مبادئ لسياسة عقلانية معارضة في شروط الكفاف السياسي
ياسين الحاج صالح
السنوات الثماني المنقضية من الطور الجديد من العمل العام المستقل، والتي تجايل عمر عهد الرئيس بشار الأسد، كانت موسومة بسياسة منفعلة من قبل المعارضين السوريين. ففي طور أول امتد حتى عام 2005 هيمنت مقاربة إصلاحية، تغري النظام بالإصلاح لأن هذا أفضل لـ «الوطن»، وفي ما بعد هيمنت مقاربة تغييرية امتزج في دوافعها شعور بعقم المقاربة الإصلاحية، وتقلقل أوضاع النظام بفعل الديناميات الإقليمية والدولية التي تلت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
اليوم، وبفعل تفجر أزمة العمل المعارض نتيجة اعتقالات طاولت ناشطين بارزين، وانشقاق سياسي وإيديولوجي زامنها، ووصول المقاربة التغييرية إلى طريق مسدود، تمس الحاجة إلى سياسة مختلفة أكثر اتساقاً واستقلالية، وأقل انفعالاً بسياسات فاعلين لا تأثير للنشاط المعارض على توجهاتهم.
يمكننا اقتراح المبادئ الثلاثة التالية أسساً لسياسة مختلفة.
يقضي المبدأ الأول بتفادي المجابهة مع النظام وتجنب ما قد يفضي إليها. فالقوة لعبة النظام ورياضته المفضلة. والانجرار إلى هذا الملعب هو ما يناسبه لأنه يحوز تفوقاً حاسماً لا جدال فيه. المشكلة هنا أن النظام قد يمارس القوة، ولطالما فعل، حتى حيال اعتراضات سياسية لم تسل بسببها نقطة واحدة من دماء السوريين أو غيرهم في أي يوم. فما معنى تجنب المجابهة في مثل هذه الحال؟ وهل يقع العبء في وجوب التجنب على معارضين لا يكاد يبقى لديهم ما يتنازلون عنه غير وجودهم، أم على نظام اتسم دوماً بخشونة لعبه وانخفاض عريق لعتبة توسل العنف لديه؟ الأمر عسير فعلا. إلا أن عسره لا يمس حقيقة أن على الضعيف، وهو المتضرر الأول من أوضاع المجابهة، أن يساعد نفسه ويبحث عما يبقيه على قيد السياسة متجنباً القمع والاستقالة.
وليس تجنب المجابهة ضرورياً فقط لأن من شأن مجابهة غير متكافئة أن تبدد طاقات نادرة عند جهة قلما تمتعت بوفرة الطاقات، وإنما كذلك لأن لها مفعولاً ردعياً: تضرب أنشط المعارضين فتشل من حولهم، وتعزل حركتهم ككل عن الجمهور العام. وهذا عكس المراد طبعاً من سياسة معارضة نبيهة.
ويوجب المبدأ الثاني ألا يقدم المعارضون أية تنازلات في شأن إعادة بناء الحياة السياسية على أسس ديموقراطية، تمكن أوسع قطاعات الجمهور من أن يكون لها قول في الشأن العام، وكذلك في شأن تطوير معرفة ونقد راديكاليين لهياكل السلطة والثروة في البلد (مع اعتدال النبرة دوماً). والمبدأ هذا مكمل للمبدأ الأول. فاجتناب المجابهة مشروط بعدم تقديم تنازلات، وإلا بات انهزاماً واستسلاماً. وعدم تقديم تنازلات يتوافق أكثر مع النجاح في تجنب المجابهة والقمع. أما الانجرار إلى المجابهة وعدم التنازل في مثل شرطنا فقد يوجد أوضاعاً صعبة تشل العمل العارض أو تجبره على التنازل، أو تدفعه إلى التحدي والانزلاق نحو مجابهة جديدة انتحارية.
ونفترض أن الجمع بين مبدأي تجنب المجابهة وعدم التنازل ممكن، وإن بصعوبة. فإذا أصرت السلطات على مواجهة وتحطيم أي نشاط معارض أو حتى مستقل، وقد كانت الحال كذلك تقريباً في ثمانينات القرن العشرين وتسعيناته، يغدو مبدأ عدم التنازل مبدأ قلبياً، أو مبدأ أضعف الإيمان. أي ينحصر تطبيقه على دائرة الحياة الخاصة. وهذه نتيجة نقبلها بلا تردد. ليس فقط ضناً بحياة وحرية وكرامة مواطنين «عامين» لكن ضعفاء، وإنما كذلك لأن من شأن خوض غمار مواجهة غير متكافئة، تتسبب حتماً بآلام وفواجع كبيرة، أن يقسي القلوب ويوطن الحقد ونزعات الانتقام فيها. وهذا نذير بأن يتشكل المستقبل على صورة الماضي ومثاله، الأمر الذي يتعارض مع تطلعات المعارضين التحررية.
في شروط أقل قسوة من عقدي القرن الماضي الختاميين قد يمكن الجمع بين مبدأي عدم التنازل وتجنب المجابهة بصورة أقل صعوبة. على أية حال إن مهمة السياسيين هي إيجاد مخارج من تناقضات لا مجال للتخلي عن أي من طرفيها. وهذا يحتاج إلى شجاعة مختلفة عن شجاعة عدم تقديم التنازلات، من دون أن تكون أقل أهمية.
المبدأ الثالث هو إعادة بناء العمل المعارض، مفهوماً وفكراً وتنظيماً وسياسة. هذا ميدان عمل أساسي كانت تحجبه أو تقلل من أهميته ثقافة سياسية صراعية، تعلي من قيمة «النضال» و «التحدي» و «الصلابة»، على رغم أن حملتها في وضع يجعلهم أول المؤهلين للانكسار؛ ثقافة تطور أخلاقية محابية لتوجهاتها هذه، فتركز على «البطولة» و«الصمود» وتدين «الانهيار» و»التخاذل»… ثقافتنا السياسية هذه غير مؤهلة للتفكير في مواجهة متكاملة ناجحة مع الاستبداد، وهي أقل تأهيلاً بعد لبناء منظمات وأحزاب وحركات معارضة متطورة أو قابلة للتطور. وحتى لو افترضنا أن مجابهة الاستبداد نجحت بمعجزة ما، فمن أين لحركة معارضة متداعية البنيان، تستغني بمجابهة الخصوم عن بناء الذات، أن تتصدى لأعباء ما بعد الاستبداد، أي بناء الديمقراطية؟
وقد ندرج ضمن المبدأ الثالث هذا وجوب تنقية أجواء العمل المعارض وتجنب الانجرار إلى خصومات داخله. فإذا كان تفادي مجابهة السلطات أمراً مرغوباً، فمن باب أولى يتعين تفادي توترات وصراعات جانبية في أوساط المعارضين. هذا فضلاً عن أنه يمتنع الجمع بين عمل تحرري مخلص وبين أجواء مسمومة في أوساط الناشطين العامين.
هل لسياسة منضبطة بمبادئ كهذه أن تكون مجدية؟ للأسف ليس لنا أن نتوقع كبير جدوى منها. فما يحكم بلا فاعلية العمل المعارض هو شروط الكفاف السياسي المفروضة منذ أمد يتجاوز عمر نحو 85 في المئة من السوريين. إلا أن رهانها أصلاً لا يتجاوز إنقاذ فسحة لعمل وطني عام لم يلوثه الفساد ولا الاستبداد، قد تكون أساساً أصلح لبناء وطني معافى ذات يوم. وهي إن لم تمكننا من التقدم في العمل التحرري، فإنها قد تحصننا من الانزلاق إلى الوحشية.
*** قبل حين، وفي غير هذه الصفحة، كان كاتب هذه السطور اقترح رؤية لمواجهة إسرائيل من قبل أي طرف أو أطراف عربية ممكنة، تقوم على هذه المبادئ ذاتها: تجنب المواجهة، عدم تقديم تنازلات، البناء الداخلي. وحيال الواقعين تبدو الرؤية هذه ممكنة واقعياً، ومتسقة أو غير متناقضة ذاتياً.
ولعل الأصل في صلاحية المبادئ ذاتها من أجل العمل المعارض كما من أجل مواجهة الواقعة الإسرائيلية هو الاختلال الهائل في موازين القوى لغير مصلحة الأطراف العربية والمعارضات الديموقراطية من جهة، وانعدام الثقة العميق وسوء الظن المجرّب والمبرّر بالطرف الأقوى في الحالين من جهة ثانية.
خاص – صفحات سورية –