«الإخوان المسلمون» والفرصة الثمينة
بشير عيسى *
صحيح أن الثورة المصرية كسرت حواجز الخوف والتهميش، وأعادت الى الجماهير هوية اسمها الشعب، عملت أنظمة القمع ومؤسسات التتريث على طمسها. لكن يبقى التحدي الأكبر في توظيف هذه المكاسب بالطريقة التي تضمن صون ما أنجز، بروية وحكمة، تمكنها من العبور إلى دولة المؤسسات. ومن هنا الرهان على شباب التغيير، بالمضي قُدماً في انتزاع تشريعات تحمي مدنية الدولة من التفرد بالقرارات المصيرية والاستئثار بالسلطة. ولذلك يتوجب الإسراع في تشكيل هياكلها التنظيمية بالمشاركة مع شخصيات وطنية تثق بها، لفهم كيفية ملء أكبر مساحة من الفراغ المتأتي من سقوط النظام، لأن ما حدث فرصة تاريخية، ستحاول كل القوى السياسية استثمارها.
عندما أفرغ النظام «السابق» الحياة السياسية، كان يراهن على غطاءين يستمد منهما شرعية بقائه في الحكم: الأول، ممثلاً بالأزهر كمؤسسة، أطلق يدها في معظم المجتمع المصري، ليضمن دعمها ومؤازرتها، وهو ما جعلها سلطة دينية ومجتمعية، مارست دور الرقيب على الفن والثقافة والحريات العامة والخاصة، كما وضعت يدها إلى حد بعيد على المناهج التعليمية والتربوية، وهو ما حد من حراك القوى السياسية، العلمانية والليبرالية، الأمر الذي عزز الطبيعة المتدينة للشعب المصري. في ظل هذا المناخ المتأسلم، كان النظام السابق يعمل على تنشيط المواجهة مع القوى الإسلامية كجماعة الإخوان والجماعة السلفية للتكفير والهجرة. بهذه الميكيافلية، استطاع نظام مبارك استحضار بديل إسلامي راديكالي، عمل على تظهيره وتضخيمه، لشد الأنظار إليه، ووضعه في خانة البديل في حال إقصائه، وكل ذلك ليضمن الغطاء الثاني في استمرار مشروعية بقائه، والمتمثل بالمظلة الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة. وتحت هذين الغطاءين كان النظام الحاكم يمسك العصا من النصف، من دون أن ينسى إعطاء الأحزاب التقليدية المعارضة، هامشاً صغيراً من الحرية المدروسة يزين بها صورته أمام حلفائه في الخارج، معتبراً أن «الخصوصية المصرية» لا تسمح بأكثر من ذلك، كما يمكن هذا الهامش أن يتسع إذا شعر بخطر من المؤسسة الدينية. لعبة أجادها الفريقان، وضمن هذا الجو كان الإسلام السياسي ينمو تحت أعين الأجهزة الأمنية، فما الذي حدث؟
انتفاضة من حيث لم يُحتسب قام بها شباب من الطبقة الوسطى، ظن النظام أنه في مأمن منهم، كونهم رواد مقاهي انترنت، بعيدين من العمل السياسي. وهي كانت نواة لثورة شعبية، رأت فيها الأحزاب والقوى التقليدية فرصة ذهبية قد لا تتكرر للإطاحة بالنظام. ولعل الشكل السلمي والوطني للثورة أجبر الجيش على عدم مواجهتها، لا بل ذهب إلى تبني مطالبها، من موقع القوة والتريث لما يمكن أن تؤول إليه الأمور، محافظاً في الوقت ذاته على سمعة «نزيهة» أرادها له المتظاهرون، وتواجد يضمن موقعه ودوره في الساحة المصرية. فماذا بعد السقوط، ومن يحمي الدولة ومؤسساتها من وصول قوى متطرفة تعيد من خلالها إنتاج سلطتها. الغضب ضد الوضع الظالم كان كفيلاً بالتغيير، لكن البناء لا يستقيم مع الغضب. وما تقتضيه المرحلة الانتقالية خبرة بالعمل التنظيمي والسياسي، فمن هو الجسم التنظيمي الأقوى لمرحلة ما بعد مبارك؟
هناك هواجس ومخاوف من وصول الإخوان، فالنظام حين سقط، ترك خلفه البديل الإخواني، والسؤال الحيوي هنا: هل يقدر التنظيم الشبابي الناشئ بضعف خبرته السياسية والتنظيمية على متابعة الطريق بالزخم ذاته، في ظل أزمة معيشية متفاقمة يأمل فيها المواطن المصري حلاً فورياً؟ لقد أتى تخوف البرادعي من أن انتخابات مبكرة، ستطيح مكاسب الثورة، تأكيداً لما نذهب إليه. فالإخوان أدركوا أخيراً خطورة الوضع المعيشي، لذلك عمِلوا على تغيير خطابهم السياسي، مركزين على قضايا معيشية وخدماتية تتصل بالفساد الحكومي، وهو ما عزز حضورهم، لا سيما بعد إبعادهم بتزوير انتخابي مكشوف. أمام هذا الوضع الراهن، يبدو الإخوان الأقدر على استغلال التحول الذي تمر به مصر، وستعرف الجماعة كيف تستغل هذا الانكشاف السياسي، فرصة لن تهدرها الدينامية الصاعدة للإخوان، لا سيما وسط الفقراء والمعدمين والذين تتزايد أعدادهم جراء انكماش الاقتصاد الوطني الناجم عن الثورة.
وإلى أن يستعيد الاقتصاد عافيته، يحتاج الى فترة ليست بالقصيرة هي الفرصة الثمينة للإخوان، فالجائع لن يصبر طويلاً وإذا ما أُجريت الانتخابات فسيذهب صوته إلى أصحاب الجمعيات والمعونات الخيرية، أي، الى مال سياسي غير معلن سيجتاح مناطق واسعة!
ويبدو أن الإخوان مرتاحون لما يجري وماضون بخطى مدروسة للسلطة، وإن أعلنوا للرأي العام أنهم غير ساعين إليها، في محاولة لتبديد المخاوف، وهو ما يذكرنا بما كان يتحدث به «حزب الله» من انه لا يرغب في السلطة، فإذا به يضع يده على القرار السياسي في لبنان. فهل تكفي الوعود، لتبديد الهواجس؟
* كاتب سوري.
الحياة