مفاجأات الثورة التونسيّة
* أكرم البنّي
فاجأتْ تونس الجميع بثورتها، كأنّما حصلتْ في غفلةٍ من الزمن، بعيدًا عن كلّ التوقّعات، وبخاصّةٍ لجهةِ أن يحظى هذا البلدُ الصغيرُ بشرف الريادة في تجريب عمليّة التحوّل الديمقراطيّ التي انتظرتْها مجتمعاتُنا العربيّةُ طويلاً. ويبدو أنّ هذه الثورة لم تكتفِ بهذا التميّز: فقد شهدتْ تطوّراتٍ غيرَ مألوفة، وحزمةً من المفاجأات، منحتْها المزيدَ من الخصوصيّة والغرابة، وأفضت إلى تبديل الصورة النمطيّة التي رُوِّجتْ عن تونس وشعبها.
أولاً، التحوّل السريع للحراك الشعبيّ من شعاراتٍ مطلبيّة، كتأمين رغيف الخبز وفُرص العمل، إلى شعاراتٍ سياسيّةٍ تتعلّق بتغيير النظام القائم وضمان الحريّات وحقوق الإنسان. فكأنّ الشعب التونسيّ استشعر أنّ التغيير في ميدان السياسة هو الخطوة الصحيحة التي توفّر فرص نجاح عمليّة التغيير بأبعادها المختلفة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. أو لعلّه أدرك، ربما بحسّه العفويّ، أنّ دعم الديمقراطيّة وقيم المشاركة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعدالة في توزيع الثروة، وأنّ النخبة الحاكمة لا تستأثر فقـط بأشكـال ممارسة الحكم وإنّما أيضًا بكيفيّة التصرّف بالمال العامّ. أو لعلّه خبر من تجربته المريرة أنّ تحسين المستوى المعيشيّ للناس لا تصنعه الوعودُ ولن يستقيم ما دام دورُها السياسيُّ غائبًا؛ وأنّ معالجة البطالة وإيجادَ فرص عملٍ لجيشٍ من العاطلين لا يصحّ إذا لم يَسُدْ مناخٌ من الحريّة والتعدديّة كفيلٌ بتنشيط حركة التنافس والاستثمار؛ مثلما لا جدوى من محاربة الفساد المستشري من دون إرساء أجواءٍ من الشفافيّة والمحاسبة، وإعلامٍ حرٍّ ينتصر لمعايير الكفاءة والنزاهة.
لقد قال التونسيّون كلمتهم تجاه المعادلة التي طالما رُوّج لها بأنّ إشغالَ الناس بمعاناتهم الاقتصاديّة يَصْرفهم عن هموم السياسة وأهلها. ومع أنّ البحث عن كسرة الخبز هو عند الكثيرين أهمُّ من الاهتمام بقضايا الحريّات وحقوق الإنسان، فإنّ من الخطإ الاعتقادَ أنّ الناس لا تَشْغل بالَهم السياسةُ وأنّهم لا يطْمحون ـ وهم في حالة العوز والحرمان ـ إلى إحياء دورهم في تقرير مصائرهم أو المشاركةِ على الأقلّ في بناء القرارات التي تخصّهم.
ثانيًا، السرعة والطريقة اللتان غادر بهما زينُ العابدين بن عليّ البلادَ. فلم يكن متوقّعًا أن يَنْفض النظامُ يدَه من رئيسه بعد أقلّ من شهر على اندلاع الاحتجاجات والتظاهرات، وينقلبَ على ما تمّ تكريسُه خلال ثلاثة وعشرين عامًا من السيطرة. وإلى اليوم لا تزال الأسبابُ غامضةً في تفسير هذا الانهيار المروِّع: أكان مجرّد مناورةٍ لم تكتملْ فصولُها، غرضُها كسبُ الزمن لتهدئة الأوضاع وإعادةِ الرئيس من جديد إلى البلاد؛ أمْ كان استجابةً لنصائح بعض جيرانه وحلفائه؛ أمْ كان جرّاء خروج بعض أدوات السيطرة من يده، وبخاصةٍ الجيش التونسيّ؛ أمْ كان جرّاء تخلّي معاونيه المقرّبين عنه بعد أن تخلّى هو عن بعضهم في خطابه الأخير؟ وحتى انكشاف الحقيقة، سيبقى هذا التطوّرُ في المشهد التونسيّ لغزًا محيِّرًا وأمرًا مستغرَبًا ومفاجئًا.
ثالثاً، الروح العالية من الإيثار والتضحية التي ميّزت الشعبَ التونسيّ في حراكه، وكأنّ ثمّة قفزةً سرّيّةً أُنجزتْ على عجلٍ ونقلت الناسَ بعد سنواتٍ من الاستسلام والخنوع إلى ما صاروا عليه من تصلّب وعنفوان دفاعًا عن كرامتهم وحقوقهم المهدورة. وليس في تكرار مظاهر حرق الأجساد احتجاجًا، وتنامي أعداد المشاركين في التظاهرات على الرغم من سقوط العديد من القتلى والجرحى، سوى إشاراتٍ كبيرةٍ تدلّ على ارتفاع منسوب الشجاعة والاستعداد للتضحية. وهذا الارتفاع ولّدتْه شدّةُ الغليان والاحتقان الاجتماعيّ، وتعاظمُ شعور الناس بالظلم وجشعِ الفاسدين وثرائهم الفاحش؛ وعزّزتْه الحماسةُ التي يتميّز بها الشبابُ عادةً. فانسدادُ أفق المستقبل أمامهم شجّعهم على تحسّس همومهم المشتركة والحوار حول مشكلاتهم. وقد ساهم فضاءُ المعلومات والإنترنيت في خلق مساحةٍ كبيرةٍ للتواصل في ما بينهم ومع الآخرين، والبحث عن حلول للقضايا التي تشغلهم وتتحكّم بمصائرهم.
رابعًا، المثابرة في دفع عمليّة التغيير إلى نهايتها الطبيعيّة، أو على الأقلّ إلى عتبةٍ آمنةٍ يَضْمن فيها الشعبُ التونسيّ حالةً من القطْع التامّ مع الماضي. وما أثار الاطمئنانَ والارتياحَ هو ما ظهر من قدرةٍ كامنةٍ لدى الجموع في تصعيد الضغوط، وبأشكال متنوّعةٍ ومبتكرة، للوصول إلى هذا الهدف: كاستمرار التظاهرات السلميّة، والاعتصامات في الساحات العامّة، والإضرابِ عن الطعام أمام المباني الحكوميّة. يضاف إلى ذلك بروزُ “روحٍ عمليّةٍ” تجلّت في الشعارات الواقعيّة التي رُفعتْ ويَصْعب الاعتراضُ عليها، وتحصّن الثورةَ من الارتداد، ومنها: طلبُ تنحية بن علي رسميًا، وتعيينُ رئيس البرلمان كرئيسٍ موقّتٍ للبلاد، ثم اتخاذُ قرار باعتقاله ومحاسبته واسترداد أموال الشعب المسروقة؛ ومنها أيضًا مطلبُ تغيير بنية الحكومة الانتقاليّة التي شارك فيها عددٌ كبيرٌ من وزراء العهد البائد.
رسالة الشعب التونسيّ واضحة: لا مساومة مع الاستبداد، والصراعُ سوف يبقى ساخنًا حتى إرساء قواعد النظام الديمقراطيّ الجديد، من دون أن يقود ذلك إلى الإخلال بالأمن والاستقرار، أو إلى هدر فرص الاستفادة من بعض القوى التي كانت موجودةً في النظام الآفل ولكنّها لا تزال نظيفةَ اليد للمشاركة في إدارة المرحلة الانتقاليّة.
خامسًا، ما أثار الإعجاب، وبدا كأنه مفاجأةٌ كبيرةٌ للجميع، هو موقفُ الشعب التونسيّ، بجميع قطاعاته، من احتمال اندلاع اضطراباتٍ وفوضى في البلاد. ويكتشف أيُّ متابع أنّ التحرّكات والتظاهرات التي قامت وتكرّرتْ كانت مشفوعةً دائمًا برغبةٍ عامّةٍ وعارمةٍ في أن تبقى سلميّةً وآمنة، بعيدًا عن العنف أو ما قد يزعزع الاستقرار. كأنّ دروسَ التجربة العراقيّة حاضرةٌ ويتمثّلها الشعبُ التونسيُّ جيّدًا؛ أو كأنّه يعيش مخاضَ تحرّره وفي رأسه هاجسُ منع الفوضى وتوجّسٌ من حصول انفلاتٍ أمنيّ يؤدّي بالأوضاع إلى ما هو أسوأ؛ أو كأنه ـ وبضربةِ معلّم ـ تعمّد أن يطيح المعادلة التي طالما رَوّجتْ لها الأنظمةُ العربيّة، وهي أنّ الأمن والتسلّط هما بديلٌ من الفوضى والحرب الأهليّة اللتين سوف يستجرّهما أيُّ تغييرٍ ديمقراطيّ. إنّ مبادرة التونسيين السريعة إلى إنشاء لجانٍٍ أهليّةٍ تضبط حالة الفلتان الأمنيّ وتضع حدًا للممارسات الغوغائيّة في غير مدينة، وتاليًا لإنهاء بعض المظاهر السلبيّة التي حصلتْ من سلبٍ ونهبٍ وحرقٍ للممتلكات العامّة، شكّلتْ ردًا حازمًا على بعض المهوِّلين الذين ما فتئوا يهزأون من الشعوب “التي لا تستحقّ الحريّة.” ونضيف أنّ ما أثلج الصدور وطمأن القلوب هو غيابُ الروح الاستئصاليّة والثأريّة، وحضورُ إيمانٍ عامٍّ بدور الدولة ومؤسّساتها في عمليّة التغيير (وبتدرّج هذه العمليّة أيضًا). فكأنّنا أمام سيمفونيّةٍ مشغولةٍ بعفويّةٍ ودقّة، تَعتبر حضورَ الدولة الديمقراطيّة شرطَ الحريّة وغايتها، وتتقصّد تفكيكَ الأساليب الأمنيّة والتسلّطيّة التي سادت في إداراتها ومؤسّساتها بصبرٍ وإتقان.
سادسًا، منذ بداية الحراك التونسيّ كان المفاجئ هو غياب دور كبير للأحزاب فيه، ولنقلْ ضعف فاعليّتها في تحريك الشارع وقيادته، وكأنّ هذه الانتفاضة جاءت من دون قوًى سياسيّة، ومن دون إيديولوجيّاتٍ وشعاراتٍ مبرمجة، ومن دون شخصيّاتٍ سياسيّةٍ كاريزميّةٍ تتصدّرها. لكنْ، في المقابل، ما كان لحالة الاحتقان والغليان في الشارع التونسيّ أن تتحوّل إلى حراك مستمرّ لو لم تتقدّم الصفوفَ قدوةٌ شعبيّةٌ نالت ثقةَ الناس بذكائها ودقّةِ سلوكها اليوميّ وقدرتِها العاليةِ على التضحية، حتى بدت هذه التجربةُ أشبهَ بماركةٍ مسجّلةٍ باسم الشعب التونسيّ تعطي درسًا بليغًا لكلّ المعارضات العربيّة: بأنْ لا مفرّ أمامها سوى الثقة بشعوبها وبطاقاتِها الإبداعيّة الكامنة التي تحتاج إلى مفاتيحَ خاصّةٍ كي تُطلَقَ من إسارها.
صحيح أنّ النضال الديمقراطيّ في تونس عريق، وقد دُفعتْ أثمانٌ باهظةٌ للحفاظ على قيمه ورعايته. لكنْ لم تكن معقولةً وطبيعيّةً تلك المسافةُ التي رسمها حراكُ الشارع مع القوى السياسيّة، لتجد هذه الأخيرةُ نفسَها كما لو أنها تلهث لتلتقي بنبض الناس. وهذا الأمر يعني، في ما يعنيه، صعوبةَ أن يتبجّحَ أيُّ طرفٍ بأنّه صاحبُ الثورة وراعي ما حصل من تطورات… هذا من دون أن نبخسَ حقَّ منظّمات المجتمع المدنيّ والنقابات على تنوع مسمّياتها، وفي مقدِّمتها “الاتحادُ التونسيّ للشغل.”
سابعًا، أهمّ المفاجأات كانت تراجعَ حضور تيّار الإسلام السياسيّ وتراجعَ قدرته على إدارة الشارع وتوجيهه. فلقد ظهر للعيان أنّ “حركة النهضة الإسلاميّة” لم تعد تحوز اليوم وزنًا وتأثيرًا لافتيْن، وأنّ الرهان على انتفاضةٍ إسلاميّةٍ في تونس تقارب انتفاضة الخميني ضدّ شاه إيران رهانٌ أشبهُ بالوهم. فالأجيال الجديدة والمتحرّكة من الشباب بدت بعيدةً كلَّ البعد عن الإيديولوجيّات الكبرى، وعن شعارات الهويّة العريضة كـ “الإسلام هو الحلّ” وغيره، وأقربَ في حماستها وحساسيّتها إلى المتطلّبات المعيشيّة وقضايا الحقوق الفرديّة.
وإذا كان ثمة مَنْ يُرجِع السببَ إلى القمع المركَّز الذي تعرّضتْ له “حركةُ النهضة،” فإنّ هذا القمع لم يقتصرْ عليها وحدها، وإنّما طاول الكثيرَ من القوى السياسيّة الديمقراطيّة ومنظّماتِ حقوق الإنسان والمجتمع المدنيّ. وقد حظي نشطاءُ هذه الأخيرة بثقة الشارع وتعاطفه، بل باطمئنانه أيضًا لمشاركة بعضهم في الحكومة الانتقاليّة.
ثامنًا، فاجأت الثورةُ التونسيّة الجميعَ بردّها الحاسم على ما كان يؤخذ على دعاة الإصلاح السياسيّ والديمقراطيّة، ألا وهو الاستقواءُ بالخارج وارتباطُ أجندتهم بمشاريعَ أجنبيّةٍ مغرضة. فقد نهض الحراكُ الجديدُ، وتطوّر، بأيادي أبناء البلد أنفسهم. حتى إنّ الخارج نفسه استغرب وتفاجأ ممّا حصل، وبدت مواقفُه مبهمةً ومرتبكةً بسبب سرعة الأحداث التي فاقت قدرتَه على ملاحقتها ومتابعة تداعياتها؛ إلى أن أُكره أقربُ الداعمين إلى النظام التونسيّ في الغرب (فرنسا والولايات المتحدة) على الخروج عن صمتهم ورفضِ ما يحدث من قمعٍ شديدٍ في الشارع، ومن ثمّ التحوّل إلى دعم الاحتجاجات وحريّةِ التظاهر والإشادة بشجاعة الشعب التونسيّ.
***
أخيرًا، لا يصحّ أن نتعجّل الاستنتاجَ حول المدى الذي سوف تصله الثورةُ التونسيّة في عمليّة التحوّل الديمقراطيّ. لكنْ يكفي هذه التجربةَ فخرًا أنّها ساعدتْ في تنامي يقظة الشعوب العربيّة ودرجة تحسّسها لمصالحها، وفي منح فكرة الديمقراطيّة والإصلاح السياسيّ حضورًا جديدًا بعد انحسار، لتشْغل الحيّزَ الذي يليق بها في الفضاء الثقافيّ والسياسيّ.
إنّ رفض الإصلاح السياسيّ، وتغييب حقوق الناس، واستسهال قهرها، وتجويعها، لا بد أن تستجرّ ردودَ أفعالٍ شعبيّةً عفويّةً واسعة، تضع عمليّة التغيير على نارٍ حامية، يزيدها حرارةً اللجوءُ إلى العنف لمعالجةِ ما يحصل من احتجاجات. فآليّاتُ الاستبداد قد تتمكّن موقّتًا من ضمان السيطرة، لكنّ النهاية واحدة، وهي العجزُ والفشل. والأمل أن يُقْنع الحدثُ التونسيُّ من لا يزال يجد الجدوى في القمع والترهيب بأنّ هذه الأساليب قد تنجح في تأجيل ردود الأفعال المناهضة، لكنْ ربّما كي تنفجر بصورةٍ أكثر حدّةً وعشوائيّة!
دمشق 30/1/2011
* كاتب سوريّ.
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١