ســـلطة تنكريـــة
عباس بيضون
يمكن للمرء أن يضحك من القذافي، أن يقول مثل كثيرين: انه منته ولا بأس من الضحك عليه. ثمة خدعة في التليفزيون هي أن نظن أننا فعلاً في قلب الحدث. لكن الصور هنا لا تقل غلطاً عن الكلمات. صورة القذافي وهو يتكلم من فوق البرج لا قيمة لما فيها من كلام. قال انه سيسلح القبائل لكن وقفته قالت شيئا آخر. قال ان الشعب يحبه لكنه بدا من فوق، نعم من فوق، كالمتسوّل. قال انه لو لم يحبه شعبه لما استحق الحياة يوماً واحداً. كان هنا الكلام يتبدد في الريح وكل اعترافات الحب هذه ذهبت هراء. بعد أن أنهى كلمته تقدم جندي وقبّله لكنه نفض نفسه من الجندي الآخر الذي، لا بد، حدثته نفسه بأن يقبّله أيضاً. الحب، لكن ليس إلى هذه الدرجة. الحب نعم ليس إلى حد تبادل القبل. لكن الرجل الذي كان يقول انه لو لم يحبه شعبه لا يستحق الحياة يوماً واحداً، بدا من فوق، ودائما من فوق، انه لن يعيش فعلاً أكثر من يوم واحد. الصورة كذبت الكلام. من فوق بدا وكأنه من تحت، بدا على السطح وكأنه على الأرض، بدت ثيابه الملوكية ثياب متسول وهؤلاء الذين وقفوا معه عند أوائل الغروب بدوا أيضا مشردين. لقد لحق بالجميع قدرهم. أو الذي قدرنا انه مصيرهم. بدوا جميعاً في شحوب العصر كأنهم تحت انعكاس هذا القدر. بدا القذافي وكأنه يطلب من الحياة يوماً واحداً. يطلب من المحتفلين به تحت أن يحبّوه ليوم واحد. لربما كان بحاجة إلى هذا اليوم فعلاً. كان في ذلك اشبه بالتلميذ الذي غاب عنه درسه المحفوظ فأخذ يتوسل استاذه «كلمة واحدة فقط، قل لي الكلمة الأولى».
كانت هذه غير الخطبة التي ألقاها من داره والتي قال فيها انه سيطهّر ليبيا بيتاً بيتاً وحياً حياً و«زنقة زنقة». بدا في هذه الخطبة، بغطاء رأسه وثوبه البنيين كقاطع طريق، وحين كان يقول انه سيطهر ليبيا بدا عليه انه «سينهب ليبيا بيتاً بيتاً وداراً داراً و«زنقة زنقة»، يحب العقيد الثياب الامبراطورية لكنه مثل سلفه الامبراطور يوكاسا كان يظهر عليه فوراً انه استعارها. من الصعب أن يبدو امبراطوراً ولو في ثياب امبراطورية. كان يقال ان الثوب يصنع الراهب لكنه لا يصنع الامبراطور. لو عرضنا القذافي على مخرج سينما لما قبل له دور امبراطور. لو كان الناس بهيئاتهم فإن هيئة القذافي هي تقريباً هيئة صعلوك. لا يكفي الحرير ولا الملابس الفضفاضة لاخفاء ذلك. يناسبه أكثر دور القرصان ويمكن ان نتخيله أفضل فوق الصاري أو مقاتلاً على ظهر السفينة. جسد القذافي مشدود متقلص كالشرش. وجهه متحجّر وهو بهذا الشكل أبعد ما يكون عن النبالة التي يسعى إليها في ملابسه الاحتفالية. هو بهذه الهيئة لا يدل بفرادة أو تميز من أي نوع. انه من العامة، من هؤلاء الذين ترى لهم شبهاً بالألوف. ما كنا لنتكلم كثيراً عن هيئة القذافي لو لم يكن القذافي باستعراضيته الفاقعة ممثلا بالدرجة الأولى. انه كل يوم في دور جديد وزي جديد. يتراءى لنا أنه باستمرار متنكر. يريد ان يخفي هيئة الصعلوك العامي التي له في ثياب النبيل والامبراطور. كان الزعماء الاشتراكيون والفنانون الاشتراكيون يختارون لأنفسهم ثياب العمال. أما القذافي «الاشتراكي» «الشعبي» فاختار لنفسه ثياب الأباطرة. ما من شيء يفضح سريرة الرجل أكثر من ثيابه. لا نعرف من أين وردت له افكار المجالس الشعبية. لا بد أن نبحث عن ذلك الرجل الذي أوحى له بذلك. لقد وجد أيضا من أوحى لبن بللا بأفكار مشابهة. هؤلاء نعرفهم، أما صاحب افكار القذافي فلا يزال مجهولاً. لم يكن القذافي تروتسكيا ولا فوضوياً لكن سلطة المجالس او «اللجان» ليست مجهولة النسب. يمكن ان نفكر بأن ثمة رجلاً أوحى للقذافي بأفكار كهذه لكن القذافي أخذ الأفكار منه وقتله. لا بد أنه قتله فجوزيَ الرجل جزاء سنمار وسنمار لمن يسأل، مهندس شيد لكسرى قصراً عجيباً فأعجب الملك وخاف ان يبني لآخر مثله فألقاه من أعلى وقتله. لا بد أن القذافي قتل ملهمه فنحن لا نعرف له اسماً ولا وجها. سلطة المجالس او اللجان ليست بالتأكيد من اختراع القذافي، ان لها تاريخاً آخر. اما من أين التقطها القذافي فهذا ما لا يزال مجهولاً. لم تكن الديموقراطية المباشرة عند القذافي ولا حتى عند بن بللا سوى تمويه لاستبداد فردي حر ومطلق، فالديموقراطية المباشرة لم تكن تعني سوى الاستبداد المباشر، والديكتاتور عن هذا الطريق قادر على أن يتدخل في كل بيت، فما ندعوه الدولة لن يعود عندئذ سوى حفنة من طغمة الديكتاتور وحاشيته. الدولة ستكون ملكه المباشر وتكيته ولا شيء آخر. لا بد أن القذافي قتل ملهمه، لا بد انه قتل السيد موسى الصدر لسبب مشابه (إذا صح ما تنوقل عن الهوني). مثل القذافي يقتل لأنه قاتل، ويقتل لأنه مريض. وهذا ما يفعله الآن بمجالسه ولجانه، انه يقتل شعبه الحبيب لكنه لا ينسى وهو يفعل ذلك ملابسه. لهذه الملابس قيمة رمزية بحيث انها تكاد تكون تنكر السلطة او تنكر الجلاد. سلطة اللجان الشعبية، التي توخى دعاتها ان تكون تبسيطاً للدولة إلى حدها الأدنى، كانت في حكم القذافي انتفاء للسلطة. لقد سهلت له ان يحكم بدون ان يكون مسؤولا، بل سهلت له ان يقتل ويسرق بدون ان يكون مسؤولاً. القذافي هو القائد ونحن لا نعرف منصباً كهذا في حكم اللجان. هو القائد غير المنتخب ولا يأتي بالانتخاب لكن في يده مقاليد الثروة ومقاليد الحكم. هو وعائلته مالكو مفاتيح البترول والسلطة. أي بمعنى آخر، تتسبط السلطة لتغدو فقط اغتيالات ونهبا. تغدو السلطة هي القمع المجرد والسرقة المجردة. تغدو ثراء واغتيالات وهذا ما فعله القذافي بجدارة. القذافي هو القائد. انه الدون معمَّر، الجميع يقبلون يده فهم أتباعه، انه الزعيم المافياوي، وهؤلاء أتباعه، أي القتلة الذين يستعملهم وهو يرسلهم ليقتلوا ويوزع عليهم جزءا من الغنائم. هكذا يتحول حلم السلطة المباشرة إلى مجرد كاريكاتور مافياوي.
يصرخ القائد في خطبته، إلى الأمام، إلى الأمام. كان وحيداً ولم يحبه أحد. لكنه بالتأكيد كان يحرض كلابه على الهجوم. يقال ان هايلي مريم أقام مكتبه حيث دفن الامبراطور. لا نعرف على أي جثة أقام القذافي قصره. إذا صح ما قاله الهوني فإنه بنى قصوره على الجثث، كما بنى سلطته على الاغتيال، عندئذ لا تفعل سلطة اللجان الشعبية سوى تضييع السلطة (تضييع المسؤول)، وبالتالي ينتفي الجواب عن سؤال من هو القاتل.
السفير