ماذا تخسر سوريا في عملية الاصلاح الديمقراطي ؟
جمال محمد تقي
لا تصلح الشرعية الثورية كقاعدة مستديمة لبناء الدول والنظم السياسية .
انها حالة استثنائية انتقالية تنتهي موجباتها الموضوعية ساعة تحقق اهدافها التغييرية التي لا بد لها من ان تمهد الطريق لحلول الشرعية الديمقراطية محلها ، وعليه فان الشرعية الديمقراطية هي القاعدة والثورية هي الاستثناء ، اما في حالة الاجترار الارادوي لهذا الاستثناء ، فستكون النتيجة استمرار بنائي مشوه وانعزالي ، كونه انحدر ليكون خارج سياق الشرعيتين معا ، الثورية والديمقراطية ، باعتبار الشرعية الديمقراطية وحدها من يحرر اي عقد اجتماعي من كل اشكال الاملاءات ، هذا العقد المتفق عليه بالاقتراع الحر في دولة تكون السلطة فيها متحركة بالتداول السلمي المكفول بمؤسسات دولة المجتمع التي لا تتغير الا بمبررات موضوعية وذاتية يصيغها اطراف ذلك العقد “المواطنون كافراد وهياكل المجتمع المدني ” .
ان اي دولة ما لاتبني عقيدتها الاسمية والفعلية على اساس حقوق المواطنة المتساوية والحرة هي دولة استبدادية ، ولا تنتج الا سلطة متماهية معها ، سلطة تخدم الاستبداد وقرينه الفساد ، سلطة هي عادم من اكاسيد ثورة تشرنقت حد الاختناق بالدولة .
الاصل في الشرعية الثورية تسييل الارادة الشعبية الحرة بآليات ديمقراطية لا غبار عليها لتغذي بناء دولة الامة الحاضنة الوحيدة للشرعية الشعبية المتحققة بالانتقال من الحالة الطارئة ” الشرعية الثورية ” الى الحالة المستقرة والطبيعية ” الشرعية الديمقراطية ” التي تؤمن نفسها بالارادة الحرة للمصوتين بمعايير الاقتراع المتكافيء والسري وباشراف مؤسسات محايدة بين المتنافسين ، وعليه فان اهداف الشرعية الثورية هي ازالة ما يعيق تحقيق الشرعية الديمقراطية وان كان الاسلوب المتبع فيها انقلابي ، فالانقلابية هنا لتجاوز حالة تعثر مستعصية في الطريق نحو الاستقرار الشرعي للمجتمع في حكم ذاته بذاته ووفق ارادة الاغلبية المطلقة فيه مع كفالة تمتع الاقلية بذات الحقوق !
ان التهرب من التعامل مع حق المشاركة الفردية والجماعية الحرة للمواطنين في بناء دولتهم ونظام حكمهم ، يصب بخانة الاستئثار والقمع والتمييز والاستلاب ، بمعزل عن القصدية من عدمها وبمعزل عن التبريرات المستنسخة ، فكلما طالت فترات الاستنساخ وازدادت التبريرات ، كلما زادت طحالب وطفيليات التآكل الثوري ذاته ، هذا اذا كان للثورة وجود اصلا .
الانظمة التي تستمد شرعيتها من الاليات الديمقراطية لا تعاني من تناقض حرج في وجهي سياستها الداخلي والخارجي ، هذا التناقض الذي نلحظه صارخا في واقع النظام في سوريا ، الذي يقدم نفسه ممانعا ومقاوما لاستبداد وهيمنة المتسلطين في العلاقات الدولية ، وهو بذات الوقت يمارس وحتى النخاع كل اشكال التسلط والعسف في العلاقات الوطنية ، لا بد ان يحسم وقبل فوات الاوان ، لان الشعوب قد تحتمل ما يمكن ان يحتمل فقط ، وما زاد عن حد الاحتمال فسوف يرتد بالضد من مسببيه ، وبالتالي سيجد الشعب وسيلة ما يستطيع من خلالها تحقيق حلمه الديمقراطي الذي سيجعله اكثر قدرة على الممانعه والمقاومه الصلدة والفاعلة للمحتلين والمستهترين باستقلاله وسيادته .
النظام في سوريا اليوم يعيش حالة مأزقية لا ينجيه منها الا سعيه لتوحيد معاييرعملته السياسية ، الا دمقرطة نظامه وتحصين دولته بالشعب وطاقاته الحرة وليس العكس ، اما استمرار الحال على ما هوعليه الان ، حال مصادرة ارادة الشعب واحتكار تمثيلها بشرعية لا تناسبها ولا تستوجبها ، شرعية ممانعة الصهاينة المحتلين واسيادهم الامريكان ، سيجعله معزولا ومنبوذا من شعبه ، وفريسة قاصية للمتربصين بمصالح شعبه اقليميا ودوليا .
اطلاق الحريات العامة واقامة حياة سياسية مستندة للتعددية الحقيقية واجراء مصالحة وطنية ، والتخلي عن نظام الحزب الواحد ، اجراءات حتمية تفوز بها سوريا على ذاتها المأزومة ، ويكسب بها حزب البعث وقيادته الشابة الاحترام للذات ومصداقية بين قوى الشعب الحية ، فما الضير من رفع الحضرعن تنظيم الاخوان المسلمين والتفاهم معهم على اسس وطنية تعزز من اللحمة الشعبية في سوريا ؟ ما الضير من الكف عن ملاحقة القوى والفئات والنخب الوطنية والديمقراطية المطالبة بحقوقها المشروعة بالتعبير والتغيير والتحول من نظام يحتكر السلطة الى نظام يؤمن ويمارس تداولها سلميا وديمقراطيا ضمن عقد اجتماعي لا يتناقض مع الثوابت الوطنية والقومية بل يصونها ويترجم منها ما عجز النظام حتى اللحظة على ترجمته وتنفيذه ؟
ربما المتضرر الاول والاخير من عملية الاصلاح تلك هو الوليد غير الشرعي لزواج السلطة والمال في الدولة والمجتمع ، هو آفة متطفلة تآكل ولا تشبع وليس لديها رحمة في نهش من يتصدى لها ، انها لا تكتفي بقتل الحلم الديمقراطي وحسب ، انما تدفع بالحلم الوطني الى التهلكة ، مما يستدعي الاسراع في فك عرى هذا التزاوج والتطهر من نطفه السامة والقاتلة !
ان سوريا ستكون اقوى عودا واصلب ارادة واكثر ثقة بنفسها وهي تسير بطريق الاصلاح الديمقراطي وسوف لن تخسر ساعتها الا تناقضات سياستها ومأزقية حالتها .
القدس العربي