ثورة تونس

الأردن: دروس تونس لم تصل بعد

* هشام البستاني
لا يبدو أنّ المثقفين والنخب السياسيّة المعارضة على الصعيديْن العربيّ والأردنيّ قد وصلتهم دروسُ التجربة التونسيّة التي أثبتتْ وجودَ فجوة هائلةٍ بين هؤلاء وبين “الشارع” الذي تغنّوا به دائمًا.
فمن ناحية، لم تقدِّم هذه “النخبُ” أيّة نظريّةٍ ثوريّةٍ أو مقدِّماتٍ وأسسٍ فكريّةٍ لقيام الثورة الشعبيّة، على غرار الثورة الفرنسيّة (1789) أو الثورة الروسيّة (1917)؛ ولم تشكِّلْ أيّةَ روافع تنظيميّةٍ استطاعت الانتقالَ بالجمهور من حالة الاحتجاج والاحتقان الداخلييْن الصامتيْن إلى حالة الانفجار العلنيّ الكامل: ففي تونس (ومن بعدها مصر) كان الانتقالُ من الصمت إلى الصراخ ذاتيًا بشكلٍ كبير، بينما كانت الروافعُ ذاتيّة بالكامل.
بل إنّ “النخب” فشلتْ في استقراء إمكانيّات الشارع، وآليّات حركته، وحدودِ تحمّله، ونقطةِ انفجاره، والعواملِ التي تجعله يسير إلى نقطة اللاعودة، مقدِّمًا الشهداءَ في سبيل ذلك. لم يتوقّعْ أحدٌ ثورة تونس على الإطلاق، وعندما أشعل محمد البوعزيزي النارَ في نفسه يوم 17/12/2010 وانطلقتْ بعدها الاحتجاجاتُ في سيدي بوزيد، لم يتوقّعْ أشدُّ المتفائلين أن تتطوّر الأمورُ بهذا الشكل المتسارع والدراميّ: فيهربَ الرئيس، ويسقطَ النظامُ بعد أقلّ من شهر في 14/1/2011. وهذا ما ينعكس في قراءات مثقفي تونس أنفسهم لهذا الأمر،(1) وينطبق على سلسلة الاحتجاجات في مصر التي انطلقتْ يوم الثلاثاء 25/1/2011 وتوّجت بعدها بـ “جمعة غضبٍ” و”جمعة رحيل” لم يتوقّع أحدٌ أنّهما ستكونان بهذه القوة وبهذا التأثير.
الإيجابيّة الأساسيّة التي قدّمتها نخبٌ محدّدة في تونس ومصر كانت رفعَ الصوت بضرورة التغيير الجذريّ والكامل، المتمثّلِ في الإطاحة بالنظام الحاكم، واعتبارِه (برموزه وركائزه ومؤسّساته وإفرازاته كافّةً) نظامًا غير شرعيّ. لذلك (وفي المشهديْن) كانت هناك معارضةٌ محظورة، ومعارضةٌ في المنفى. وفي حين كانت المعارضةُ الرسميّة تتحدّث عن “إصلاحات،” كانت المعارضةُ الراديكاليّة تتحدّث عن “تغيير النظام ورحيل الطاغية” ــ وربّما كان هذا الحديث الأخير هو ما شكّل مقدّمةً لكسر حاجز الخوف لدى الناس، ولتحوّلهم نحو المجاهرة في لحظةٍ ما برفض النظام القائم برمّته من رأسه (الرئيس/الحاكم) إلى قاعدته (الحزب الحاكم/الطغمة المتنفّذة/أجهزة الحكم)، وصار “الشعبُ يريد إسقاط النظام.”
***
بالإمكان تلخيصُ دروس تونس بالنقط التسع الآتية:
أولاً: أنّ الشارع العربيّ ليس شارعًا ميّتًا بالمطلق كما كان يُظنّ، رغم رزوح قرونٍ طويلةٍ على كاهله لم نشهدْ خلالها ثوراتٍ شعبيّةً كبرى. لقد انكسر إرثٌ تاريخيٌّ طويل من الخنوع والذلّ، وتحقّقتْ أخيرًا الثورةُ المجتمعيّة العارمة التي ظللنا نبحث عنها في الكتب القديمة والمعاصرة، وانكسرتْ إلى غير رجعة لعنةُ تاريخنا الخالي من الثورات الشعبيّة.
ثانيًا: أنّ الناس، ولو في غياب مدٍّ فكريًّ تحرريًّ مؤسِّس (مثل ذاك الذي سبق الثورتين الفرنسيّة أو البلشفيّة)، قادرون على الحركة والإطاحة الكاملة بنظامٍ ما عند وصولهم إلى “نقطةِ كسرٍ” معيّنة.
ثالثًا: أنّ الشارع يسبق، بمسافةٍ طويلةٍ جدًا، كلاً من المعارضة الرسميّة والمعارضات “البديلة” والمثقفين، وهو أكثرُ تقدميّةً وجذريّةً منهم جميعًا على الصعيد السياسيّ.
رابعًا: أنّ الشارع ليس خزّانًا سياسيًا لأحد، خصوصًا تلك القوى التي تدّعي تمثيلَه.
خامسًا: أنّ تعاظم الفوارق الطبقيّة بين الطغمة الحاكمة وحلفائها من كبار التجّار ووكلاء الأعمال، وبين الناس، وما ينجم عن ذلك من ظلمٍ اجتماعيٍّ وهدرٍ للكرامة وتعسّفٍ وفقرٍ وبطالةٍ وفساد، هما المحرِّكُ الأوّلُ للثورة.
سادسًا: أنّ الخطاب الثوريّ يتناقض تناقضًا كاملاً وتناحريًا مع الخطاب الإصلاحيّ ــ وهذه بديهةٌ تتجاهلها تمامًا النخبُ المعارضةُ والمثقّفة على الصعيد العربيّ. فلا ثورةَ حيث “إصلاح،” لأنّ الأخير مصمَّمٌ لتنفيس منابع الاحتقان وترقيعِ الثقوب التي يخلّفُها الفسادُ والاستغلالُ والتبعيّة. إنّ أيّة محاولةٍ لإنجاز “تسويةٍ” اجتماعيّةٍ على طريقة “الإصلاحات” و”المشاركة في الحكم” هي إطالةٌ لعمر أنظمة الفساد، وإبقاءٌ للوضع على ما هو عليه. ولعلّ خلوَّ الشارع التونسيّ من تأثير قوًى “إصلاحيّةٍ” كبرى، مثل الإخوان المسلمين، قد لعب دورًا في نضوج حركة الاحتجاج الشعبيّة التونسيّة، وفي ذهابها إلى نهاية الطريق. وهو ما ينطبق على الثورة المصريّة التي انطلقتْ بعيدًا عن الإخوان وتأثيرهم.
سابعًا: لم تُنتج الثقافةُ العربيّةُ حتى الآن أيّة نظريّاتٍ تستطيع تفسيرَ حركة الجمهور أو التنبّؤَ بها أو تثويرَها، ولم يستطع المثقفُ العربيّ (حتى اللحظة) سوى الالتحاق بحركة الشارع وتحليلها بعد أن تبدأ. والأجدى بالمثقف، بدلاً من يظلّ على تبعيّته الفضائحيّة للأنظمة (ماليًا، أو معنويًا، أو كليْهما معًا)، أن يطلّق هذه الأخيرة طلاقًا بائنًا بينونةً كبرى، وأن يتحوّلَ إلى المعسكر النقيض.
ثامنًا: أنّ الحركات الاحتجاجيّة العارمة الناجحة لا تخرج تحت أجنداتٍ انقساميّة، دينيّةٍ أو إثنيّةٍ أو مناطقيّةٍ أو طائفيّة، بل تخرج متركّزةً حول قضايا تتجاوز ذلك كلّه وتوحِّده.
تاسعًا: أنّ الدور الأبرز للنخب السياسيّة المعارضة والمثقفين هو كسرُ حاجز الخوف، وكشفُ الفساد والاستبداد والتبعيّة، والاصطفافُ إلى جانب الخيارات التي تجعل من الفرز الطبقيّ أكثرَ حدّةً ووضوحًا.
***
في الأردن، لا يبدو أنّ أحدًا التفت إلى الدروس التونسيّة بعد. فالمعارضة الرسميّة (أحزابُ المعارضة المرخّصة والنقاباتُ المهنيّة) تستمرّ في طرح خياراتٍ ذاتِ طابعٍ إصلاحيٍّ ضعيف، يُعتبر استمرارًا لمسيرتها المتدهورة منذ عام 1989 (عامِ إنهاء الأحكام العرفيّة ودخولِ ما سمّي “المرحلة الديمقراطيّة”). ولا داعي هنا للتوسّع في نقدها بعد أن أُشبعتْ نقدًا، وتشْبه في حالها المعارضاتِ الرسميّةَ في كلّ أنحاء الوطن العربيّ.
أما المعارضة “البديلة” التي طَرحتْ نفسها في الشارع لملء الفراغ، فهي ليست أفضلَ حالاً من زاويةِ أنّها ذاتُ طابع انعزاليّ شرق-أردنيّ،(2) تستند في حراكها إلى هويّةٍ قُطريّةٍ ما بعد كولونياليّة لا يوجد عليها إجماعٌ داخليّ. يضاف إلى ذلك أنّ هذا الاستناد يتّسق مع توجّهات السلطة السياسيّة التي طَرحتْ شعاراتٍ من قبيل “الأردن أولاً” و”كلّنا الأردن” التي صارت جزءًا من أدبيّات هذه “المعارضة البديلة.” الجدير ذكرُه أنّ هذه “المعارضة” مرتبطة بجناح الحرس القديم داخل السلطة، الذي أسّس للحال التي نحن فيها الآن، وكان شريكًا في إنتاجه؛ وهو “نيولبراليّ” بمقدار “النيولبراليين الجدد” أنفسهم: فعلى عهده طُبّقتْ برامجُ صندوق النقد، وابتدأت الخصخصةُ وانسحابُ الدولة من دورها الاجتماعيّ.
***
انطلقتْ أولى “جُمَع الغضب” الأردنيّة يوم 14/1/2011 بأعدادٍ متواضعةٍ لم تتجاوزْ 500 شخص، وذلك بتأثيرٍ من احتجاجات تونس التي كانت في أوجها، وبدعوةٍ من قوى “المعارضة البديلة،” وبمقاطعةٍ من قوى المعارضة الرسميّة (الأحزاب والنقابات). وازدادت الأعدادُ إلى الآلاف في الجمعة الثانية21/1/2011 بعد أن قرّرت المعارضة الرسميّة (بدفعٍ من نجاح الثورة التونسيّة على ما يبدو) الالتحاقَ بها. وعاد العددُ إلى الانخفاض في الجمعة الثالثة 28/1/2011. وانقسمت في الجمعة الرابعة 4/2/2011 إلى مسيرتين: واحدةٍ في وسط البلد، وثانيةٍ عند رئاسة الوزراء. وأغلبُ الظنّ أنّ الانقسامات وانخفاض الأعداد ستستمرّ على هذه الوتيرة، نظرًا إلى وجود أغلب الإشكاليّات المذكورة أعلاه ضمن القوى المشاركة في الاحتجاجات، وتمثُّلها في الشعار المركزيّ الذي طرحتْه “المعارضة البديلة” ومن ثم تبنّته قوى المعارضة الرسميّة، كهدف وهو: الإطاحةُ بحكومة سمير الرفاعي (الذي أُقيل فعلاً كما كان متوقّعًا)، وتشكيلُ حكومة “وحدة وطنيّة” أو “إنقاذ وطنيّ.”
من هي العناصر المشكِّلة لـ “المعارضة البديلة”؟
أبرزُها: حركة اليسار الاجتماعيّ الأردنيّ، والمبادرة الوطنيّة الأردنيّة، والتيّار الوطنيّ التقدميّ، واللجنة الوطنيّة للمتقاعدين العسكريين، ورابطة الكتّاب الأردنيين، والتيّار القوميّ التقدميّ، ومجموعاتٌ صغيرةٌ مثل: اتحاد الشباب الديمقراطيّ، والجمعيّة الفلسفيّة، ومنتدى الفكر الاشتراكيّ، وتجمّع الشباب الشركسيّ، وجمعيّة مناهضة الصهيونيّة والعنصريّة. وكلّها (باستثناء التيّار الوطنيّ التقدميّ، والمتقاعدين العسكريين، والتيّار القوميّ التقدميّ) متحالفٌ في صيغة “قوى الحراك الشعبيّ الأردنيّ”، وكلّها (من دون استثناء) متفاربٌ سياسيًا وتنسيقيًا، وموجودٌ ضمن إطار موسّع هو الحملة الأردنية للتغيير “جايين” (المتشكّل من جميع عناصر المجموعات المذكورة مع مجموعات من شباب المحافظات وعمّال المياومة).
إنّ استعراضًا سريعًا لبعض الملاحظات عن هذه القوى سيعطينا شيئًا من الانطباعات عنها. كتب ناهض حتّر، القياديُّ الحاليُّ في التيّار الوطنيّ التقدميّ، والقياديُّ السابق في حركة اليسار الاجتماعيّ، وأحدُ رموز “المعارضة البديلة،” مقالاً كشف فيه عن عدّة لقاءاتٍ جمعتْه بمدير المخابرات الأردنيّة السابق أثناء وجوده على رأس منصبه، وتمّ فيها “عصفٌ فكريّ” بين الطرفين؛(3) كما كتب مقالاً في صحيفة الأخبار اللبنانيّة دافع فيها عن مدير المخابرات المذكور بعد إقالته من منصبه؛ واعتبره في المقالين أحدَ “رموز الحركة الوطنيّة الأردنيّة.”(4) كما كتب عمر شاهين، القياديُّ الحاليّ في حركة اليسار الاجتماعيّ، مقالاً قال فيه إنّ هذه اللقاءات كانت تتمّ بعلم الحركة ومباركتها.(5) يضاف إلى ذلك أنّ هذه الحركة هي من أوائل التنظيمات التي روّجتْ معرفيًا للهويّة القُطْريّة هويّةً شرعيّةً يمكن تأسيسُ حركة تحرّر وطنيّ استنادًا إليها.(6)
هذا الموقف تتشارك فيه الحركة المذكورة مع المبادرة الوطنيّة الأردنيّة التي تدعو في أدبيّاتها المنشورة (7) إلى “الهويّة الأردنيّة الناجزة” وإلى تشكُّل حركةٍ وطنيّةٍ أردنيّةٍ في معزلٍ عن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتتعامل مع “المجتمع الأردنيّ” و”المجتمع الفلسطينيّ” في وصفهما كيانيْن منعزليْن متلاقيَي المصالح. وكانت النسخة الأولى من الموقع الإلكترونيّ للمبادرة قد زُيّنتْ بشعاراتٍ أنتجتْها السلطة، كـ “الأردن أولاً” و”كلّنا الأردن.” وقد أخذت المعارضة الرسميّة ذلك حين “زيَّنتْ” تلك الرموزُ يافطاتِ “المؤتمر الوطنيّ للإصلاح” الذي ضمّ القوى المقاطعة للانتخابات البرلمانيّة الأخيرة تحت قيادة الإخوان المسلمين.
أمّا رابطة الكتّاب فهي من أكبر متلقّي التمويل من وزارة الثقافة وأمانة عمّان، وأغلبُ قياداتها ورموزها يعمل في المؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة التابعة للسلطة أو يأخذ منها المكافأاتِ والمنافعَ المختلفة.
وأمّا التيّار القوميّ التقدميّ فقد شارك مؤسِّسها في الانتخابات النيابيّة الأخيرة التي قاطعتْها أغلبيّةُ المعارضين بصفتها استكمالاً لمشروع تفتيت الكتلة الاجتماعيّة في البلاد إلى قبائلَ وعشائرَ وعائلاتٍ وجهات، وضربةً قاصمةً لأيّ إمكانيّة لإنجاز “الإصلاح.”
ولا يغيب عنّا أنّ هذه “المؤسّسات” هي عناوينُ مختلفةٌ لأشخاصٍ محدودين. فبالإمكان القول إنّ “المبادرة” و”الرابطة” ومنتدى الفكر الاشتراكيّ والجمعيّة الفلسفيّة والتجمّع الشركسيّ أوجهٌ مختلفةٌ للأشخاص أنفسهم، المنتظمين أساسًا في “المبادرة،” يلتحق بهم اتحادُ الشباب الديمقراطيّ على مسافةٍ قريبةٍ جدًا. وأبعدَ قليلاً تأتي حركةُ اليسار الاجتماعيّ التي كانت حتى وقتٍ قريبٍ جدًا (للاعتبارت أعلاه) معزولةً عن قوى المعارضة الأخرى.

قلتُ إنّ أغلب هذه الإشكاليّات تتمثّل في الشعار المركزيّ الذي طرحتْه “المعارضةُ البديلة،” ومن ثم تبنّته قوى المعارضة الرسميّة هدفًا: الإطاحة بحكومة سمير الرفاعي، وتشكيل حكومة “وحدة وطنيّة” أو “إنقاذ وطنيّ.” فالمعروف أنّ الوزراء في الأردن أشخاص تنفيذيّون وليسوا واضعي سياساتٍ وإستراتيجيّات. والمطالبة بتغيير الأشخاص هي دعوةٌ مواربةٌ للجلوس في أماكنهم ضمن قواعد اللعبة نفسها. لا أحد (مثلاً) يناقش شرعيّة السلطة السياسيّة في البلاد، بل ما يحصل هو العكس. فالمعارضتان الرسميّة والبديلة، كلتاهما، تتعامل مع رأس السلطة السياسيّة في وصفه حَكَمًا، رغم أنّه (بحكم الدستور) رأسُ السلطات الثلاث. وكلتاهما تدعو إلى “تغيير السياسات لا تغيير النظام”(8)؛ فالإخوان المسلمون يقولون: “الإسلاميون في الأردن دعاة إصلاح، لا دعاة تغيير شامل… فنحن نقرّ بشرعية النظام” (9)؛ وحملةُ “جايين” التي تضمّ كلّ قوى المعارضة البديلة تؤكّد أنّ “الملك هو الثابت الوحيد في السياسة الأردنيّة،” وتشدِّد على حصانته الدستوريّة.(10)
بعد أن حصل المتوقّع وأقيلتْ حكومةُ الرّفاعي وكُلّف بتشكيل الحكومة أحدُ رموز الحرس القديم، معروف البخيت، العسكريّ السابق وسفيرُ الأردن الأسبق في “إسرائيل،” حصل المتوقّعُ أيضًا: قبولٌ عامٌّ برئيس الوزراء الجديد. فقد رَحّب به المتقاعدون العسكريّون، وقيادةُ التيّار الوطنيّ التقدميّ، بوضوح(11)؛ وأعلن محمد السنيد، الناطقُ الإعلاميّ لحملة “جايين،” أنّ هذا التعيين “خطوةٌ في الاتجاه الصحيح”(12)؛ وقال مهدي السعافين، القياديُّ في “جايين” و”اليسار الاجتماعي” أنّ “الحملة [الأردنيّة للتغيير “جايين”] بصدد منح فرصة للرئيس المكلّف بتنفيذ البرنامج الإصلاحي”(13)؛ فيما “غابت شعاراتُ الحراك السابقة بالدعوة إلى إسقاط الحكومة” عن اعتصام الإسلاميين والمعارضة الرسميّة (14)؛ ويتّجه الإسلاميون إلى إعطاء حكومة البخيت “فترةَ سماح.”(15)
فهل يعتقد المشاركون في جُمعات الغضب الأردنيّة أنّ الإطاحة بوزير أو رئيس وزراء، أو إنجازَ تغييرٍ حكوميٍّ ما، سيكونان كفيليْن بإحداث تغيير اقتصاديّ/اجتماعيّ/سياسيّ في البلاد؟ هل يتذكّر أحدٌ الحملةَ الشعواءَ على وزير التخطيط الأسبق باسم عوض الله، الذي تمّت شيطنتُه بصفته المسؤولَ الأوّلَ عن التدهور الاقتصاديّ والمعيشيّ والفساد في الأردن؟ لقد أقيل عوض الله من منصبه، ولم يتغيّر شيء، بل استمرّ الوضعُ الاقتصاديّ والمعيشيّ في التدهور إلى قيعانٍ غيرِ مسبوقة. ثم تمّت شيطنةُ سمير الرفاعي، رئيسُ الوزراء المُقال، وحصرُ كلّ مسؤوليّات التدهور الاقتصاديّ والاجتماعيّ والفساد المستمرّ (منذ عقودٍ طويلة) في شخصه، وكأنّ رحيله (كما صُوّر رحيلُ عوض الله قبله) هو الحلُّ السحريُّ لكلّ شيء، وإنْ تبع ذلك توزيرُ بضعة معارضين. وعلينا أن لا ننسى كذلك أنّ هؤلاء الذين تتمّ شيطنتُهم يدلّلون على النفَس الانعزاليّ لقوى “المعارضة” الجديدة: فعلى الرغم من وجود العديد من الليبراليين الجدد المؤثّرين، فإنّ المستهدَفين هم غالبًا من غير “الشرق أردنيين،” وليسوا أبناءَ عائلات أو عشائر ذاتِ امتدادٍ أو حضورٍ اجتماعيٍّ مؤثّر؛ وكذلك تُستهدف الملكة رانيا (وهي من أصولٍ فلسطينيّة) وحدها دون غيرها، في سابقة غير معتادة في الأردن. (16)
هل يعتقد أحد من “المعارضة البديلة” أنّ إعطاء واحدٍ منهم صلاحيّة تشكيل الوزارة القادمة سيَنقل البلادَ من حالٍ إلى حال، على الرغم من أنّ الأردن يعتمد كليًا على المساعدات الخارجيّة، وبالإمكان خنقه كما يُخنق قطاعُ غزّة؟ إنّ من يتولّى الوزارة من المعارضة ضمن المعادلات الحاليّة، وضمن “المشروع الوطنيّ” المحلّيّ الذي تروِّج له، سيكون أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الاستقالة وإمّا “التعامل مع الأمر الواقع” ــ وهذه هي الخطوةُ الأولى للانخراط الكامل في اللعبة التي وضعت السلطةُ السياسيّةُ كلَّ قواعدها وميكانزماتِ عملها، فيصبح الفكاكُ منها مستحيلاً.
علينا ألاّ ننسى أنّ السلطة السياسيّة أيّامَ الملك الراحل حسين كانت تتميّز بقدرتها العالية على احتواء المعارضين، بل الانقلابيين أيضًا، فتحوّل العديدُ منهم إلى وزراء وسفراء ومدراء مخابرات، وتمّ استيعابُهم في بنية السلطة السياسيّة. كما شكّل احتواءُ المعارضين ضمن بنية السلطة ركنًا مهمًا اختفى نسبيًا أيام العهد الجديد، وصارت الأولويّة لوكلاء الأعمال الشبّان الموالين للأرباح فقط والمنقطعين عن أيّ عمقٍ ذي طابعٍ عشائريٍّ أو مناطقيّ. وهذا يعني أنّ السلطة السياسيّة تعزِّز المفهومَ الطبقيّ والوعيَ الطبقيّ، في حين تريد المعارضة أن تخفّف الفجوة الطبقيّة الناشئة عبر الدخول في بنية السلطة من خلال شخصيّاتٍ محسوبةٍ على الحرس القديم أو أخرى تمثل رابطًا مع البنى الاجتماعيّة التقليديّة المكوِّنة للمجتمع المحلي. هذا الأمر يميّع البنية الطبقيّة المتشكّلة، ويخفِّف تناقضاتِها، وهو ما سيطيل في عمر بنية الفساد والتبعيّة القائمة. ولعلّ المطالبة بحكومة وحدة وطنيّة وإنقاذ وطنيّ تعكس رغبةَ المستبعدين من السلطة في عودتهم إليها واستعادة حصّةٍ من الكعكة، لا رغبتَهم في التغيير الشامل الذي سيُنضجه بقاؤهم خارجها.

إذًا، لا تتحقّق في هذه القوى “المعارضة” أوليّاتُ الاستقلال عن السلطة السياسيّة، ولا انعدامُ إمكانيّات توظيف حراكها لصالح أحد أجنحتها. كما تتبنّى خطابًا انعزاليًا على المستوى الهويّاتيّ والمستوى التحرّريّ، بما يحوِّل الخطابَ نفسَه إلى خطابٍ معطِّلٍ للتحرّر، ومميِّعٍ لأيّ إنضاجٍ حقيقيٍّ للتناقض الطبقيّ.
***
على أنّ دروس تونس (ومن بعدها مصر) وصلتْ فعلاً إلى السلطة السياسيّة التي “شهدتْ تحوّلاتٍ دراماتيكيّةً… تبعثرتْ فيها الأوراقُ الاقتصاديّةُ والسياسيّة.”(17) فزادت مخصَّصاتُ دعم العديد من السلع والموادّ الأساسيّة التي كانت قد رَفعت الدعمَ عنها سابقًا، وأعلنتْ عن صرف زيادةٍ على رواتب موظّفي القطاع العامّ ورواتب الضمان الاجتماعيّ،(18) وفتحت التلفزيونَ الرسميَّ لأوّل مرّة أمام شخصيّات المعارضة،(19) ولم تمنعْ وزارةُ الداخليّة مسيراتِ “جُمع الغضب” ولم تطلبْ تراخيص لها، (20) ولم يكن هناك أيُّ وجود أمنيّ يُذْكر خلالها، بل إنّ عناصر الشرطة الموجودين هناك كانوا يوزّعون عبوات الماء والعصير على الموجودين.(21) لكنّ هذه الدروس لم تصل إلى “المعارضة” في الأردن حتى الآن.

الهوامش
(1)حياة الرايس، “المثقفون التونسيون: الانتفاضة تجاوزتهم ومضت،” صحيفة الشرق الأوسط (لندن)، 30/1/2011.
(2)فمثلاً: لم يتمّ العمل بشكل جدّيّ على إدراج المخيّمات ضمن تحرّكات جُمَع الغضب في الأردن. وفي المرّة الوحيدة التي شارك مخيّمُ البقعة بتواضع في تحرّكات الجمعة الأولى، تمّ إغفالُ ذكره في دعوة التظاهر الصادرة عن المبادرة الوطنيّة الأردنيّة (http://www.almubadara-jo.org/2010-05-04-05-32-03/129-2011-01-12-21-54-33…). هذا، ويَعتبر بعضُ أطراف تحالف المعارضة البديلة “جايين” أنّ الفلسطينيين في الأردن هم خزّان لليبرالية الجديدة، ويضعهم في موقع التناقض الطبقيّ مع الشرق أردنيين.
(3)ناهض حتّر، “في وداع الذهبي: عقلٌ إستراتيجيّ يقود المخابرات ويغيّر صورتها،” موقع كلّ الأردن الإخباري، 29/12/2008، نسخة موثّقة لدى الكاتب (أزيل المقالُ حاليًا عن الموقع).
(4)ناهض حتر، “ظاهرة أردنيّة: مدير الاستخبارات مواطنًا وناشطًا سياسيًا،” صحيفة الأخبار (لبنان)، 3/2/2009.
(5)عمر شاهين، “ماذا جمع ناهض حتّر ومدير المخابرات،” موقع اليسار الأردني joleft.net، 31/12/2008، نسخة موثّقة لدى الكاتب (أزيل المقالُ حاليًا عن الموقع).
(6)هشام البستاني، “الأوهام القُطْريّة لليسار الاجتماعيّ الأردنيّ،” (النسخة الكاملة)، كنعان ـ النشرة الالكترونية، العدد 1583، 2 /7/2008، http://www.kanaanonline.org/articles/01583.pdf
(7)المبادرة الوطنيّة الأردنيّة، المنطلقات النظريّة: دراسات وأبحاث (عمّان: د.ن، 2009).
(8)عريب الرنتاوي، “التغيير وطبقات الأنظمة الثلاثة،” صحيفة الدستور، 2/2/2011.
(9)هديل غبّون، “الإسلاميون يطالبون بتغيير الحكومة وإلغاء الصوت الواحد في الانتخابات،” صحيفة الغد، 1/2/2011.
(10)ربى كراسنة، “جايين تنفّذ مسيرات الجمعة القادمة في العاصمة والمحافظات،” صحيفة العرب اليوم، 2/2/2011.
(11)عبد الناصر الزعبي، “هل يلبّي الرئيس المكلّف رغبات وطموح قوى الشارع الشعبيّ الأردنيّ؟،” موقع كل الأردن الإخباري، 2/2/2011، http://www.allofjo.net/index.php?option=com_content&view=article&id=8429
(12)محمد النجّار، “تكليف البخيت بين الرفض والترحيب،” الجزيرة نت، 1/2/2011، http://www.aljazeera.net/NR/exeres/88A32052-ECDD-4E38-876C-5F63E8F94D72.htm
(13)هديل غبّون، “مسيرات تطالب بدفع عجلة الإصلاح الشامل،” صحيفة الغد، 5/2/2011.
(14)نفسه.
(15)ماجد توبة، “اللقاء الملكيّ بقيادات الحركة الإسلاميّة يدشّن مرحلة انفتاح سياسيّ تثير تفاؤل المعارضة،” صحيفة الغد، 7/2/2011.
(16)”الأردن: شخصيّات عشائريّة تنتقد الملكة وتطالب بالإصلاح،” سي إن إن بالعربية، 7/2/2011، http://arabic.cnn.com/2011/middle_east/2/7/jordan.queen_protest/index.html
(17)جمانة غنيمات، “لعب في الوقت الضائع،” صحيفة الغد، 23/1/2011.
(18)محمود الطراونة، “صرف علاوة العشرين دينارًا نهاية الشهر الحاليّ،” صحيفة الغد، 23/1/2011.
(19)أحمد أبو خليل، “عن إطلالة الشيخ والوزير،” صحيفة العرب اليوم، 22/1/2011.
(20)جمانة غنيمات، أعلاه.
(21)صحيفة الغد، 17/1/2011 و29/1/2011، وصحيفة العرب اليوم، 22/1/2011.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى