في المشهد الليبي الدامي: ليس لدى الكولونيل من يصدقه
راسم المدهون
منذ ارتقائه سدّة حكم بلاده ليبيا، أطلّ العقيد معمر القذافي على المشهد السياسي العربي في صورة اللامعقول، الذي جعل المواطنين العرب يقفون أمام أفعاله وتصريحاته ومواقفه مدهوشين لا يعرفون كيف يفسّرونها، ووفقاً لأي منظومة سياسية أو فكرية. الرجل الذي قاد انقلاباً عسكرياُ في الأول من أيلول (سبتمبر) 1969 مطيحاً بآخر ملوك ليبيا إدريس السنوسي شاء منذ البداية أن يكون دخوله لكرسيّ الحكم في بلاده مختلفاً، بل هو توغّل في الاختلاف إلى تلك الحدود التي جعلته في أعين ووعي المواطنين العرب واحداً من أشد زعماء العالم غرابة سواء في مواقفه السياسية الرسمية، أو حين يتعلق الأمر باهتماماته الشكلية: المواطنون العرب الذين يعرفون حق المعرفة حملاته «الفكرية» لترويج كتابه الأخضر وفرضه على شعبه باعتباره يحمل بين دفتيه الوصفة الناجزة لكل ما يصادفهم في عيشهم من مشكلات وقضايا، وهو الذي ينفرد في تصرفاته وأفعاله كشخص بمزيج من الفوضى والسلوك الشاذ.
في مشهد ليبيا الدامية لا يستطيع مراقب يتسمّر أمام الشاشة الصغيرة اليوم، أن ينسى «عادات» القذافي اليومية بدءاً من ثيابه الملوّنة، والتي يحرص على تبديلها في صورة مستمرّة حتى خلال جلسة واحدة من جلسات مؤتمرات القمة العربية. نقول ذلك من دون أن تغيب من البال «فلسفة» الرجل عن النوق، وحرصه الشديد على اصطحاب عدد منها معه في حلّه وترحاله خلال زياراته الرسمية للدول الأخرى بصفته رئيس دولة، وبكل ما يتسبب به ذلك من إحراجات كبرى، صارت دول العالم تقبلها في شبه تهكم باعتبارها شرّاً لا بد منه لإرضاء ذلك الزعيم العربي الإفريقي الذي يجلس على عرش بلد غني بموارده النفطية والغازية.
كان علينا رغم كل معرفتنا بالزعيم القذافي أن ننتظر واحداً وأربعين عاماً طويلة ومريرة كي نشاهده في أكثر حالاته غرابة، حين وقف خلال الأيام الماضية بين جدران بيته شبه المدمّر في طرابلس، ليلقي خطبة سياسية أعتقد أن التاريخ السياسي سوف يسجّلها باعتبارها أكثر الخطب السياسية غرابة وشذوذاً في العصر الحديث: خليط من الشتائم وجنون العظمة، والتماهي الكامل مع الوهم. لا يصدق معمر القذافي أن ما يحدث في مدن وشوارع بلاده هو دليل على رفض شعبه لنظام حكمه، ومن استمع اليه في تلك الدقائق السبعين الطويلة لاحظ كيف كان يتحدث بثقة من يقود ثورة شعبية، ليس في بلاده ليبيا وحسب، ولكن ثورة عالمية قال في ختام خطبته أنه استناداً لها يدعو جماهيرها الممتدّة «من الصحراء إلى الصحراء» كي يقوموا بدءاً من صباح اليوم التالي بـ«الزحف الأخضر» للقضاء على «المتآمرين» على ثورته.
صحيح أن الحالة السياسية العربية تعيش أشكالاً مماثلة من الاستبداد وتهميش المواطنين العرب، والفساد وغيرها من أوبئة الحكم الشمولي، لكن حالة القذافي تفيض عن كل تلك المواصفات بكثير من الفانتازيا، التي تجعل المشهد رغم دمويته يحمل شيئاً من الكوميديا السوداء، ويحيل الجدل السياسي من حول الرجل ونظامه إلى قياسات ومفردات تحليل تتجاوز السياسي لتصل للشخصي، أو بتحديد أكثر لملاحظة التركيبة الشخصية للسيد العقيد التي تجعله يحمل كلّ هذا الاعتداد بنفسه، ومعه كلّ هذه الكراهية للآخر.
الثورة الشعبية الليبية ضد نظام العقيد معمر القذافي جاءت بعد ثورتين شعبيتين عربيتين ناجحتين تحيطان بليبيا من الشرق والغرب. فتجربة تونس ومن بعدها مصر وضعت نظام القذافي بين شقي رحى، وأطلقت بركان كبت الغليان الشعبي الليبي الذي لم يكن يخطر ببال العقيد أو أبنائه الكثر والذين يتولون مهام الدفاع عن نظام أبيهم من خلال قيادتهم للكتائب العسكرية والأجهزة الأمنية المتعدّدة. لعلّ الأبرز في «صدمة» القذافي ينبع أساساً من أن ذلك الرفض الشعبي له ولنظامه، جاء أيضاً متصادماً مع خطابه الثوري ذي اللهجة الصاخبة: إحدى أبرز دعاوى النظام الليبي هي بالتأكيد اللغة السياسية التي يخاطب بها شعبه والعالم بأسره: هنا بالذات كانت صدمة السيد الكولونيل الكبرى، وهو يرى ويسمع كيف يعيد «أبناء ثورة الفاتح» ترتيب المواقع فيضعونه في مقعد الثورة المضادة، هو الذي يقوم خطابه كله على تنصيب نفسه فوق الجميع زعيماً ثورياً وصاحب نظرية سياسية وفكرية، بغض النظر عن حقيقة أن تلك النظرية لم تحقق في الواقع الفعلي شيئاً، بل كانت عنواناً رئيساً للخراب.
في الثورتين التونسية والمصرية شهدنا عبر شاشات التلفزيون صوراً بشعة للقمع المباشر الذي مارسته الأجهزة القمعية ضد الشعبين التونسي والمصري، وشاهدنا أيضاً صوراً أخرى لأفعال «الأنصار» والمؤيدين من البلطجية والمجرمين، ولكننا مع ذلك تفاجأنا بفرادة رد القذافي على جماهير شعبه، إذ عمد منذ البداية لضرب المتظاهرين بالمدافع، ثمّ «طوّر» فعله القمعي بقصف تجمعات المتظاهرين بالطائرات المقاتلة. سينهار المكلفون بالأمن والقمع، ويتناثرون في بيوتهم أو إلى جانب المتظاهرين المحتجين، ولكننا سنكتشف لدهشتنا أن القذافي لا يعتمد على هؤلاء أساساً، إذ سرعان ما تتالت الأنباء عن مجموعات من الأفارقة الذين يجوبون شوارع المدن الليبية في سيارات مصفحة ويطلقون الرصاص الحي على المتظاهرين.
أكتب هذه السطور فيما لم يبق للكولونيل من مساحة جغرافية يتحرك خلالها سوى بعض العاصمة طرابلس، ومع ذلك سأتذكر ما حييت إطلالة الكولونيل الثلاثية على شعبه المكلوم والثائر: المرة الأولى من خلال إبنه سيف الإسلام الذي قدم خطاباً استفزازياً لم يكن ينقص والده سواه، ثم من خلال إطلالتين للكولونيل ذاته، الأولى خاطفة وهو يطلّ من سيارته فارداً مظلّته في المطر، ليقول فقط إنه لا يزال في ليبيا وليس في كاراكاس الفنزويلية، ثم بعد ذلك «أم الخطب»، خطبة السبعين دقيقة التي لا أظن أحداً سينساها طيلة العقود القادمة.
هكذا راحت القنوات الفضائية الكبرى تنتقي مقاطع من خطبة القذافي الأخيرة لتجعلها أشبه بشارات في تغطياتها عن الحدث الليبي الكبير: رجل يشتم العالم، ويلعن الجميع، بل يتوعد الجميع بمصير بائس، ومع ذلك فقد كانت ذروة المشهد الكاريكاتوري تلك الصرخة الكبرى، التي أطلقها القذافي كصيحة حرب إلى مؤيديه و»أنصاره» كي يهبوا للدفاع عنه، وعنه وحده.
رغم مرور عقود على الحدث الكمبودي، لم أستطع أن أزيح صورة بول بوت من شاشة التلفزيون. كانت ملامح بول بوت تزحف على الشاشة الصغيرة، وكنت أراها بأم عيني تنز دماً.
المستقبل