هوامش على السرد التونسيّ
* ميشيل كيلو
1
مرّ الحدثُ التونسيُّ في مرحلتين متكاملتين:
– أولى ذاتيّة، بلورتْ خلالها نخبٌ مثقّفةٌ منظوراتٍ قرأت الواقعَ التونسيّ بطريقةٍ مغايرةٍ أو معاكسةٍ للقراءة الرسميّة السائدة، فلبّت ـ بهذا القدر أو ذاك ـ حاجةَ المجتمع والمواطن إلى فهمِ ما يجري، وإلى نقدِه ، والخروجِِ منه إلى بديلٍ مختلفٍ عنه ومناهضٍ له. هذه المرحلة الأولى كانت مرحلة اختمار الثورة في نفوس المواطنين العاديين، وهي نفوسٌ خرج وعيُها من الوعي الرسميّ، وتحرّرتْ من رؤية النظام ولغته ومنظومته الإيديولوجيّة، الأمر الذي وضعها، على الصعيد الذاتيّ، أمام:
– مرحلة ثانية، موضوعيّة، هدفُها التحقيقُ العمليّ، من خلال ممارسةٍ يوميّةٍ قدر الإمكان، للبديل النظريّ الذي يدعو إلى الحريّة والديموقراطيّة.
في الطور الأول من الحدث التونسيّ، كانت الثورة حدثًا صامتًا اعتمل داخل العقول والنفوس، ونتج من تفاعل على صعيد الوعي؛ ثم صارت في الطور الثاني ثورةً علنيّةً في الواقع وعليه. وفي حين اتّجهت المرحلةُ الأولى من النخبة على جماعاتٍ غير محدّدة سلفًا، وتتكوّن من أفراد خواصّ، ومرت دومًا في قنواتٍ انتهت إلى المواطن/الفرد، فقد ذهبت الثانية من الفرد إلى ساحة المجتمع العامّة، وصار حاملها هو الجماعة والشعب: مجموع المواطنين الذين توحّدتْ مطالبُهم نتيجةً لتماثل رؤاهم وتشابهها. كان هؤلاء قد أنجزوا طورَ الثورة الأول في ضمائرهم قبل أن يستمدوا منه الشجاعة والإصرار الكافيين لإنجاز طورها الثاني، الذي ترجم نفسَه إلى صراع أطاح بالنظام، وحرَّر المجتمع من جزءٍ كبيرٍ من وجوده الماديّ، بعد أن حرّر المواطن نفسه من ركائزه الإيديولوجيّة والتضليليّة.
كان الفيلسوف الألمانيّ هيجل هو الذي قال إنّ الثورة تتمّ على مرحلتين، أولاهما على صعيد الفكر، والثانية في الواقع. ويقول لنا واقعُ التجربة التونسيّة والعربيّة الراهنة إنّ الأولى من صنع نخبةٍ ترى نفسَها بدلالة المجتمع المدنيّ والمواطنة، وتاليًا بدلالة حريّة الشعب وديموقراطيّة النظام وحقوق الإنسان والمواطن؛ وإنّها تدخل مرحلتَها الثانية (فتصير ثورةً في الواقع وعليه) عندما تتحوّل الأفكارُ إلى قوّةٍ مادّيّة، وذلك بأن تتوطّد في وعي الجماهير، كما قال فيلسوفٌ ألمانيٌّ آخر هو ماركس.
لن أسهب في الحديث عن النخب المثقفة في بلداننا. أكتفي بالقول إنّ طور الثورة الأول من صنعها، وإنّه أمانةٌ في أعناقها، إنْ كانت تحبّ شعبَها حقًا وتؤْمن بما تقوله. لا يستطيع أحدٌ منعَ المثقفين من بلورة الأفكار الضروريّة لبناء وعي الانفكاك عن النظُم القائمة وإيديولوجيّاتها. ولا يستطيع أحد غيرهم ـ أكان الشعب أمِ المجتمع ـ إنضاجَ مادّةَ ومفرداتِ الوعي البديل: فكرِ التغيير الثوريّ. ولا يَطلب أحدٌ منهم إنجازَ طور الثورة الثاني؛ فهذا إمّا أن يكون من صنع الشعب أو قطاعاتٍ واسعةٍ ومتنوّعةٍ منه، وإما لا يكون. فإنْ قام الناس من خارج معادلة المرحلتين هذه، أخذ قيامُهم شكل “هوجة” تنتهي غالبًا إلى الفوضى، ويكون موجِّهَها الغضبُ والحقدُ، لا الوعيُ المجتمعيُّ والمدنيّ. هذا لا يعني أنّ المثقّف ينجز فكر الثورة في محرابِ طهرٍ ثقافيٍّ ما، ولا يعني أنّ الشعب يقول له ـ عندما يشْرع في تحقيق مرحلة الثورة الثانية ـ “تفضّلْ وقف بعيدًا وأنت مكتوف اليدين.” يحتاج المثقّفُ إلى الشعب في المرحلة الأولى ليحرِّر أفكارَه من النخبويّة، وليُكسبَها قوّةً مادّيّةً وفاعليّةً ملموسة؛ وإلاّ بقي معزولاً، وغاب فكرُه عن الواقع، أو انتظره زمانٌ آخرُ غير زمانه. ويحتاج الشعبُ في المرحلة الثانية، العمليّة، إلى المثقف، الذي سيصير خلالها مواطنًا ممارسًا مؤهَّلاً أكثر من غيره من المواطنين العاديين لامتلاك صورة ـ وإنْ تقريبيّة ـ عن مسار الأحداث والمآل الذي ستبْلغه.
هكذا يرى المثقفُ نفسَه بدلالة الشعب، الذي لا غنى له عن المثقف: فالأول حاملُ المسألة الفكريّة/المعرفيّة، التي يسمّونها “الثقافة”؛ والثاني حاملُ المسألة الاجتماعيّة، التي تترجِم نفسَها دومًا إلى مسألةٍ سياسيّة. وعندما تلتقي المسألتان، يكون فعلُ التغيير قد نضج، ويصير الانفجارُ الشعبيّ أو المجتمعيّ مسألةََ وقت، ومسألةَ وقوع حدثٍ كاشفٍ، مثلُهُ في تونس قيامُ الشهيد محمد البوعزيزي بحرق نفسه احتجاجًا على الأمر القائم، الذي انكشفتْ سماتُه في تعامله معه، وأعطاه الشعبُ التونسيُّ بحقٍّ معانيَ تتخطّى دلالتَه الفرديّةَ إلى دلالاتٍ مجتمعيّة/سياسيّة عامّةٍ، جعلتْه ينزل إلى الشارع كي يحقِّق المرحلةَ الثانيةَ من ثورةٍ بيّنتْ ردودُ الأفعال على موت البوعزيزي كم كانت النفوسُ حبلى بها، وكم كانت ناضجةً في النفوس والواقع معًا.
ثمة هنا حاضنةٌ لا بدّ من التذكير بدورها الحاسم، هي بكلّ بساطةٍ سياساتُ النظام الذي يُغلق السبلَ في وجه المواطن، ويذلّه، ويجوّعه، ويَحُول بينه وبين المشاركة في أيّ شأن، ويعرِّضه لتهميشٍ متزايدٍ يُخرجه من الوجود، ويحْرمه من أيّ حق، ويقوده من سيّء إلى أسوأ، حتى لا يبقى له غيرُ الموت كدودةٍ أو الانفجار لاسترداد إنسانيّته ومكانه من الحياة. من دون هذه الحاضنة لا تحْدثُ الثورةُ في مرحلتيْها؛ فالتمرّد العربيّ الراهن هو، في درجةٍ كبيرة، من صنع النظُم قبل أن يكون من صنع أيّة معارضة.
2
قام الشعبُ التونسيّ بالمرحلة الثانية من الثورة، فعاب لسانٌ معيّنٌ على المثقّفين (والأحزاب) عدمَ قيامهم بقيادتها، ونسي أنّها ما كانت ممكنةً أصلاً لو لم يلعبْ هؤلاء دورًا رائدًا في إنجاز قسمها الأوّل في عقول أبناء الشعب وبناته وفي نفوسهم. لقد انضمّت الأحزابُ إلى الثورة بعد أيّام من نشوبها، بينما كان المثقّفون في صلب واقعها خلال مرحلتيْها. هذا هو الجديد في الحدث، وقد عبّر عن ذاته في قيام الشعب نفسِه بكلِِّ ما تطلّبه النضالُ خلال أسابيع طويلة، من دون أن تتوفّر له قوّةٌ حزبيّةٌ قائدةٌ انتفض بقيادتها وتحت إشرافها ليحقّق برنامجَها ويتبعَ زعيمَها أو زعمائها (بحسب نموذج الثورة الروسيّة مثلاً، حيث وقفت الطليعةُ على رأس الشعب واحتلت صفوف الثورة الأولى). فلقد سبق الشعبُ التونسيّ الأحزابَ إلى الشارع؛ ذلك لأنّ تونس خلت من حزبٍ جامعٍ يتجاوز برنامجُه المصالحَ الطبقيّةَ الضيّقةَ أو الجزئيّة إلى منظور تاريخيّ مجتمعيّ عامّ وتغييريّ. لقد حال الاستبدادُ دون وجود مثل هذا الحزب: إذ دمّر الحياةََ السياسيّة، وشقّ الأحزابَ أو دفعها إلى المنافي والسريّة، واخترقها، وتلاعبَ بقواها، وجعل ثمنَ الانتساب إليها قاتلاً بالنسبة إلى المواطن العاديّ، وقطع التواصلَ السياسيَّ بينها وبينه، وركن إلى قدرته على إفساد بعض رموزها واحتوائهم وإبقاءِ جهازها العصبيّ ـ الفكريّ والقياديّ القادر على المبادرة والفعل ـ تحت العين وفي متناول اليد. كما أَحكم قبضتَه على المجتمع، وأمسك بخناق النخب المفكّرة والسياسيّة من الطبقة الوسطى، ومَنَعَ تفاعلَ مكوِّناتها وتواصلها مع المجتمع عمومًا، وحال بينها وبين القدرة على التفكير الحرّ بقطْعها عن مصادره وعزلِها عن الناس. ثمّ إنّه وحّد السلطةَ ومن لفّ لفّها حول أسرةٍ تضع يدَها في جيوب الناس، وعِصِيَّها على رقابهم، ومسدّساتِها على رؤوسهم.
كيف ستستمرّ الثورة الشعبيّة في هذا لوضع الخاصّ؟ وما هي الأوضاع التي ستترتّب عليها؟ وأيُّ نظام ستقيم، وبأيّ قدرٍ من التطابق مع أهدافها وغاياتها؟ وما هي التناقضاتُ التي ستظهر في صفوف مَن انخرطوا فيها؟ وهل ستستمرّ الوحدةُ بين قواها حين تبني نظامَها الجديد؟
إنّ وضع القوى السياسيّة يزداد أهميّةً بمرور الوقت، وقد يصير حاسمًا في الفترة القادمة القريبة، خصوصًا أنّ على الجانب المقابل قوى النظام القديم التي تضمّ سياسيّين وعسكريّين ورجالَ أمنٍ وأصحابَ مصالح يراهنون على احتواء الثورة وإيقافها عند حدودٍ لا تتجاوزها، وعلى تحويلها إلى ثورةٍ ضدّ فردٍ (الرئيس) لا ضدّ النظام، ويرتّبون أمورَهم كي يستغلّوا الفراغَ الذي قد يترتّب على صراعات أطراف الثورة الحزبيّة (وانقساماتِ جماهيرها ربما) كي يقفزوا إلى الحكم بحجّة “إعادة الهدوء والاستقرار ومواصلة الثورة في ظروف سلميّة،” أسوةً بما فعله نابليون عندما وضع يدَه على الثورة الفرنسيّة وقال جملته الشهيرة الشديدة الالتباس: اليوم، انتهت الثورة وتحقّقت أهدافُها!
3
ثمة أمران لا بدّ منهما:
– إيصال الثورة إلى أبعد مدًى ممكن كي يَصعبَ احتواؤها والالتفافُ عليها، أكان ذلك من داخل القوى السياسيّة والحزبيّة المعارضة أمْ من قوى النظام السابق. لا بدّ من تدمير النظام القائم إلى أقصى حدٍّ يمْكن بلوغُه. ولا بدّ من مراقبة القوى التي كانت بالأمس جزءًا منه، لكنها رفضتْ قمعَ الشعب، لوطنيّتها أو مهنيّتها؛ وقد تدخل (في لحظة بلبلةٍ) على الخطّ، وهي التي أبقت قواها سليمةً، وترْبطها صلاتٌ مختلفةٌ بالخارج.
– تحقيق أعلى قدرٍ من الوحدة بين القوى السياسيّة، الحزبيّة والمجتمعيّة. وهذا لا يكون بغير توافقٍ وطنيٍّ عريضٍ يقوم على مشتركاتٍ عامّةٍ لا مجال لخلافٍ حولها أو حول قراءتها… على أن يشمل التوافقُ جميعَ التيّارات والأطراف الراغبة في بناء مجتمعٍ ديموقراطيٍّ وعادل ، وأن تتعهّدَ علنًا بعدم خوض أيّ صراعٍ على السلطة لفترةٍ تتراوح بين ثلاثة وخمسة أعوام. خلال هذه الفترة تنبغي تصفيةُ بقايا النظام القديم، وإرساءُ القواعد السياسيّة والمجتمعيّة التي سينهض عليها النظامُ الديموقراطيُّ البديل، في حاضنةٍ تقوم اليوم على وحدةٍ أساسُها التنوّعُ والتباين، وتقوم غدًا على تنوّعٍ وتباينٍ أساسُهما الوحدةُ. والهدف من ذلك هو أن لا تتاح لأعداء تونس الجديدة فرصةُ إنهاء الثورة باسم تحقيقها، كما فعل نابليون، ولا تنهار أو تتراجع تحت وطأة انقساماتها وخلافات مكوِّناتها وربما قلّةِ عقل بعض قادة الأحزاب السياسيّة ورموزها. من الضروريّ، لتحقيق هذا، أن تتداعى القوى الديموقراطيّة، حزبيّةً ومجتمعيّة، علمانيّةً وإسلاميّة، إلى مؤتمر وطنيّ عاجل يحدِّد الجوامعَ التي تبقي صفوف المجتمع التونسيّ موحّدةً إلى أقصى درجة، وتقلِّص تناقضاتها، وتقيِّدها إلى أبعد حدّ خلال فترة الانتقال (3 إلى 5 سنوات) التي يجب أن يتولّى مندوبوها السلطة في أثنائها باسم قوى التوافق مجتمعةً، وأن ينتخبوا في مؤتمر وطنيّ عامّ، تنتخبه بدوره لجانٌ شعبيّةٌ تغطّي أرضَ تونس كلَّها، ليكونوا حكومة تمثّل الشعبَ بحقّ. لا يجوز أن تعمل القوى الديموقراطيّة بعقليّة الأقٌليّة والأغلبيّة، ولا بدّ من أن تتوجّه إلى الشعب برؤيةٍ وبرنامجٍ موحّديْن ، في إطار جوامعَ تقرِّبها بعضَها من بعض وترسي وجودَها على أسس واحدةٍ أو متقاربةٍ، تُضْعف خلافاتها، وتحوّلها إلى ميدان تفاعلٍ تكامليّ يغْني الحياة الوطنيّة والنضالَ المجتمعيّ. وإلاّ، فإنّ تونس الجديدة لن تكون آمنة وقادرةً على الاحتفاظ بنظام ديموقراطيّ حقيقيّ.
4
بدأتْ عام 1952 محاولةٌ تاريخيّة جوهرُها التغييرُ بواسطة السلطة. لكنّ تهافتها، وفسادها، وخروجها عن وعودها ورهاناتها، وتشوّهها الداخليّ، وانقيادها للخارج، أدّت خلال العقود القليلة الماضية إلى فشلها، وأنزل قدرًا مخيفًا من الهزائم والخراب بالعرب. واليوم تقدِّم تونس بديلاً تاريخيًا هو: التغيير بالشعب، وهو خيارٌ مفتوحٌ على آفاق لا نعرف بعدُ مساراتِها الواقعيّة، لكنّ نجاحها سيُخْرجنا حتمًا ممّا نحن فيه من بؤسٍ واحتجاز.
ليس ما يجري في تونس فعلاً خارجيًا بالنسبة إلى بقيّة العرب. ولسنا بدورنا غرباء عنه وعنها. لقد ردّت تونس الروحَ إلى الفكرة الديموقراطيّة، وحملتْها، وأكّدتْ أنّها راهنة، بل هي الراهنُ الوحيد، كما كانت تقول حركةُ المجتمع المدنيّ العربيّة الحديثة. كما أكّدت هذه الحركة ضرورة توجّه المثقف إلى المجتمع باعتباره [أي المثقف] حاملََ مشروع تحرِّره، خصوصًا أنّ مرحلة الثورة الأولى (المرحلة الفكريّة من الثورة) جارية في كلّ مكان، وأنّ مرحلتها الثانية آتية لا محالة: بفضل نظُم الاستبداد وسياساتها ورفضِِها أيّةَ محاولةٍ إصلاحيّة، وبسبب انفكاك المجتمع المتزايد عنها. بالمناسبة، علّمتنا تجربةُ تونس أنّ مشكلة الاستبداد ليست مع المعارضة، التي يستطيع قهرَها وسحقَها بسهولة، بل هي مع المجتمع، الذي لا يمكن أن يقهره أيّ نظام.
تونس هي البداية. وإلى أن تقرِّر النظمُ إصلاحًا جدّيًا لأحوالها، فستبقى السرديّةُ التونسيّة قابلةً للتكرار في كلّ أرضٍ عربيّة عش مواطنوها تحت وطأة ذلٍّ لا يرحم!
المقالة منشورة في مجلة الآداب, ١-٣ /٢٠١١