ثورة مصر

ثورة الفلّ تلحق بثورة الياسمين وتعجِّل في الحراك السياسيّ في عموم الوطن العربيّ

null
* نادر فرجاني
أيذهب الطغاةُ الجلاّدون إلى مدرسةٍ واحدة؟ أيعْملون وفق كتيّب إرشاداتٍ واحد؟ أمْ أنّ ما يحْكم سلوكَهم هو أنّهم أفظاظٌ غلاظُ القلوب، ولكنّهم في العمق جبناءُ مجرَّدون من أيّة شهامة، فينتهون إلى اعتماد السلوك نفسِه في الظروف ذاتِها: فينزعون إلى تخريب البلد الذي حكموه بالحديد والنار ونهبوه سنين طوالاً،عندما يتأكّد لهم أنّ الشعب قد عزمَ على التحرّر من تسلّطهم وإجرامهم، ثم يفرّون مؤْثرين السلامةَ، ولا يلقون بالاً إلاّ إلى الثروات التي نهبوها من دم الشعب وعرقِه؟
انظرْ كيف أمر الرئيسُ الذي كان مغتصبًا للسلطة في مصر، بفرض حظر التجول يوم جمعة الغضب (28 يناير) قبل أقلّ من ساعةٍ من بدء نفاذه، بما لم يسمح للجيش الذي أوكل له المسؤوليّة، بالانتشار لحفظ الأمن وحماية البلد.
وانظرْ كيف أنّ طلائع الجيش من الحرس الجمهوريّ أُمِرتْ، قبل أيّ شيء، بحماية قصر الطاغية، ومقرّ السفارة الأمريكيّة، ومقرّ الإذاعة، صوت الطاغية المزِّيف للحقيقة والواقع والمجمِّل لوجه الحكم التسلّطيّ.
وانظرْ كذلك في جريمة إصدار الأوامر إلى الشرطة بالانسحاب من جميع المواقع قبل أن يتسنّى للجيش أن ينزل إلى الشارع (الجديرُ بالتذكر هنا هو أنّ رئيس الدولة، وفق الدستور المعيب القائم، هو رأسُ السلطة التنفيذيّة، وأنّ الوزراء مجرّدُ معاونين، ومن ثم يتحمّل الرئيس مغبّة قراراتِ مرؤوسيه).
ثم انظرْ كيف عاثت الشرطةُ السريّة، وأعوانُ حزب الحاكم من الشقاة الصعاليك، سلبًا وإحراقًا وترويعًا للمواطنين، وإطلاقا للمساجين، بينما امتنع جهازُ الشرطة عن حماية أمن الوطن والمواطنين، في محاولةٍ للإساءة إلى الانتفاضة الشريفة والكيد للخصوم السياسيين باتّهام الإخوان المسلمين و”حماس” وإيران، افتعالاً لفزّاعة محاولة التيّار الإسلاميّ السيطرةَ على البلد.
ألم يفعلْ “زين الهاربين” كلَّ ذلك حرفيًا تقريبًا من خلال جهاز أمنه الرئاسيّ؟ لكنّ جلاّد مصر تفوّق عليه بمحاولة الوقيعة بين الشعب، والجيش، وجهازِ البطش البوليسيّ المؤتمِرِ بأوامر وزير الداخليّة المجرم، الذي أصدر الأوامرَ بالتخريب بعد الانسحاب، ثم احتمى بمقرّ الوزارة، الذي ظلّ القنّاصةُ يطلقون منه الرصاصَ الحيَّ على المتظاهرين.
لقد كان الرئيسُ السابق مغتصبًا للسلطة منذ يوم انتخابه المزوَّر، كما هو معروف للكافّة. ولكنّ هذه الشرعية المزوَّرة نفسها نُقِضَتْ تمامًا ببدء ثورة شباب الفلّ في عموم مصر منذ 25 يناير الماضي. فعددُ مَنْ خرجوا في المظاهرات المطالبة بإسقاط الرئيس السابق الفاسد والمستبدّ وبإسقاط نظامه أكبرُ بما لا يقاس من عدد الأصوات الصحيحة التي قد يكون حصل عليها في انتخابات الرئاسة المزوّرة. وإذا أضفنا إلى المتظاهرين مَنْ ناصروهم مِنْ عموم الشعب المصريّ، لتبيّن أنّ غالبيّة ساحقة من الشعب المصريّ صوّتتْ لعزل الرئيس السابق. والنتيجة هي أنّ هذا الشخص لم يعد رئيسًا شرعيًا لمصر، ولم يكن يحقّ له من ثمّ أن يعيّن نائبًا له.
لو كان عند الرئيس السابق بقيّةٌ ضئيلةٌ من كرامةٍ أو حياءٍ لاعتزل منذ نهاية يناير. إلا أنّه ـ نتيجةً لمرضٍ نفسانيّ يمتزج فيه جنونُ العظمة بالعُصاب، منشئًا حالةً من الإنكار المَرَضِيّ، أو استماعًا لـ “نُصْح” بطانة السوء التي كانت تحيط به ولـ “نُصْح” أقرانه من المتسلّطين العرب وأصدقائه في إسرائيل ـ اختار أن يسوِّف ويماطل، حرصًا على إنقاذ الثروة التي نهبها هو وعائلتُه وبطانتُه، ولضمان وجود نظامٍ يحميه هو وأموالَه ويرعى مصالحَ إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة.
***
يثير انتصارُ ثورة الفلّ في مصر مسائلَ رئيسةً تتعلّق اثنتان منها بمساءلة عُمد النظام البائد وأعوانِه، وتتّصل الثالثة بالأثر التراكميّ لثورتَي الياسمين والفلّ في الحراك السياسيّ صوب الحريّة والديمقراطيّة في الوطن العربيّ.
1 ـ عن الشهداء والقتلة. يَغِيبُ في غمرة الجدل السياسيّ المحتدم الآن في مصر، أحيانا، أنّ آلافًا من شباب الثورة وعائلاتهم تكبّدوا تضحياتٍ جسيمة. إلى أنْ وَضَعَ تلك الحقيقةَ في بؤرة الاهتمام ذلك الشابُّ الرائعُ وائل غنيم، من زهرةِ شبابِ مصر الفلّ، وذلك عندما بكى، على الهواء، حين ذُكر رفاقه الشهداءَ الأبرار، منحيًا باللائمة على المتشبّثين بالسلطة، زورًا وجورًا.
لماذا كان كلُّ هذا التشبث بالبقاء في السلطة؟ وهل يساوي سقوطَ أكثر من 300 شهيد و5000 جريح من خيرة شباب مصر (وبعضُ الجرحى فقد كلتا عينيه) بسبب عنف تحالُفِ السلطة والثروة، الذي ينازع سكراتِ الموت، ولكنّه يرفض أن يرحل حفاظًا على “تحويشة عمْر” الرئيس السابق وحاشيته ولضمان مصالح إسرائيل والولايات المتحدة؟ لا ريب في أنّ قطرةً واحدةً من دماء شباب مصر الرائع أغلى من كلّ أموال الدنيا وجميع المتسلّطين، ولكنّ ذلك ليس منطق تلك الشلّة المنحطّة.
لقد ضُبطتْ مع السيّد حسين سالم، تاجرِ السلاح، ومورِّدِ الغاز إلى “إسرائيل،” وأقربِ رجال الأعمال إلى مبارك، أموالٌ سائلةٌ تراوح تقديرُها بين نصف مليار دولار ومليار ونصف نقدًا، وذلك في رحلة هروبه (التي لم يوقفْه فيها أحدٌ) إلى سويسرا عبر دبي. فإنْ كان هذا ما كان يحمله للنفقات “النثريّة،” فكم تبلغ ثروتُه كلّها، هو وشريكه؟ واضحٌ أنّ مَنْ جرى التحفّظُ على أموالهم هم مِنْ صغار الفاسدين الذين قرّر النظامُ أن يضحّي بهم للتعمية على الحيتان الكبار الذين نهبوا مصرَ وشعبَها طوال ثلاثين عامًا أو يزيد. كما نفهم الآن لماذا جرى تعيينُ رئيس الوزراء السابق، مُصفِّي القطاع العامّ، مديرًا للمصرف العربيّ الدوليّ، الذي لا يَخْضع لرقابة البنك المركزيّ، براتبٍ شهريٍّ باهظ، وذلك في ضوءِ ما يرد الآن عن تحويل المصرف أموالاُ هائلةً من دون ذكر أسماء.
إنّ حقّ الشهداء والمصابين من خيرة شباب مصر لا يوفى إلاّ بعودة جميع أموال سارقي مصر إلى الشعب المصريّ، وتوظيفِها لإزالةِ ما جرّه الحكمُ عليه من بطالةٍ وفقرٍ وكربٍ مقيم. ولكنّنا قبل ذلك نسأل:
لماذا لم يهرعْ وزيرُ الماليّة إلى ترتيب تعويضاتٍ ومعاشاتٍ كريمةٍ لأُسر الشهداء والمصابين، على حين هرول لتعويض أصحاب الأعمال من الخسائر التي تكبّدوها خلال فترة الانفلات الأمنيّ والتخريب الذي أمر به المجرمُ وزيرُ الداخليّة السابق؟ وأنا هنا أعني تعويضًا فوريًا قدرُه مليونُ جنيه لأسرة الشهيد، ومعاشًا شهريًا قدرُه ألفُ جنيه للفرد في الأسرة، وتعويضًا للمصاب قدرُه ربعُ مليون جنيه جرّاء الإعاقة الجزئيّة ونصفُ مليون جنيه جرّاء الإعاقة الكليّة. وأرجو ألا يتنطّح أحدٌ إلى الزعم أنّ الميزانيّة لا تتحمّل التكلفة؛ فهذه قد لا تتعدّى نصفَ ما قرّره الوزيرُ لرجال الأعمال. ولتُخصمْ تعويضاتُ الشهداء والمصابين من مخصّصات المجرمين المباشرين، أيْ وزارة الداخليّة وحزب الحاكم، ومن أموالهم. أما جنودُ الشرطة الأسافل الذين أطلقوا الرصاص الحيّ على شباب مصر الثائر، فليسوا إلا الأصابعَ القذرةَ التي ضغطتْ على زناد أسلحة الشرطة أو دهست المتظاهرين بمصفّحاتها (وكلُّها مشتراةٌ بدم الشعب وعرقه)؛ ذلك أنّ القتلة الحقيقيين هم مَن أصدروا الأوامر، من ضبّاط الشرطة وقياداتها، ومن طغمة رؤوس النظام في حزب الحاكم وفي الدولة، حتى رأسها (الرئيس السابق).
2 ـ لتبدأْ مصرُ الفلّ صفحةً بيضاءَ من غير سوء. غداةَ انتصار ثورة شباب الفلّ، تكرّرتْ مناشداتٌ، نبيلةُ المقصد، لإعادة بناء مصر الحرّة على أساسٍ من التسامح. إحداها صدرتْ من المُخْرج المبدع خالد يوسف ــ وأذْكره بالاسم لأنّ دعواتٍ مماثلةً صدرتْ عن بعض أعوان النظام البائد طمعًا في طيب سجيّة الثورة التي جهدوا في منعها، ولم يتورّعوا عن محاولة تدنيسها حين قامت، ولمّا تأكّد انتصارُها حاولوا تملّقها وركوبَ موجتها طمعًا في مغنم… تمامًا كما فعلوا مع النظام البائد.
وأعلمُ أنّ القصد النبيل هو تفادي تضييع الوقت والجهد في ثأريّةٍ جموحٍ وقعتْ في بلدانٍ عديدةٍ في مراحل ثوريّة. لذا أتّفق تمامًا مع هذه الدعوة، وأُثني عليها بكلّ قوة، حتى لا ينحرفَ جهدُ المصريين، أفرادًا وجماعاتٍ وهيئاتٍ، عن المهامّ الجسيمة التي تنطوي عليها إعادةُ بناء مصر لتكون دولةً قويّةً عصريّةً تَضْمن الحريّةَ والعدلَ والكرامةَ الإنسانيّة لجميع أهلها. ومن ضمن هذه المهامّ أن نضمن مستوًى من الاستقامة الشخصيّة والوطنيّة لدى جميع المصريين الذين يمكن أن يشاركوا بخصالهم تلك، وبفعّاليّة، في بناء مصر التي نروم.
لهذا، فإنه ليس من حقّ أحدٍ التسامحُ مع مَن نهب ثروات مصر فأفقر أهلها وأذلَّهم، أو أزهق أرواحَهم، أو عذّبهم، أو انتهك حقوقَهم. هذه جرائمُ لا بدّ من الاقتصاص من مرتكبيها حتى يصحّ البناءُ الجديدُ المنشود. والتحدّي الكبير هو ضمانُ القصاص العادل مع تفادي الثأريّة الجموح المدمِّرة، وذلك بالتشديد القاطع على ألاّ يَخْضع متَّهمٌ، أيًا كان الجرمُ المنسوبُ إليه، إلاّ إلى محاكمةٍ نزيهةٍ وعادلةٍ أمام القاضي الطبيعيّ، المستقلِّ تمامَ الاستقلال، وأن تُضمن جميعُ حقوقه الإنسانيّة طوال المحاكمة، بل بعد الإدانة أيضًا.
وبالإضافة إلى هذه الضمانة، التي يجب أن تستقرّ في مصر الحريّة والعدل، للجميع وإلى الأبد، فإنّ بإمكان السلطات دعوةَ المصريين إلى الإفصاح طواعيةً، ولجهةٍ مسؤولةٍ، عمّا يمكن أن يكونوا قد اقترفوه في حقّ الشعب أو الوطن إبّان الحكم التسلّطيّ… على أن يأخذ القضاةُ العدولُ الذين يحاكمونهم هذا الإفصاحَ ـ خصوصًا إذا اقترن بأفعالٍ اعتذاريّةٍ مثل إعادة أموالٍ منهوبةٍ إلى الوطن والشعب ـ عامل تعذيرٍ يخفّف من الأحكام التي تصْدر بشأنهم.
ويؤكّد أهميّةَ هذا المنحى ذلك العددُ الضخمُ من الوزراء والمسؤولين السابقين، والحاليّين، الذين طالتهم يدُ القانون بالمنع من السفر، أو بالتحفّظ على أموالهم، وذلك خلال أيّامٍ قليلةٍ من سقوط الطاغية. وليس المدهش هو اقتراف هؤلاء ولو جزءًا ممّا نُسب إليهم (ففي كلّ مجتمع بعضُ اللصوص والمجرمين)، بل المدهش أن تتزاوجَ في كلّ هؤلاء الذين اختارهم الطاغيةُ السابقُ ونجلاه وزوجتُه خصلتا العهر السياسيّ واللصوصيّة! ولمّا كان يَصْعب منطقيًا تصوّرُ أنّ يكون رؤوسُ النظام البائد يجهلون الخصالَ اللعينةَ لمن اختاروهم لمعاونتهم في إفساد البلاد وقهر العباد (على حين كانوا يراقبون رموزَ الحركة الوطنيّة ليلَ نهارَ ويتفاخرون بمعرفة “دبّة النملة” في عموم مصر)، فلا مناص من الاستنتاج أنّ تلك الخصلة المزدوجة الدنيئة كانت هي السببَ في اختيارهم، وأنّ رؤوس النظام البائد كانوا على الشاكلة نفسها.
3 ـ توابعُ زلزال ثورتَي الياسمين والفلّ عربيًا. بعد انتصار ثورة الياسمين في تونس، تبارى الطواغيتُ العربُ في الادّعاء أنّ بلادهم ليست تونس، وأنّه لن يمكن استنساخُ ثورة الياسمين فيها بأيّ حال. لكنّ هذا المنطق السقيم انهار في جميع البلدان العربيّة الرازحة تحت الحكم التسلّطيّ، بعد أن تبيّن أنّ مصر، وإنْ لم تكن تونس فعلاً، فإنّ ثورةَ شعبها على الاستبداد والفساد قامت ـ كثورة شعب تونس ـ انتفاضًا على تراكم القهر والفقر، واتّسمت ـ كما في حال تونس ـ بسرعة انهيار الحكم التسلّطيّ. وبقيام ثورتي الفلّ والياسمين، تكرّس الدرسُ الأساسيُّ الأول: وهو أنّ كلّ حكم تسلّطيّ إلى انقضاء، وأنّ كلّ متسلّطٍ غاشمٍ إلى زوال، متى شاء الشعبُ وكان مستعدًا لدفع الثمن، ولو أرواحًا ودماءً.
وقد تبدّى الإعجابُ بالثورتين في بلدانٍ عربيّةٍ أخرى في مظهرين أساسيين، هما: التعبيرُ العارمُ عن تأييد الثورتين، وتمثّلُ بعض مشاهدهما في سياق البلد المعنيّ. وبالطبع اتخذتْ توابعُ الزلزال سماتٍ تعبّر عن خصوصيّة كلّ بلد وخصوصيّةِ نظام الحكم فيه. ففي الجزائر تقرّر “السماحُ” بالتظاهرات من أجل الإصلاح، ولكنْ جرى قمعُها. وفي اليمن، وعد الرئيس علنًا بانتفاء نيّة التمديد والتوريث، ولكنّه سيَّر مسيراتٍ تؤيّده في مواجهة المسيرات المطالبة بتنحيته هو وعائلته من الحكم. وفي الأردن، حاول الملكُ استجلابَ الرضا الشعبيّ بتيسير الحصول على حاجيّات المعيشة مع تعيين شخصيّة عسكريّة لرئاسة الوزارة كان رئيس وزارة سابقًا. وفي سوريّة سعى النظامُ إلى استجلاب الرضا الشعبيّ بتيسير الحصول على حاجيّات المعيشة، ولكنْ مع استمرار التضييق على سُبل التعبير العلنيّ. وحتى في فلسطين المحتلة مُنعت التظاهراتُ المؤيّدة لثورة الفلّ، باعتبارها “تدخّلاً” في الشؤون الخارجيّة لدولةٍ عربيّة!
من التوصيف السابق يبدو أنّ الجزائر واليمن والأردن هي المرشّحة الأقرب إلى الثورة الشعبيّة التالية.
15‏/02‏/2011
القاهرة
* كاتبٌ عربيّ من مصر.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى