سياسة اقتصاد السوق العرجاء
حسين العودات
تتسابق حكومات معظم البلدان العربية والبلدان النامية على تطبيق سياسة ما يسمى باقتصاد السوق وتعتبر سياسة الخصخصة بمفهومها الذي طبقت فيه جزءاً منه، مفترضة أن هذه السياسة هي المفتاح لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وبعضها سمّى هذه السياسة تخفيفاً لوقعها السلبي المحتمل بسياسة اقتصاد السوق الاجتماعي، أي أنه سيطبقها ـ كما يزعم ـ آخذاً بعين الاعتبار المصالح الاقتصادية والاجتماعية لمعظم السكان، وقد بدأت سلبيات هذه السياسة تظهر للعيان في السنوات القليلة الأخيرة، وأخذ الجميع يلمسون هذه السلبيات سواء كانوا من مجموع الشعب أم من المسؤولين السابقين والحاليين مهما كانت توجهاتهم وآراؤهم السياسية والاقتصادية بمن في ذلك أولئك الذين كانوا متحمسين لسياسة اقتصاد السوق ويعتبرونها طريق الخلاص للصعوبات التي يواجهها المجتمع والعقبات التي تواجه التنمية فيه.
وكان آخر هؤلاء المحتجين على اقتصاد السوق والخصخصة شخصيات أردنية منها رؤساء وزراء سابقون ووزراء ونواب وقادة منظمات مجتمع مدني ومنظمات شعبية ومهنية لا يستطيع أحد اتهامهم بالتطرف أو بالعداء المسبق لسياسة اقتصاد السوق أو الخصخصة.
من أساسيات اقتصاد السوق إضعاف سلطة الدولة وتحويلها إلى منسق وعامل توازن بين فعاليات المجتمع السياسية والثقافية والتعليمية وغيرها واعتماد سياسة العرض والطلب كقاعدة لاقتصاد السوق، والرهان على أن سياسة الإنتاج والاستهلاك هي التي تحدث التوازن بين الأسعار والأجور، وأن المنافسة هي التي تحسّن المواصفات.
هذا من الجانب الاقتصادي، أما من الجوانب الأخرى فإن لسياسة اقتصاد السوق جوانب عديدة تقتضي بالضرورة احترام الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان وإطلاق حرية وسائل الإعلام في الرقابة والنقد والتقويم والاعتراف بتأسيس أحزاب سياسية تمثل شرائح المجتمع كافة وإطلاق حرية العمل لها.
وكذلك السماح بقيام منظمات المجتمع المدني، بحيث لا يتغول السوق واقتصاده على الحياة والمجتمعات، والتأكيد على حق الأحزاب والمنظمات المدنية والصحافة والإعلام وغيرها في تشكيل قوى ضغط حقيقية يخشى جانبها كل من يحاول اجتزاء سياسة السوق أو استغلالها أو العبث بها أو تطبيق جوانب منها دون جوانب أخرى.
إن الذي حصل في معظم البلدان العربية هو تطبيق سياسة انتقائية تتعلق بالجانب الاقتصادي فقط، وبالتحديد بالخصخصة دون الاهتمام ببقية الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية وسياسة الأجور والأسعار والرقابة وضبط آليات السوق وإعفاء الدولة من دورها في الرقابة والضبط والربط، اللهم باستثناء استمرار الحكومة في امتلاك أدوات القهر والقمع فقط دون التدخل في غيرها مما أدى إلى «تفكيك الدولة وإفراغ مؤسساتها من محتواها وعمّق الفوارق بين الطبقات وحول اقتصاد السوق إلى وسيلة سهلة للإثراء غير المشروع وأداة لتشويه النسيج الاجتماعي وتعميق الفوارق لصالح فئة استأثرت بالمال والسلطة على حساب الأكثرية» كما جاء في بيان السياسيين والشخصيات العامة الأردنية في بيانهم الذي أشاروا فيه أيضاً إلى أن تطبيق سياسة اقتصاد السوق لم تترافق مع احترام الحريات والديمقراطية وترخيص الأحزاب السياسية وإعطاء وسائل الإعلام دورها المفروض بما يساهم في تحقيق التوازن في هذه السياسة ويؤدي إلى الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي ويؤسس لفئات ضغط كافية لتحجيم الشطط والاستغلال.
يرافق سياسة اقتصاد السوق في البلدان المتقدمة مثلاً اعتبار التخلف عن أداء الضريبة جريمة كبرى ومثلها ممارسة الفساد والاستغلال والاستهانة بحقوق الطبقات الفقيرة وقمع الحريات وغير ذلك مما يجعل هذه السياسة ذات سلبيات أقل مما هي عليه في بلادنا كما يجعلها سياسة متكاملة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً وتأخذ في اعتبارها مصالح معظم فئات الشعب بدرجة أو أخرى.
وقد أدى هذا الفهم العربي والعالمثالثي لاقتصاد السوق إلى مزيد من الخلل والأزمات الاجتماعية والاقتصادية وسهل لبعض الفئات الغنى السريع ولمعظم الفئات الفقر السريع، ودمر الطبقة الوسطى وذلك كله باسم أخذ شروط التطور العالمي الراهنة بعين الاعتبار، ومن البديهي أن اقتصاد السوق غير ذلك فهو يؤخذ كله كسلة متكاملة وإلا أصبح تطبيقاً مشوهاً واستغلالاً صريحاً ونهباً منهجياً لثروات البلاد وطريقاً وعرة تدخل المجتمع في أزماته متعددة الجوانب التي يصعب الخروج منها.
من الملاحظ أنه باسم تطبيق سياسة اقتصاد السوق في بعض البلدان العربية نشأت فئة من الأغنياء الجدد لا يملكون تقاليد الفئات الرأسمالية وقيمها فهم في الواقع يشبهون طيور السمك يضربون ويهربون ويبحثون عن الربح السريع ولا يأخذون مصالح بلادهم بعين الاعتبار ولا يرون بعيداً ولا يهمهم الاستقرار وتطبيق ضوابط اقتصاد السوق لأنها لا تحقق لهم هذا الربح السريع والنهب السريع بل تعطيهم هذا الربح موزعاً على عدة سنوات وهم مستعجلون لا يرون لأبعد من أنوفهم.
وقد سرّ بعضهم اختراع اصطلاح اقتصاد السوق الاجتماعي مما يعفيهم من واجباتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمعيشية بل والوطنية، وهاهم يقودون مجتمعاتنا إلى المجهول ليس في المجال الاقتصادي والمعيشي والتنموي فقط بل في المجالات السياسية والوطنية وربما سيوصلونا إلى التبعية التي ناضلت شعوبنا ضدها منذ عشرات السنين.
لقد فُرضت سياسة اقتصاد السوق والخصخصة على مجتمعاتنا التي لا حول لها ولا طول في رفضها، فإن كان لابد من تطبيق هذه السياسة فلنطبقها بكاملها دون انتقائية، لا في المجالات الاقتصادية وحدها بل في مختلف المجالات الأخرى وخاصة السياسية والثقافية والاجتماعية.
جريدة البيان الإماراتية