ثورة تونسعلي الشهابي

بعض دروس الثورة التونسية

null
علي الشهابي
أتاحت الفضائيات والشبكة العنكبوتية والصحافة إمكانية متابعة فصول “ثورة الياسمين” عن كثب، حتى للمراقب البعيد. ولأن هذه الثورة هامة جداً بحد ذاتها، ومفاعيلها قد تحرك استنقاع مجتمعاتنا، لا بأس من معاينة التشابك في مجريات الصراع أثناء هذه الثورة التي ستأخذ شكلاً مغايراً إن تكررت في غير مكان.. وها قد بدأت تباشيرها في مصر.
مخطط النظام
بعد مغادرة الرئيس بن علي البلاد، سرعان ما أطلّ الوزير الأول محمد الغنوشي على التونسيين من خلال التلفزيون الحكومي ليدلي ببيان مقتضب قال فيه إنه بدأ تولي مهمات رئيس الجمهورية إلى حين إجراء انتخابات مبكرة. ودلّل على دستورية توليه بالقول “إنه طبقاً للفصل 56 من الدستور، الذي ينص على أنه في حال “تعذّر على رئيس الجمهورية القيام بمهماته بصفة وقتيّة (فالرئيس بن علي غادر تونس مؤقتاً) يحق له أن يفوّض سلطاته إلى الوزير الأول. واعتباراً لتعذّر ذلك بصفة وقتية، أتولى منذ الآن ممارسة سلطات رئيس الجمهورية. وأدعو كافة أبناء تونس وبناتها…إلى التحلي بالروح الوطنية لتمكين تونس في هذه الفترة الصعبة من استعادة أمنها واستقرارها”. وأضاف “أتعهد خلال فترة تولّي هذه المسؤولية باحترام الدستور والقيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تم الاعلان عنها، بالتشاور مع كافة الأحزاب الوطنية ومكوّنات المجتمع المدني”.
من الواضح أن هذا البيان تم ترتيبه على خلفية ضرورة مغادرة الرئيس بن علي. وهو يبيّن أن النظام التونسي، بلحمه وشحمه، كان يفكر بالاستمرار في حكم تونس، ولكنْ… من دون بن علي. هذا ما يتبين من خلال:
1ـ قيام الرئيس بن علي بالمغادرة دون تفويض السيد الغنوشي بتولي مهامه. هذا ما خطط له النظام لأن تفويضه له سيقوي الرابطة العضوية بينهما في عيون التونسيين، الذين يحرص النظام على إيهامهم بأن الخلاص من بن علي ينطوي على حل كل مشاكلهم.
2ـ تأكيد البيان أن السيد الغنوشي سيقوم بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أعلن عنها الرئيس بن علي، بينما كان يتنازل للشعب على أمل تهدئته. وهذه الإصلاحات حددها بن علي بأنها اقتصادية وإجتماعية وسياسية.
معلوم أن الإصلاحات الأولى والثانية تتطلب زمناً، أما الإصلاحات السياسية فقال بن علي إنه “سيكرس السنوات الثلاثة القادمة (حتى عام 2014 موعد انتهاء رئاسته) لتعديل قانون الانتخابات والحريات”. وكذلك يفعل الرئيس “المؤقت” في بيانه، فنراه يسوّف موعد الإصلاحات السياسية عبر إبقاء زمن العمل على تحقيقها مفتوحاً، طالما أن الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية القابلة للبناء عليها فعلاً مسوّفة بطبيعتها.
3ـ قول السيد الغنوشي عن نفسه “أتعهد بـ… القيام بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية… بالتشاور مع كافة الأحزاب الوطنية ومكوّنات المجتمع المدني”. أهم ما في هذا التعهد إعلان صاحبه صراحةً بأنه هو من سيقوم بالإصلاحات، أما الأحزاب والقوى والمنظمات فدورها استشاري. ما يضمر أن الرئيس الغنوشي “المؤقت” كان ينوي أن يظل في الحكم طوال الفترة الزمنية التي يتطلبها إنجاز برنامجه الإصلاحي الشامل.
لا شك في أن هذا البيان – البرنامج سخرية من الشعب التونسي وقواه السياسية والنقابية ونشطائه المدنيين. فجملة الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية ليس من منطق تحقيقها أن ينفّذها شخص، أيٌ يكن. فكيف بفردٍ من بطانة بن علي، يتولى مهامه بعدما أجبر الشعب أركان نظامه على التضحية به بتهريبه الى الخارج؟ وإنما يقوم بها الشعب، خصوصاً من خلال أحزابه السياسية التي تطرح برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية عليه وتبذل ما في وسعها لإقناعه. ومن يفوز بإقناع غالبيته يتولى إدارة شؤون البلاد لتحقيقها بأسلوبه، ويتحمل هو والشعب مسؤولية النتائج.
والشرط الأولي لذلك توافر الديموقراطية السياسية؛ وهذا يؤشر إلى ماهية المطلوب ممن يتولى مقاليد الأمور، بصرف النظر عن مدى دستورية توليه: فتح بوابة الديموقراطية السياسية أمام الشعب.
رد المعارضة
رداً على هذه السخرية، والأهم، لأن هذا هو المطلوب لتحقيق الإصلاحات وتطوير المجتمع، قامت القوى الحية في المعارضة بممارسة تكتيك الثورة الدائمة: سارعت قواها السياسية، وغير السياسية، إلى المطالبة باستقالة السيد الغنوشي. فبادر المحامون في مدينة القصرين إلى قيادة تظاهرة بالآلاف لهذا الغرض، وفي اليوم التالي بدأت القوى السياسية التحضير لمسيرات في كافة أرجاء البلاد للهدف نفسه. هذا ما قامت به على الرغم من فرض النظام حالة الطوارئ التي تحظر التجمع، وتسمح لقوات الأمن باستعمال الرصاص الحي ضد منتهكيه.
بعدما رأى النظام مدى تصميمهم، شعر أنه لا مندوحة من الرضوخ لمطلبهم طالما أن التغاضي عنه سيقوي حركة الشارع الذي لم يهدأ؛ فأوعز للسيد الغنوشي بالتراجع. حاول الأخير تنسيق تراجعه، فأعلن “إذا تأكد لنا أن مغادرة بن علي لتونس نهائية سيتم اتخاذ إجراءات أخرى” ثم قال “سنعلن موعد الانتخابات بعد التشاور مع مختلف الأحزاب والقوى”. وأخيراً قدّم ستقالته، وسلّم السلطة لرئيس البرلمان الذي حدد تاريخ الانتخابات الرئاسية بموعد أقصاه ستين يوماً.
إذن أجبرت المعارضة النظام الديكتاتوري على التراجع عن أول سيناريوهات أمله بالاستمرار في السلطة، فأيقن من عجزه على الاستمرار بالشكل الذي خطط له. لذا حاول تحصيل أقصى ما يمكن تحصيله: تم تكليف السيد الغنوشي بتشكيل حكومة مؤقتة، ضمت 23 وزيراً. عيّن فيها ستة وزراء من “التجمع الدستوري”، تولّى أربعة منهم الوزارات السيادية. أما باقي الوزارات فتوزّعت على أحزاب المعارضة والنشطاء المدنيين والنقابات، فكانت ثلاثٌ من نصيب الاتحاد التونسي للشغل، وواحدة للتكتل الديموقراطي من أجل العمل، وأخرى لحزب التجديد (الشيوعي سابقاً).
هذه الأحزاب الثلاثة الممثلة في الحكومة، وغيرها ممن لم يتمثل، استمرت بنهج الثورة الدائمة من خلال الضغط على النظام في الشارع وداخل الحكومة المؤقتة. علّق حزبا التجديد والتكتل الديموقراطي مشاركتهما في الحكومة احتجاجاً على سيطرة وزراء حزب النظام (التجمع الدستوري) على الحكومة، بينما انسحب منها الاتحاد التونسي للشغل.
هذا الضغط أجبر وزراء النظام ورئيس الوزراء والقائم بأعمال رئيس الجمهورية على الاستقالة من حزب “التجمع الدستوري”، مما حدا بحزب التجديد إلى عودة مشاركته في الحكومة. أما التكتل الديموقراطي، فانسحب منها بعدما نسّق خطواته مع الاتحاد التونسي للشغل.
البدء من الصفر
عند هذا الحد من الثورة الدائمة، التي انتزعت مكاسبها تدريجياً من النظام الديكتاتوري، رأت بعض القوى الديموقراطية أن “ثورة الياسمين” بلغت نقطة الأوج بتحقيقها كل ما يمكن تحقيقه في هذه المرحلة، تمهيداً لما ستفرزه الانتخابات القادمة. أما القوى المنسحبة من الحكومة، ومعها القوى غير الممثلة فيها أصلاً، فواصلت تحركها في الشارع للمطالبة بإسقاطها وتشكيل حكومة “إنقاذ وطني” تضم جميع القوى السياسية ولا تستثني إلا رموز عهد بن علي. بهذا انقسمت المعارضة الديموقراطية بحيث بات بعضها من السياسيين والناشطين المدنيين في الحكومة، والأخر في المعارضة.
مع أن هذا إضعاف للمعارضة، لكنه نتيجة طبيعية لممارسة حق الاختلاف في الديموقراطية.. وهما مختلفان، في هذه الحالة العيانية، على كيفية التعامل سياسياً مع رموز العهد السابق.
هذه الحكومة التي استجدت الشعب للقبول بها، عبر انسحاب وزراء “التجمع الدستوري” منه، وإعلانها “القطيعة مع الماضي” و”دفع تعويضات للمتضررين من انتهاكات حقوق الإنسان في عهد بن علي”.. إلخ، وعلى الرغم من انقسام المعارضة، ظلت عاجزة عن تثبيت نفسها باتخاذ قرارات مهمة. فرفض المعارضة الاعتراف بشرعيتها، يحرمها القدرة على اتخاذ القرارات السياسية التي تتطلبها المرحلة القادمة. إذ أن إجراءات من قبيل تعديل الدستور، تمهيداً لتغييره، بما ينطوي على الاتفاق عموماً على شكل نظام الحكم (رئاسي أم برلماني أو مزاوجة بينهما) وتحديد موعد الانتخابات، هذه الأمور تحتاج أيضاً مشاركة القوى السياسية النافذة في الشارع لتحديد ماهيتها ومواعيدها، قبل أن يتم إقرارها.. والأدق، حتى يتم.
هذا التراكب الظرفي بين انقسام المعارضة وضعف الحكومة يدل على أن محصلة علاقات القوى بين مجمل الأطراف المتصارعة هي صفر؛ وأن هذا الصفر لن يدوم طويلاً. محصلة العلاقات تعني أمرين:
1ـ إن هذه الحكومة المؤقتة، التي لا تعترف المعارضة بشرعيتها، لن تتمكن من إدارة شؤون البلاد طوال المرحلة الانتقالية.
2ـ إن إٍسقاطها عبر الاحتجاج في الشارع غير وارد.
وظرفيته، الناجمة عن التناقض الحاد بين إصرار حكومة الغنوشي على البقاء وإصرار المعارضة على استقالتها، تعني أنه لا بد أن يتم تجاوزها عبر العمل على تدوير زوايا التناقض باقتراح حل وسط. ومثال ذلك مبادرة ثلاثة من أعضاء المجلس التأسيسي لعام 1955 (أحمد المستيري وأحمد بن صالح ومصطفى الفيلالي) إلى اقتراح “تشكيل حكومة إنقاذ وطني” تضم كل الأحزاب والمنظمات، تقوم بتعليق العمل بالدستور الحالي وتتولى مهمة إعداد دستور جديد، والاستفتاء عليه، ثم تليها مرحلة الانتخابات.
صحيح أنه لم يتم التوافق على هذا المقترح بعينه، لكنّ الأهم أن الاتفاق الذي توصلت له الحكومة والمعارضة كان في الوسط: تم استبعاد رموز عهد بن علي من الوزارات السيادية، واحتفظ الغنوشي برئاسة الوزراء وظل معه وزيران من تلك الرموز في وزارات هامشية. وبالمقابل اعترف الطرف الأبرز في المعارضة (الاتحاد العام التونسي للشغل) بشرعية الحكومة، وفضّل عدم المشاركة فيها رسمياً، ليحتفظ بحق المشاركة بعدما يتشاور مع باقي حلفائه من أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني.
بهذا فضّلت النقابات مراقبة الحكومة من الخارج لكيفية إنجاز مهمتها في المرحلة الانتقالية والمتمثلة في “الانتقال بالبلاد الى الديموقراطية، وتنظيم الانتخابات حتى يقول الشعب كلمته بكل حرية، وبكل الضمانات في ان تعكس الانتخابات إرادة الشعب”. وأكد الغنوشي “هذا ما تم إقراره، وتلتزم به الحكومة”، وأضاف بأن “الانتخابات سوف تتم بإشراف لجنة مستقلة، وبحضور مراقبين دوليين، حتى نضمن شفافية ونزاهة الانتخابات التي ستنظم في هذه الفترة الانتقالية”.
الديموقراطية والديماغوجيا
بالإضافة إلى ما سبق، ثمة درسان آخران تنطوي عليهما ثورة الياسمين:
1ـ مع أن المشهد مازال مفتوحاً، ما يعني أن هناك دروساً أخرى ستغنينا بصوابها وخطئها، إلا أنني أكاد أجزم أن أهم ما في هذه الثورة سلميّتها الأصيلة. فالشعب لم يتصرف بتاتاً بحسب المثل القائل “يكفيك شر المحكوم إذا حكم”، بل حافظ على اتزانه حتى عندما شكّل لجاناً لحماية نفسه من زعران ميليشيا النظام التي حاولت أن تعيث فساداً بغية إحداث ما يشبه الحرب الأهلية لتجبر الجيش على القيام بانقلاب عسكري يعيد إنتاج الديكتاتورية. فالثورة إذن لم تتزيّا بالمسالمة خوفاً من قمع نظام بن علي، وإنما حافظت على هذه الميزة بعدما فرضت نفسها بقوة في الشارع.. وحتى بعد فرار بن علي. وظلت كذلك، ولا منظور عندها إلا استمرار إدارة خلافاتها بالوسائل الديموقراطية.
شكلياً تناقضت مواقف الأطراف الديموقراطية التي داخل الحكومة وخارجها، ومع ذلك لم يقفا على طرفي المتراس. لماذا؟ بما أن الهدف بناء مجتمع مدني، صارت الثورة على الديكتاتورية تفرض نفسها بقوة مدنيتها، وليس بالمتاريس. وحتى حكومة الغنوشي نفسها، ذات الأغلبية النسبية من رموز عهد بن علي، والتي كانت تفتقر لأي قوة شعبية مستعدة للنزول إلى الشارع دفاعاً عنها، لم تفكر المعارضة بدفع الجماهير (ولو من تحت لتحت) إلى اقتحام مقرها.
2ـ ينطوي صمود حكومة الغنوشي، واضطرار المعارضة لملاقاتها في منتصف الطريق، على درس عميق. فهو ووزيراه من رموز النظام البائد، ومع ذلك تراجعت المعارضة عن “رفض الاعتراف بشرعية حكومة فيها رموز من نظام بن علي”. لماذا؟ قد يقال “إن المعارضة رفعت السقف حتى تحصّل الوضع الراهن”. وهذا لا يغيّر جوهر الموضوع، على العكس يؤكد بداهة استحالة غياب رموز النظام البائد عن الحكومة الانتقالية. لماذا؟
لأنهم ممثلون لجزء من البنية الاقتصادية – الاجتماعية القائمة، التي ستتعايش معها البنية الجديدة مرحلة قد يطول أو يقصر زمن امتدادها. فالبناء الجديد لا يلغي القديم بإصدار قرارات تنفيذها فوري، هذا أسلوب الميليشيا “الشعبية” المفضي إلى سلطة ديكتاتورية. وإنما يبدأ من الأرضية القديمة، ويحولها انطلاقاً من البذور الديموقراطية القائمة فيها. وشيئاً فشيئاً يلمس المجتمع جدواها، ويتفاعل معها بحيث تنتفي البنية القديمة. وهي دوماً تنتفي، في ظل غياب سلطة ديكتاتورية تسعى لترسيخها، لكون البنية الجديدة حاجة يشعر المجتمع بضرورة تلبيتها.
في سياق الحديث عن هذا الصراع، بين القديم والجديد، أستهجن مطالبة الكثيرين بحل الحزب الحاكم. فهذه المطالبة غير منطقية، لكونها غير واقعية. من ذا الذي سيأمره بحل نفسه؟ وإن وجد، ما الداعي إليه؟ يكفيه ازدراءاً أن الشعب ثار ضده. هل سيجرؤ أعضاؤه على طرح برنامجه لكيفية تطوير تونس ديموقراطياً؟ وإذا افترضنا أنهم فعلوا، هل يخشى المطالبون بحله من تأييد غالبية التونسيين له؟ فـ”أعضاؤه” من الطبيعي أن يعيشوا بين التونسيين، كجزء منهم، تحت سقف القانون.
باختصار، هذا الحزب اندثر. أما ما يحز في القلب، أن هذه الديماغوجيا لمّا تندثر.
دمشق 27 كانون الثاني 2011

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى