائد في ارتكاب الجرائم ضد شعبه؛ فهو ليس الأول الذي استخدم القصف الجوي والمدفعي ضد أبناء شعبه؛ كما أنه ليس الأول الذي استخدم المرتزقة، فقد سبقه في ذلك مثاله وأثيره صدام حسين كما أسلفنا، الذي ما زال يمثل – مع الأسف الشديد- القدوة المنشودة بالنسبة إلى العديد من المثقفين العرب الذين يتباكون اليوم على الشعب الليبي، متناسين أن الجريمة تظل جريمة بغض النظر عن هُوية الجاني والضحية.
لندع هذا الموضوع جانباً إلى مناسبة أخرى، ولنحاول معاً استشفاف آفاق المستقبل القادم. فالعقيد سيَرحل أو يُرحّل في الأيام القليلة القادمة. ولن تتمكن التهديدات الرعناء التي أطلقها هو وابنه من إرهاب الشعب الليبي الذي أراد وعرف الطريق وسار عليه موحداً، يرنو نحو الدولة المدنية الديمقراطية المؤسساتية التي تعتبر الولاء الوطني الأساس في عقد المواطنة من دون سائر الولاءات الأخرى من قبلية أو مناطقية جهوية، أو فكرية سياسية؛ دولة دستورية تبين للفرد ما له من حقوق لا تُمس مهما كانت الظروف، وما عليه من واجبات مقدسة؛ دولة تحترم كرامة الإنسان، وتوفر العمل والرعاية الصحية والتعليم، وتمكنه من السكن اللائق، وتوفر له مقومات حرية التعبير والنقد؛ كل ذلك في إطار نظام يحدد سلطات الرئاسة وماهيتها ومدتها، وذلك إنطلاقاً من حقيقة أن النظام الرئاسي العربي – ما عدا لبنان إلى حد ما- قد أثبت بأنه أسوأ نظام في العالم؛ فالرئيس العربي هو الحاكم المطلق – إن لم نقل ظل الله على الأرض- الذي في مقدوره حل البرلمان، وإعلان الحرب والسلم، وفرض حالة الطوارئ، وتعطيل الدساتير، وعزل الحكومات، وكل ما يخطر ولا يخطرعلى البال. وفوق كل هذا وذاك، تورّث الرئاسة، ويعدّل الدستور اللادستوري، ليغدو في لمحة بصر موافقاً لمقاسات الوريث غير الشرعي.
لقد أثبتت الشعوب العربية أنها كغيرها توّاقة إلى الحرية والكرامة، وهي قادرة على الإبداع والابتكار، ومستعدة للتضحية من أجل كرامتها؛ ومن حقها أن تستمتع بثمار ثوراتها المباركة – التي أنعشت الآمال وجددت الطاقات لدى الجميع- في كل من تونس ومصر وليبيا، هذا إلى جانب الثورات القادمة من دون شك في العديد الكثير من البلدان العربية وبلدان المنطقة والعالم. أما الضمانة الأكيدة التي من شأنها المحافظة على أهداف تلك الثورات فهي تتجسد في دستور ديمقراطي، يوافق عليه الشعب؛ دستور يفصل السلطات، ويؤكد ضرورة اعتماد الشفافية والمساءلة والمحاسبة القانونية. هذا إلى جانب تقليص صلاحيات ومدة حكم الرئيس إلى أدنى حد ممكن، لتكون السلطة التنفيذية ممثلة برئيس للوزراء خاضع للبرلمان- المنتخب ديمقراطياً- الذي يمنحه الثقة ويحجبها عنه في حال تجاوزه نطاق صلاحياته؛ كل ذلك في إطار عملية ديمقراطية محددة المعالم بموجب دستور يناقشه الشعب ويقره بإرادته الحرة؛ دستور يقر بالاختلاف والتعددية، ويعترف بالمعارضة الديمقراطية طرفاً أساسياً في العملية الديمقراطية، ويمكّن المجتمع المدني من ممارسة فعالياته بكل حرية، ليكون بمثابة الرأي العام المتابع والمحاسب.
إن الأجيال الشابة العربية وغير العربية في المنطقة تتطلع نحو مستقبل زاهر، تتمتع في ظله بالتحصيل العلمي النوعي الذي يمكّنها من أداء دور فاعل في بناء مجتمعاتها ؛ مجتمعات لا تعرف القهر والحرمان والرعب والفساد والإفساد؛ مجتمعات تقطع مع النزعة الشعاراتية التي اتكأت عليها الأنظمة العربية المهترئة في سعيها لتضليل شعوبها، وإلهائها، وتوجيه طاقاتها نحو الميادين التي تحددها هي، ليتسنى لها ممارسة عهرها وإفسادها ونهبها لثروات الوطن.
إنها أيام تاريخية بحق، نحمد الله الذي مكّننا من رؤيتها وتنسم عبقها، وسنشهد – بإذنه- المزيد منها في المستقبل القريب، فالشعوب قد أدركت أن الدكتاتوريات هي مجرد هياكل كرتونية، تتساقط هلعاً أمام بحر الشعب الثائر