التفوق الأخلاقي الساحق للثورة المصرية
د. ثائر دوري
عبر التاريخ كانت الثورة فعل عنيف لأن من يقوم بها من المظلومين ، و من المحرومين المضطهدين المذلين المهانين لعقود إن لم يكن لقرون .
قسم منهم تم اعتقاله و اذلاله من قبل النظام الذي ثار عليه ، و قسم آخر فقد أخاً او صديقاً ، و قسم ثالث اضطهد اقتصادياً فشاهد أباً أو ابناً أو أخاً يموت على فراش المرض دون قدرته على تقديم الرعاية الطبية الملائمة لعدم توفرها لمن لا يملكون . و قسم لرابع من هؤلاء الثوار حُرم من فرصة التعليم . و آخرون من فرصة العمل ، أو فرصة الزواج و تكوين أسرة . لقد عُذبوا و اضُطهدوا و حُرّمت عليهم فرصة الحياة اللائقة الكريمة . … تجتمع كل قصص الإضطهاد و الإذلال و الظلم و الفقر و الحرمان و تنفجر في لحظة واحدة مشكلة سيلاً جارفاً يطلق عليه اسم “الثورة” . فيقلب أصحاب هذه القصص العالم رأساً على عقب ليزيلوا مظالمهم دفعة واحدة و كي يصححوا مسيرة التاريخ .
تجتمع عشرات آلاف القصص الحزينة اليائسة و أشباهها في الثورة ، فكل شخص متمرد يحمل قصة حزينة تصلح أن تُكون ثورة لوحدها . و ينفجر الغضب المتراكم في هذه النفوس -بسبب الظلم المزمن – في الساحات العامة ، أو على روؤس الجبال ، أو في الأرياف . ينفجر الغضب المتراكم عنيفاً يريد أن يزيح الظلم دفعة واحدة ،و أن يسعى لإحقاق الحق بضربة واحدة لازبة هنا يبرز العنف بوصفه حلاً سحرياً ينفث عن الغضب المتراكم في النفوس و كونه وسيلة سهلة لإعادة العالم واقفاً على قدميه بدل رأسه . و مما يشجع المظلومين و المضطهدين على تبني خيار العنف و التعمق به أن قوى الظلم من استعمار خارجي أو داخلي ليست قوى منطقية مفكرة تُديم سيطرتها بواسطة النقاش و الإقناع ، بل هي قوى عنيفة لا تملك سوى القوة لحماية مصالحها ، فالاستعمار الخارجي يحتل الأرض بالدبابات و بالمدافع و بالطائرات ، و الإستعمار الداخلي يديم حكمه بقوى الأمن و المخابرات و السجون . و هذه القوى تملك موارد غير محدودة لإدامة عنفها . أمام هذه المعادلة يذهب المظلومين إلى تبني وسائل عنيفة ، فيردون على الرصاصة بالرصاصة و على القتل بالقتل ، و يرتكب الثوار أحياناً أعمالاً وحشية يمكن فهمها في اطار الظلم الذي تعرضوا له ، و هذه الأعمال رغم أن وحشيتها لا تشكل سوى كسراً صغيراً من تلك التي ارتكبتها قوى الاستعمار الداخلي أو الخارجي ، هذه الوحشية المحدودة تستغلها قوى الاستعمارين الداخلي و الخارجي لتشويه صورة الثورة و الثوار فتشتغل آلتها الإعلامية الهائلة لتصور الثوار على أنهم مجرد قتلة مجرمين رغم أن عنف المظلومين هو رد على عنف الظالمين ، و توظفها في سياق الثورة المضادة .
كانت هذه المعادلة من العنف و العنف المضاد بين الظالم و المظلوم موضوع تأمل لكثير من منظري الثورات و المفكرين ، فبرزت نظرية العنف الثوري في سياق ثورتي الاتحاد السوفيتي ، و الصين . و اقترح المفكر الجزائري فرانز فانون أن للعنف الذي يمارسه المظلومون ” قوة تطهيرية ” تحرر المقهورين من “عقدة النقص، واليأس، والعجز عن الفعل”، فتشدّ عزائمهم وتردّ لهم احترام الذات.
لكن تاريخ الثورات يخبرنا أن عنف المظلومين سواء كان ثورياً ، أم تطهيرياً من الصعب ضبطه في مجرى واحد ، فهو ليس نهراً له نبع واحد و يسير في مجرى منظم ، بل هو أشبه بالسيل الجارف غالباً ما يأخذ كل ما يوجد في طريقه ، و قد يشق طرقاً غير متوقعة و غير مطلوبة ، فتحولت المقصلة إلى رمز للثورة الفرنسية ، و هي مقصلة لم تميز بين الأعداء و الأصدقاء ، و شاهدنا معسكرات الاعتقال السيبيرية الرهيبة …….. و يُحول العنف مشاعر الانتقام إلى مشاريع قتل لا تنتهي خاصة أن الثوار يعيشون في عالم ليس من صنعهم فهم يحسون بأن ثورتهم مهددة في كل لحظة من الداخل و الخارج و يشاهدون جيوش الثورة المضادة العسكرية و الإقتصادية و الإعلامية تحاصرهم من كل الجهات و في ذهنها هدف واحد سحق الثورة و إعادة العالم إلى وضعه السابق ، فتتحرك غريزة الدفاع عن النفس لدى الثوار لتُفاقم العنف . هذه المرة للدفاع عن النفس و عن الثورة ، و يكون هذه المرة بأقصى درجة لأنه عنف الخائف ، الخائف على حياته و على ثورته . و هكذا ينحدر المظلومون إلى مستوى الظالمين فيمارسون بعض ممارساتهم حتى أن بعض الكتاب اعتبر ذلك الأمر قانوناً كونياً ” يكتسب الإنسان مكانة العدو الذي يصارعه ” رغم أن بعض المفكرين حذروا الذين يصارعون الوحوش من أن يتحولوا إلى وحوش !
ربما لم تنجو ثورة عبر التاريخ من هذا المصير . و هذا ليس بإدانة للثورات ، فالثورة هي عمل نبيل دائماً ، و هي لا تتحمل مسوؤلية العنف بل إن المسؤولية تقع على الظالمين الذين مارسوا العنف لعقود و ربما لقرون فأعاقوا مسار تطور التاريخ و حبسوا طاقة الشعب الخّلاقة في زجاجة و أحكموا اغلاقها حتى انفجرت .
لكننا لم نر هذا المسار المتوقع في الثورة المصرية ، لم نر عنفاً و لم تسل دماء إلا ما شاء الطاغية ، و لم تنفجر مشاعر انتقام ، و تطهر المظلومون من الذل و المهانة بطريق آخر غير طريق العنف . و رأينا النظام رغم امكانياته المادية الهائلة اعلامياً و اقتصادياً و عسكرياً و عبر العلاقات الدولية ، رغم كل ذلك رأيناه يلجأ إلى أحط انواع العنف فيتحول إلى مجرد عصابة مسلحة ، و يصد الثوار هذا العنف بصدورهم و أياديهم العارية دون أن يفكروا مجرد تفكير بتبني أساليب شبيهة بأساليب النظام لصد العنف الذي يتعرضون له ، رغم أن ذلك يعد امراً مشروعاً و لن يلومهم على فعل ذلك سوى الكتائب الإعلامية للثورة المضادة .
إن التفوق الأخلاقي للثورة المصرية أصاب العالم بالذهول ، و اضطر العدو قبل الصديق للانحناء و التسليم بهذا التفوق . و بعد الانتصار الكبير في الشوط الأول للثورة لم تنفجر مشاعر انتقام كما كان يحدث في كل الثورات فرأينا الحياة تستمر هادئة دون أن يعني ذلك تخلي الثوار عن هدفهم بإقامة عالم جديد ، مصر جديدة . و هذا الهدوء و استمرار الحياة كأن شيئاً لم يحدث أصاب الأصدقاء و الأعداء بالدوار ، فالمشهد ليس مشهد ثورة منتصرة ، فلا دماء تسيل في الشوارع ، و لا اعدامات ، و لا بيانات مرقمة تبدأ من الواحد ! حسب بعض الأعداء فرحين أن الحياة ستستمر كما كانت قبل الثورة ، و تحسر بعض الأصدقاء على الثورة المضيعة . لكن شباب الثورة تابعوا شق طريقهم واثقين ، فأصابوا الصديق و العدو بالدوار و الحيرة مثبتين يوماً بعد يوم أن الثورة الحقيقية هي أكبر ما يمكن أن يبدعه الشعب، و لأنها ابداع فهي لا تشابه شيئاً مما سبقها ، هي طريق جديدة لم تكن موجودة لكن الشعب هو الذي يشقها ، و كأنهم يرددون ” أنه ليس هناك طريق ، الطريق تصنعه الأقدام بالمشي ”
الثورة المصرية التي لا تزال تتوالى فصولاً هي حدث تاريخي من مرتبة الأحداث التي تشهدها البشرية في فترات زمنية متباعدة ، و هي بتفوقها الأخلاقي حدث غير مسبوق في تاريخ الثورات ، و تأثيراتها على كل أنحاء العالم ستكون هائلة ، ففي الأخبار أن ثورة مصر ألهمت نقابات العمال في ولاية ويسكونسن الأمريكية فهي تطالب برحيل حاكم الولاية الجمهوري سكوت واكر على غرار رحيل حسني مبارك ” ارحل سكوت مبارك ”
كاتب سوري
القدس العربي