حياة عربية تخرج من القمقم
أمجد ناصر
ترينا الكاميرات التي تتابع، بصعوبة، وقائع أيام الجمر الليبية لمحات من المدن التي تفجَّرت فيها الثورة. يتساءل المرء وهو يرى صوراً من مدن ليبيا عما إذا كانت تقع في بلد يتوافر على واحدة من أضخم الثروات البترولية في العالم ويملك زعيمه ما يقدّر بنحو مئة وعشرين مليار دولار، عدا ثروة أبنائه ونخبة نظامه؟ هل هذا هو ‘المجد’ الذي يتحدث عنه العقيد بلا كلل أو ملل في خطبه المملة؟
لا نستغرب، ونحن نطالع هذه الصور، أن تكون المدن الليبية منجماً للثورة والغضب، بل نستغرب أن ذينك الثورة والغضب تأخرا كثيراً. يكفي إحساس الليبيين بأن بلادهم تملك ثروات هائلة لا ينالهم منها سوى الفتات لتفجير الغضب، فكيف إذا ترافق حرمانهم من ثروة بلادهم بتكميم أفواههم وشلَّ قواهم وعزلهم داخل سجن كبير وتوريثهم، كعزبة أو إقطاعية، إلى أبناء ‘القائد’ وربما إلى أحفاده أيضاً؟
لكن يبدو أن لكل شيء حداً……
لكل شيء نهاية.
وقد جاءت نهاية صبر الليبيين الطويل على شكل ثورة عارمة ستسهم (مع أخواتها) في تغيير صورة العالم العربي جذرياً على ما يبدو. هذا العالم الذي قال عنه تلاميذ مدارس الاستشراق المفلسة إنه عصيٌّ على التغيير، ولكن إن فعل سيكون البديل أصولية إسلامية! ثورة ليبيا جزء من سلسلة ثورات عربية تخترق الحدود والمواضعات وتنسف ‘الخصوصيات’. ثورة مدن شقية وشعوب مكبلة تخرج من وراء الركام والاسوار.
فمنذ شهرين والعالم العربي يعيش في هذه الأجواء. هناك عاصفة تهبّ على العالم العربي مشرقاً ومغرباً. عاصفة بدا أنها حُبِست، طويلاً، في قمقم فأخذت أشكالاً انفجارية، مفاجئة، سريعة، يصعب التنبؤ بمصائرها. كلنا نعرف ما هو المحبوس في القمقم. لقد كان الناس. كانت الحياة نفسها. أسوأ من ذلك كانت الأحلام. النُظم العربية التي تعرف، مثلما نعرف، أن الحياة محبوسة في قمقم لم تفعل شيئاً بغية تنفيس هذا الحبس، هذا الضغط الذي تزايد بمرور الوقت، بل أدارت له، بعنجهية وكِبْر، ظهرها.
هناك انفصال شبه تام بين النُظم وبين الناس. انقطاع عن نهر الحياة الذي يهدر الغضب تحت صفحته التي تبدو من الخارج راكدة. الانفصال تمَّ في قمة النُظم العربية مثلما تمَّ في الواقع. انفصال متزايد بين من يملكون كل شيء تقريباً (السلطة والمال) ومن لا يملكون شيئاً تقريباً. انفصال النخب الحاكمة صورة في المرآة لانفصال اجتماعي. هناك عواصم عربية يتجاور فيها الغنى الفاحش والفقر المدقع. الأبراج الزجاجية والقبور، ‘ المولات’ ومكبَّات النفايات. هذه المدن مناجم للانفجارات التي تزلزل الآن الأرض العربية وتسقط نظرية ‘ الاستثناء العربي’ الركيكة.
‘ ‘ ‘
صورة المدينة العربية تبدو اليوم على صورة النظام القائم. ثمة ما يشبه الكانتونات التي تقيم فيها النخبة السياسية والمالية الحاكمة ، تتوافر على آخر ما ينتج في الغرب والشرق من أدوات وسلع وترفيه وسفه، وأحياء تتمدد، بعريها وفقرها وأنينها وخبزها الناشف، على نحو عشوائي في كل اتجاه. تحيط المدينة كأحزمة بؤس. هذه هي قوة العمل والخدمات (إن وجدت عملاً أصلاً) التي لا تنال من ثمرة كدحها إلا ما يكفل لها البقاء الحاف. ليست هناك مدن فاضلة على وجه الأرض. ليست هناك مدن سعيدة. تلك هي المدينة التي يصبو إليها المسعى البشري الشقي مذ عرف معنى الاجتماع الانساني. المسعى الذي يبدو أنه لن يتحقق إلا في اليوتوبيات المتعالية، إذ ان قصارى ما ترمي إليه فكرة العدالة، كما يبدو، هو تقليص الفوارق المطردة بين أبناء التسعة أشهر. مدن العرب اليوم هي ديستوبيا مؤكدة: شقاء. فقر. مرض. كآبة. عطالة مستفحلة. فلنحاول استعراض المدن العربية الكبرى (العواصم) واحدة واحدة لنرى إن كانت هناك مدينة عكس ما قلت. أين هي المدينة العربية التي ليست مسرحاً للشقاء، مصنعاً للانفجار؟ لا توجد على الأغلب. لا المدن التي تظللت بكاريكاتير ‘ الاشتراكية’ ولا المدن التي لم تعرف سلطة لهذه الفكرة المتفائلة. لكن المدن العربية لم تكن يوماً على هذا الانقسام الذي تعرفه اليوم. فقد كانت للمدن العربية من قبل بؤر التقاء بين ‘ الخاصة’ و’ العامة’، نقاط تقاطع بين الحاكمين والمحكومين. اليوم هناك الانقسام الحاد. الهوّات الفاغرة.
‘ ‘ ‘
الانفصال شبه التام إذن بين النخبة السياسية والمالية العربية الحاكمة عن السواد الأعظم من الناس وصفة جاهزة للانفجارات. ولقد رأينا هذه الانفجارات تتوالى من تونس ومصر واليمن وليبيا، مروراً، تقريباً، بمعظم الدول العربية، ومن لم يلتحق بهذا الركب العاصف بعدُ سيفعل بعد حين. فلا عصمة لبلد عربي. لا جبل يمكن اللجوء إليه فراراً من الطوفان. ففي وضع تتحالف فيه السياسة مع المال ويتعمق فيه الانقسام بين الناس ويزداد تكميم الأفواه لا ينفع أي غطاء. لا تجدي أي شرعية. ومن يظنون أن ‘ الموقف القومي’ اللفظي أو’ الممانع’ الفارغ من المحتوى يشكل شرعية لنظام عربي يخطئون. الانفجارات العربية اليوم لا تنطلق مما هو ‘قومي’ بل أساساً مما هو محلي. هذا ما حصل في تونس وحصل في مصر ويحصل في ليبيا والبحرين واليمن. ثورتا تونس ومصر انطلقتا من واقع الحال المحلي. من التزاوج غير المبارك بين الحكم والمال. من تكميم الأفواه وتحويل إدارة شؤون الدولة إلى قضية أمن دولة. من التغوّل في الغنى. من الطوراىء. من عراضات الموالاة الكاذبة التي سرعان ما كشف الواقع عكسها. قد يُطرح ‘ الموقف القومي’ لاحقاً. لا بدَّ أن يطرح، لكن ليس الآن. لأن الأولويات التي رتبتها الأنظمة لنفسها هي نفسها التي تنطلق منها رياح العصف.
هل هناك مجال لاستدراك ما؟ لمن لم تلسعه بعدُ رياح العصف قد يكون. إنه الترجّل من علياء الانفصال عن الناس. من ردم الهوَّات المتسعة. من التعامل مع الشعب كمواطنين وليس كرعية. ليس كقطيع أغنام. قد يكون هناك مجال لاستدراك العصف القادم لمن لم تصله الرياح التونسية والمصرية والليبية. إنه في التحرك، سريعاً، لرفع الغطاء عن القمقم الذي حُبست فيه الحياة أمداً طويلاً.
القدس العربي