ثورة ليبيا

خطابة الديكتاتورية العربية الآفلة وثوراتها: في حلّة وأداء مسرحيين وأوبراليّين هازلين ومأسويين

وضاح شرارة
كانت خطبة “العقيد” معمر القذافي، في ختام 41 سنة ونصف السنة من الاستيلاء المباشر (1 ايلول 1969 22 شباط 2011)، بياناً مسرحياً، شكسبيرياً أو بيرنديلوياً أو أوبوياً (نسبة إلى “أوبو ملكاً” لألفرد جارّي الفرنسي)، في السلطة والحاكم الفرد والتأله السلطاني الهاذي والعزلة. والبيان الطويل والفذ والاسثتنائي آية من آيات الأداء المتلفز والمباشر، لغةً وإلقاءً وتشخيصاً ولباساً وقيافة و”ديكور” خشبات وأدواراً ثانوية. فالرجل الذي ظهر فجأة على شاشات الفضائيات، قبيل السادسة مساءً (أو الثالثة في توقيت غرينتش)، وتكلم طوال ساعة وربع الساعة، بدا، وهو في السبعين من العمر، إذا صح أنه كان في الثامنة والعشرين حين استولى على حكم ليبيا وطرد الإدريسيين عن العرش، حطاماً إنسياً، وبقية بشرية. ولولا ترويع الأخبار والصور الصادرة عن بعض البلاد الليبية، وأولها بنغازي، ونذر الهول التي لم تتكتم عليها كلمة سيف الإسلام معمر القذافي قبل يومين (في 21 شباط)، لكانت الخطبة المعمرية من أمهات الأعمال المأساوية والمسخرات الهازلة معاً.
فالوجه غارَ في تجاعيد بشرة وغضون من غير لون ولا التماع. والقسمات ارتخت، وتراكم بعضها فوق بعض لزجاً وهلامياً، على ما يرى في بعض أشرطة ميازاكي المصورة والمتحركة. وانقلب محور الوجه أو قوامه وعباراته من الطول، على ما هي حال الوجه العادي، إلى العرض. فتراكمت القسمات، الواحدة فوق الأخرى، واقترب بعضها من بعض على نحو غير مألوف في الوجوه. وظهر التحول في الشفتين والفم فوق ظهوره في القسمات الأخرى. فحلت فيه، في التوائه العَرْضي ولعابه واندلاقه على الذقن تحت شعر الشاربين المتفرق والقليل والضعيف، عقود من الازدراء والقرف والكراهية والتجبر والانكفاء على نفس لا نافذة لها ولا شرفة. واعتمر الخطيب المفاجئ، والمتهالك بعضه على بعضه، قبعة قد تكون صحراوية، تشبه شبهاً غريباً قبعات الأمراء والقادة الإيطاليين في تصاوير القرنين الخامس عشر والسادس عشر ولوحاتهما. ولبس صدرية من اللون البني الغامق نفسه، تنتهي في الجزء الأعلى بياقة عريضة تنبسط على معظم هذا الشطر من الصدر. فلم يعوض اللونُ البني، وهو قريب من لون وبر بعض الجمال والنوق، بشرةَ الوجه الكالحة والمغبرة “لهجةً” لونية، على قول صنّاع التزويق وأصحابه.
[فرح الاعدام
ووقف الخطيب البادي الاضطراب، والحاضر حضوراً طيفياً أقرب إلى تطواف الصدى بين الأقبر في حكايات الجن وعبقر البدوية، في مدخل ثكنة العزيزية وبوابتها الحديدية بطرابلس الغرب. والمبنى العسكري والستاليني العمارة، ضخامة وثقلاً وإرهاصاً بالخراب وامتناعاً من إحاطة الصورة القريبة بأنحائه كلها، ظاهر الخلو من السكان والمقيمين. وهو لا يزال يحمل آثار قصف سلاح الجو الأميركي في 1987، رداً على ضلوع “الأخ العقيد” في اغتيال جنود أميركيين ببرلين. ووقف الزعيم الثوري متداعياً تحت قوس البوابة، وراء منصة عارية نصب فوقها لاقط صوت معدني نحيل. ويحف المسرح الهزيل والمقفر نصبُ ذراع طويلة وقوية وقبضة تهصر طائرة فانتوم أميركية، عادت عدسة التصوير إليه المرة بعد المرة، وترددت بينه وبين بوابة ثكنة العزيزية وواجهة المبنى الخرساء ووجه الخطيب الأغبر، وقيافته الصحراوية والنهضوية الإيطالية. وخطب حوله “جمهوراً” ضئيلاً ومتفرقاً وصفه عبدالرحمن شلقم، وهو وزير خارجية “الأخ معمر” سابقاً ومندوبه الدائم إلى الأمم المتحدة قبل استقالته و “صديقه” بداهة، غداة الخطبة بيومين، فقال: كان القذافي يخطب جمهوراً هو “أطفال أتى بهم من دور الرعاية (…) ومواطنين هم جنود ألبسوا زياً مدنياً”.
وتكلم “القائد المؤسس”، غداة تلويح ابنه “السياسي” والديبلوماسي، والمفاوض، ومحرر الرهائن وبيّاعهم في سوق طويلة عريضة حدودها مستشفيات طرابلس الغرب وصوفيا البلغارية وأدغال تايلندا وبرلين واسكوتلندا ولبنان وليبيريا وإيران وسوريا وفلسطين بحرب قبائل وبلاد وديرات وأهل. وهي حرب سبق أن نفخ والده الذي “لا يمس” في مثلها بلبنان، قبل نحو 30 عاماً، وبالصومال وتشاد والحبشة وأطراف السودان ومالي إلى ليبيا نفسها، في العشرين عاماً “الافريقية” الأخيرة. فأوجز، إذا صدق الفعل في خيوط الكلام المتقطعة مثل خيط طائرة ورق مرتجلة، فلسفة ثورته وروحها، وبسط حوادثها ووقائعها وأحكامها، إيجازاً وبسطاً لا ريب في أن صورهما التلفزيونية “عمل” يجب حفظه وتداوله.
فالرجل الذي تربع طوال أربعة عقود وبعض العقد على كرسي بلد افريقي شاسع، محوري ومفتاحي (بعد الاستئذان من فاروق الشرع وبثينة شعبان) موقعاً ونفطاً، ومد يديه الطويلتين، وعضدهُما “الفلوس” الغزيرة والسائبة واستباحة القتل من غير قيد، إلى بعض أنحاء الأرض، يبحر في الكلام والمخاطبة من غير دفة ولا شراع ولا بوصلة أو خريطة. فينتقل موج الخطابة المتلاطم بين الجهات كلها، ويتقدم وينكفئ على عقبيه، وييمم شمالاً ويحيد جنوباً، ويبدي ويعيد، ويقطع البداءة والإعادة، ويخلط الواحدة بالأخرى. ويوعد ويتهدد ويستجدي ويستدرج ويهيب ويسلّم وينزل ويعد. وينتصب ويتهالك، ويبدل نظارتيه، ويتفقد قبعته طويلاً، ويسوّي حمالة ثوبه العريضة بين كتفه وخصره. ويقطع الخطابة بقراءة مخطط خطبته، ويشرب من كوب ماء يأتي بها أحد خدمه، ويقرأ في قانون العقوبات الليبي “قبل الثورة”. وتقتصر قراءته على “إعدام”. ويكرر اللفظة في ختام جمل تصف الجرائم قبل النص الواحد على عقوبتها. ويفرح باللفظة فرح الولد بلعبة يخبئها تحت غطاء يخفيها، ثم يشد الخيط فتظهر اللعبة بعد خفائها، وتهتز أعطاف الولد انبهاراً بسحرَيْ الخفاء والتجلي، واحتفالاً بولادة الكلام الذي يوقّع السحرين توقيعاً منظوماً، ويعاقب بين الساكن والمتحرك معاقبة “قانونية”. “إعدام”، “إعدام”، “إعدام”… وكأن هذا هو وجه المعنى وإيذانه وبشارته وعبارته المبينة.
وتتداعى الخطبة في هذا الموضع تداعياً مفاجئاً. فينعطف “القائد” صوب حوادث ووقائع دامية ومعاصرة، وقعت في العقدين الأخيرين، مثل مقتلة تيان آن مين ببكين في 1989، وقصف الدوما الروسية في 1992 (وأغفلها ملخص الخطبة). فيرويها رواية “روحانية”، ويستحضرها على نحو استحضار المسحور، أو المربوط الذي حل الجن حركات جسده وعبارات لسانه، خيالاته المعذِّبة. وراوي الكوابيس هذه يرى الآن وهنا ما يرويه. وتغشى رؤاه السوداء والليلية عينيه وكلماته. ويخبر الرجل المتصدع، على شاكلة الملك لير في عين العاصفة الليلية، المنفضين عنه وأعداءه المتكاثرين أخبار حملات قمع دامية جردها حكام طغاة دينغ هسياو بينغ في الصين الشيوعية، وبوريس يلتسين في روسيا النافضة عنها لتوها رداء الحزب الدولة الحديدي، وبيل كلينتون مزعوم هو من بنات دماغ الخطيب المحموم على متظاهرين عزل أو نواب معتصمين في مبنى الدوما. وإذا بلطخات ومعرات تصم سير هؤلاء الحكام وسجلاتهم “الإصلاحية” تنتصب علامات هداية ورشد وفقه يهتدي بها والي حركات السطو والاغتيال والخطف في أجزاء من العوالم العربية والإسلامية (وبعض الأوروبية، من طريق الجيش الجمهوري الإيرلندي و “كارلوس” القاتل الفينزويلي – الفلسطيني…). ويردد السائر على نهج القتل العمد على مسامع “رعيته” بشائر إردائهم بنيران قواته الخاصة و”فيلقه الافريقي”، وقوات أولاده، الساعدي وهنيبعل وخميس، وجحافلهم.
وفي الأثناء، بينما يرتجل الخطيب دعواته وتذكيره وتهديده ووعوده، ويتنقل بين الواحدة والأخرى على غير هدى ولا منطق، تُسرّي آلة التصوير عن المشاهد، فتترك الخطيب المفترض يغرق في أَجَمة خطابته ويتيه في شعابها المتشابكة، وتثبت صورها بوابة الثكنة، أو واجهتها، أو نصب الساعد والقبضة والطائرة الحربية. وتلم إلماماً خاطفاً بوجود أولاد دور الرعاية والجنود المتنكرين في زي مدنيين، وبهتافاتهم الناحلة وسواعدهم وقبضاتهم. ويبدد تعثر إلقاء القذافي، وتضييعه خيط كلامه، وعودته المكررة والآلية إلى مسائل سبق تناولها قبل لحظات، وتأتأته، تبدد هذه الإيحاء “الحربي” و “البطولي” الذي قصدت الصور الهزيلة الرمز إليه، والتمثيل عليه. فتنقلب المحاكاة “الثورية”، والبطولية الفاتحة، مشهداً بائساً ومتداعياً يؤديه امرؤ مستعار من مسرح صمويل بيكيت المقفر. فكأنه من “أبطال” “في انتظار غودو” أو “ختام اللعبة” المعفَّري الوجوه بالطحين، أسرى جرار مهشمة ومنزوية تقوم منهم محل الصدر والجذع والحوض والقدمين.
[اصل الاستبداد الإرادي
فالخطيب الذي يرى نفسه، في مدخل الثكنة الخربة التي قصفتها “القوة العظمى” قبل ربع قرن، وارثَ حرب عمر المختار على المحتل الإيطالي وانتصارات جمال عبدالناصر على الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة والجديدة وعلى “أذناب الاستعمار”، هذا الخطيب لا يرى الفرق بين “وقفته” الأخيرة وبين مواقف الأسلاف العظام، المحدثين والقدماء (عقبة بن نافع وطارق بن زياد وغيرهما من المحاربين والفاتحين الذين سمى باسمهم حامل راية “الفاتح من سبتمبر” القواعد العسكرية التي أخلاها الأطلسيون نزولاً على رغبة العقيد الانقلابي). وغفلته عن الفرق بين مسرحه الركيك والميلودرامي الآفل وبين مسارح الحروب والفتوح والأفعال التاريخية والدرامية الكبيرة قرينة بليغة وجارحة على هزال ما ينصب “الواحد”، على قول إتيين دولابويسي في السلطان المستولي، طاغية فرداً، وحاكماً بأمره ونهيه.
وكان لابويسي (1530- 1554) سأل عما يسوغ انقياد الناس إلى صاحب سلطان آمر وناه فيهم، وهم الكثرة والعدد والقوة والرأي واليد المنتجة، وهو أي صاحب السلطان في أحيان كثيرة، قليل الأنصار وخاوي الوفاض من القوة والرأي والتدبير. ويعزو المفكر السياسي الفرنسي رفع الطاغية إلى مرتبة السلطان الواحد، إلى “إرادة العبودية” والانقياد والتسليم، وذلك بإرادة ورغبة تلقائيتين لا مسوغ لهما مسوغاً “موضوعياً”، مثل ميزان القوى وكفاءة القائد وتفوقه، إلخ. فهو قد يكون “عبداً أجدع”، على ما جاء في بعض الحديث، أو رجلاً ضئيلاً وأشوه وأحمق وألثغ، على قول صاحبنا. ولا يحول هذا بينه وبين صدوع الرعية بسلطانه وطاعته، ورفعه فوق مرتبة البشر، وحله المرتبة “العظمى” والمنزلة السامية والمتألهة.
ويحقق “قائد الثورة” الليبي الرأي في أصل الاستبداد ا لإرادي والطوعي، على معنى التسليم والتصديق والاعتقاد. وخطبته الهاذية، والمشهد الميلودرامي والأوبرالي الهازل (والمأساوي) الذي اختاره ساحة ومعرضاً، بيان بليغ عن أركان سلطاته أو سلطانه. والبيان القذافي، شأن الأسطورة أو الخرافة ومقارنةً بالتجربة المعللة، “لا يُدحض”، وليس إلى إبطاله ومناقشته سبيل. فهو، من هذا الباب، شكلاً ومضموناً، مثال أنموذجي لخطابة (وخطابات أو مقالات) “القادة” العرب المتسلطين والمؤبدين. وهو مثال أنموذجي لأفعالهم وتصريفهم السلطة المؤبدة التي صنعوها، وتواطأت جماعات بلدانهم على صنعها والإذعان لها.
ولعل ركن السلطان المشروع والمطلق الذي ينسبه إلى نفسه معمر ابن المجاهد البطل محمد (“من ابطال القرضابية وتالا… المدفون في الهاني”) ابن عبدالسلام أبو منيار (“أول شهيد سقط فوق الخمس في أول معركة عام 1911”)، وابن أخي الشيخ الساعدي (“في مقبرة منيدر”) هو تحدره من نسب بطولي “ثوري”، يرتقي بدوره إلى اصل متأله. وما قد يبدو في الكلام السائر مجازاً، وقولاً مرسلاً على عواهنه، ينتصب في خطابه “القيادة” كتلاً من صور وألفاظ وأفكار أو أحكام يترتب عليها إنشاء عالم الحياة التاريخية والسياسية على مثال وشكل بعينهما. وتعريف الرجل نفسه “قائد ثورة”، ونفيه عنه، تالياً، الرئاسة أو غيرها من ألقاب الانتداب أو التكليف أو التمثيل، هذا التعريف يقصد به “قائد الثورة” تخطي الوسائط السياسية، والهيئات والمؤسسات، إلى جوهر السلطة الذي لا اسم له، ولا تمثيل عليه. وذلك أن الاحتكام إلى الرئاسة، أو إلى الوسائط السياسية والهيئات، وإلى الانتداب والتكليف، يلزم عنه تقييد الرئيس ومتقلدي المناصب بقيود تعاقدية وإجرائية دستورية.
وهذا ما يسارع الوالي المتصدع والمتداعي إلى نفيه أشد النفي. فيُتبع تجديد صفته “قائد ثورة” بالإيضاح: “والثورة تعني التضحية دائماً وأبداً حتى نهاية العمر” عمرِ قائد الثورة وأعمار أبنائه وأحفاده إلى حين انقطاع ذراريهم بمشيئة علوية ربانية (“إلى الأبد”)، في مقابلة ونظير “أجدادي” و “أجدادكم”، و “دماء أجدادنا” الواحدة، أنا وأنتم. وعلى هذا، فالثورة، وصنوها القيادة، لا تقتصر على الإنشاء والتأسيس، أي على الولادة. ومن بعد الولادة على تحرير الأولاد من والديهم، ومن ولايتهم عليهم، وتركهم يبلغون رشدهم وأشدهم أحراراً من غير وصاية أو ولاية مزمنة. فالإنشاء والتأسيس الثوريان لا ينتهيان إلى حد أو وقت. وهذا ما مثلت عليه وتمثل الأسر الحاكمة “الثورية” و “التقدمية” العسكرية، من اليمن إلى تونس، وبينهما علناً أو وراء الستارة العراق (الصدامي بعد العارفي والقاسمي) وسوريا (الأسدية أبداً ودوماً) ولبنان (الحزب اللهي الحرسي) ومصر (الناصرية) والجزائر (البومدينية).
[وصلة العالمين
ومرجع الإنشاء والتأسيس الثوريين والمرسلين لا إلى حد أو غاية هو التضحية، على قول صاحب النظرية الثالثة، و”قبلة” حركات التحرر العربية والإسلامية والعالمثالثية الثورية وقيادييها ومقاتليها ومناضليها وصحافييها وباحثيها وجامعييها وطلابها وروائييها وشعرائها ونقادها وناشريها. والقيادة الثورية، “دائماً وأبداً” مرة أخرى، أولها تضحية بالنفس والدم والأهل وملك اليمين. ومن يضحي بهذا كله وهو لا يُحصر، ويهبه هبة لا يرجو لها ولا عنها مقابلاً أو ثمناً، يشترط لقاء هبته السخية والكلية مكافأة مثلها، لا يحصر سخاؤها ولا قيد على كليتها. والمكافأة المستحقة هي القيادة الثورية أو الولاية الكينونية، في مصطلح الخمينية ووكالاتها، “حتى نهاية العمر” والأعمار المتحدرة من العمر الأساس والأول. والقيادة الثورية، على الصور القذافية والناصرية والصدامية والأسدية والبومدينية والصالحية والبنعلية، إنما تستحق المكافأة العظيمة وربما الباهظة هذه لأنها فعل يصل عالم الخلق، ودنيا الإنسيين والشاهد، بعالم الغيب والميعاد والبقاء، على ما لا يصرِّح “العلمانيون” ويجهر العرفانيون والمتألهون الخمينيون. وقائد الثورة، المقاوم والمجيد والمقاتل والحر والمجاهد والتاريخي والطاهر والفارس والشهيد “في النهاية”، هو هذا كله في آن، وجامع أسمائه الفاضلة (ولولا الفتنة لما اقتصرت على الفضيلة وتجاوزتها إلى الحُسن)، لأنه عائد من مجابهة الموت، ويعشق “عادة” الشهادة، وقافل منتصراً ومظفراً ومعاهداً.
و”ليبيا شجرة نحن نتفيأ ظلالها لأننا غرسنا(ها) بيدنا وسقينا(ها) بدمنا”. فالراجع من الموت حياً ومخضباً بدم التنين أو أبي الهول، أو الشيطان الاكبر، ليس حياً كسائر الأحياء وسوادهم وعامتهم، بل هو مبتدئ حياة، ومتعهد حياة وارفة وظليلة بسقايته الشجرة (الأمة) بدمه ودم أبيه وعمه وجده الجاري في عروقه وعروق أبنائه وبنته وأنسبائه الحقيقيين والوهميين. والخطبة المعمرية والعربية النسبية لا تنفك تروي سيرة الموت والبطولة المجيدة. وفصلها الأول، بعد فصولها الأولى التي سطرها الجد والأب والشيخ العم، مداهمته إذاعة بنغازي، وإعلانه “البيان الأول لتحرير ليبيا المحتلة” في “الفاتح العظيم” من ايلول (سبتمبر) 1969. وعلى من قد يستهين ببطولة المداهمة، وإعلان بيان التحرير، أن يعلم هول ما حرر منه البطل والقائد مذذاك “الليبيين والعرب والمسلمين” (وافريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا والعالم، على قوله في مواضع متفرقة ومتواردة من الخطبة). فهو حررهم من “5 قواعد أمريكية (و) 20 ألف إيطالي يحتلون الأرض الليبية من مصراته إلى ترهونة إلى صبراته تحت السلطة المدنية الطليانية (…) وكانت البطنان محتلة بالكامل بالقوات البريطانية، (و) طبرق ترزح تحت السيطرة البريطانية الكاملة”.
والحق أن هذا غيض من فيض. وقبل المداهمة وإعلان بيان التحرير كانت “الأرض الليبية” تنوء بأسباب الدمار وأعوانه ودواعيه: وهي “كل الدكاكين والورش وكل الخدمات، وعندهم (الطليان والأمريكان والبريطانيين) أعضاء في مجلس النواب ليبيين مرتشين”. وفوق هذا، ناءت الأرض الليبية بالأسماء الأعجمية ومهانتها الفظيعة: “معسكر المستشفى في بنغازي، هذا كان معسكر ويفل، مكتوب عليه اسم ويفل”. والمداهم العظيم وحده “(تجرأ) على أن يشطب على كلمة ويفل”. ومعسكر الفويهات كان اسمه ديغاروستا. والبطل العربي بعث من رميم العجمة ورمادها البارد جمرة العربية ولألاءها، اسماً وحالاً وحياة. والمداهم الجريء وحده، وصحبه الخلص وهم فيض منه وفرع، أعلن من ميدان الجلاء في طرابلس ولا يقدح في عظمة الأمر أنه إعلان، وبقي إعلاناً “ان القتال سيكون من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت، ضد القوات الأمريكية… ما لم يتحقق الجلاء”. وكفى الله المؤمنين القلائل شر القتال، وكفاهم “فقصَ وجه البارود، وتفجيرَ (القنابل)”. فجلت القواعد الأمريكية الخمس، والقوات البريطانية، وجلا الـ20 ألف إيطالي (مدني)، وتحررت ليبيا من الاحتلالات، ومن “النكسة والعودة للوراء والخزي والعار”. وهي، على هذا ومذذاك وإلى يوم الدين والنشر، غنيمة غالية، وطُعمة محرريها وحدهم. فهم، أو بقيتهم الباقية والمقتصرة على الرجل وذريته وفروعه، ضحوا بأنفسهم، وأعدوا العدة وأعلنوا، حين لا يعلم أحد “أين كنتم (أيها المتظاهرون المحتجون)؟ أين كان آباؤكم وأجدادكم أنتم يا مرتزقة…؟ لم تقولوها أنتم أبداً ولا آباؤكم يا شذاذ الآفاق، أين كنتم أنتم؟!”.
فمن لم يضحّ بنفسه، أو لم يعزم عزماً أكيداً على التضحية بها ولم ينوِ الشهادة على قول قائد الثورة الليبي، ومرشد الثورة الإيراني وحرسها وباسيجها وأنصارها وقواتها الخاصة والعامة هذا لا حق له في الحكم والقيادة، أي في الولاية البطولية والمقدسة والحرام. والحق في الولاية حصري. ولا يرى السلطان الليبي الآفل حرجاً في نفيه من هذا الحق الأبناء والآباء والأجداد، ولا الأولاد والأحفاد والأرحام (الفروج والأعراض)، والأموال بديهة أو “فلوس البترول” التي يزعم قائد الثورة الطاهر والحر انه عيي وهو يقول لليبيين “خوذوها بيدكم، كل شهر خذوا فلوس البترول وتصرفوا فيها” (بينما تتواتر الأخبار والأرقام عن أصول “سيادية” مودعة في المصارف والبورصات باسم “القائد” وذراريه وفروعه تبلغ قيمتها 100 مليار دولار). وتتجدد الولاية بتجدد “العدوان” المتناسل على باب العزيزية، ومربعها الأمني والاستخباري. وتحشد الرواية الخرافية المعمرية الأعداء من كل حدب وصوب، وهو يحصي العشرات منهم بالاسم: جبروت امريكا، وجبروت بريطانيا، والدول النووية، وجبروت حلف الأطلسي، وفرنسا “في الجنوب”، والسادات، وهبري (التشادي)، وهيلاسلاسي (الإثيوبي)، وبورقيبة (التونسي)، والنميري (السوداني)، إلى “الرجعية وعملاء الاستعمار” وإسرائيل، وغيرهم كثر.
[الدولة المزدوجة
وعلى صورة الرواية الأسطورية والفلسفية المتواترة والسائرة، وهي رواية حربية بدوية الأصل ورعائية، يسود المقاتل البطل والمقدام، العازم على التضحية والفداء شأن القائد و “طبقته”، القاعدين عن القتال، و “طبقة” المرتزقة. وهؤلاء لا يُعلم أين كان آباؤهم وأجدادهم، ولم يعلنوا ان القتال سيكون من شارع إلى شارع، ولا فقصوا باروداً ولا فجروا قنبلة، ولم يناطحوا الطائرات الأميركية، ولم تقصفهم هذه ولم “تدق بيت (هم)” ولم تقتل أولادهم. وهؤلاء، أي الكثرة الغالبة والساحقة، هم “رعية”، على معنى غيبته ذاكرة “ديموقراطية” على رغمها، واطرحت منه الترتيب الأخلاقي والسياسي والعرقي والبيولوجي. فالرعية هذه، بإزاء طبقة الحكام الأشراف والسادة (أو طبقة “أشرف الناس” و “المقاومة”، في المصطلح الخميني والبعثي المسلح)، هي طبقة لجبة تلم في صفوفها من لا يحصون عدداً: الدراويش والملتحين والمعممين والمنتكسين وأهل الحضيض وأشباه الليبيريين واللبنانيين والجرذان والمأجورين وشذاذ الآفاق والفئران والشذاذ والمتشدقين والمستسلمين ومتعاطي الحبوب والمغيرين والمجرمين والصغار والمقلدين والمرضى والمندسين والمرتشين والقاعدين في الخارج والحراقين والمَخزيين والمرتزقة وغير القائلين (أن القتال سيكون…) والسذج المضحوك عليهم والسراقين والعويلة (“العيال” في المصرية) والمدوَّخين والسكرانين والمعزولين (عن أهلهم).
وهؤلاء الرعية، وفوقهم “طبقة” الأشراف والقادة والأبطال والمقاومين (ولو اقتصرت على الصلب المعمري وذريته)، لا يرتبطون برابطة الدولة وأبنيتها وقوانينها، ولا برابطة المجتمع وعلاقاته ومعاييره. فهؤلاء جبلوا من نور، على قول أهل العصمة والإمامة في أنفسهم، وأولئك جبلوا من طين. والحرب “الأهلية” هي ميزان “السياسة” في بلد هذا شأن طبقة الحكام الأشراف وطبقة الرعية المحكومين فيه. فلا محل والحال هذه ولا معنى لتقسيم العمل السياسي وهيئاته وقيوده (الرئاسة والحكومة والنيابة والإدارة والقضاء والقوات المسلحة النظامية…)، أو لتقسيم العمل الاجتماعي (فالعاملون “شركاء لا أجراء”). و “مجتمع الحرب” أو “مجتمع المقاومة” هذا، على قول خميني وحرسي عتيد، يطرح قيود الحقوق والقوانين والهيئات والمؤسسات (الوطنية والدولية والاقليمية)، ويدوسها ويزدريها ويخشاها. فهي تفترض فرقاً بين الدولة وبين المجتمع، وبين الحكام وبين المحكومين، وبين العام وبين الخاص، وبين الجماعة وبين الفرد، وبين القوانين وبين الحقوق.
وعلى هذا، فليس قول معمر القذافي، في ضوء ما تقدم، أنه ليس رئيساً لتصح فيه الاستقالة أو يصح فيه القتل فولكلوراً فحسب. فهو ليس رئيساً، بل هو قائد ثورة وبطل ومقاوم و”تاريخ مجيد على ما تلقب قادة الانقلابات العرب ويتلقبون كلهم”، لكي لا تجوز فيه الاستقالة أو الإقالة، وتبطل محاسبته ومراقبته، ويعطل تقييده. وهذه، الاستقالة والإقالة والمحاسبة والمراقبة والقيود، تفترض الفروق التي تنفيها الثورات والانقلابات “التقدمية” والعسكرية العروبية. وما يسوغ “لا رئاسة” القائد المزعومة يسوغ قيام المرتزقة الليبيين والعرب والافريقيين والأوروبيين، وقوات الساعدي وهنيبعل وخميس القذافيين الخاصة، محل القوات المسلحة النظامية الوطنية، من غير تبعات أو مسؤوليات هذا المحل. فما لا يتعين في محل ووقت وصلاحية ومبنى، أي في دولة وسلطات وهيئات واختصاصات، من اليسير أن يتخفى وأن يتبدد في “ليل المطلق الأليل والأجوف”، وفي مساخره المسرحية والميلودرامية الدامية. والزعم ان “الدولة”، أي القائد وحاشيته وأعوانه، هي الشعب “المصعد” أو المرتقي إلى سدة الأمر النافذ، يتستر على ما “الشعب يريد” رؤيتَه وتشخيصه وتظهيره وتقسيمه وتفصيله وإخراجه من الإبهام المعمّي وعَرْضَه على العلن والمحاسبة والفحص. ويبرر دمج “الشعب” في “الدولة” العربية (وفي كل دولة) ازدواج الحكم والسلطة والإدارة والقوة العسكرية والقضاء والقانون ازدواجاً قاتلاً. فإذا لم تكن الدولة (نيابة عن الشعب وشريطة مراقبته) هي ولي أمر الجيش الوطني، والمخولة وحدها إعلان حال الطوارئ، وإعلان الحرب، ورعاية السلم المدني، ازدوجت الدولة، وتناسلت “دولاً” و”شعوباً” و”جيوشاً” و”حروباً”.
وفلسفة “ثورة الفاتح العظيمة”، على نحو ما تجلوها مقالات قائدها، وجلاها تاريخ ليبيا المأساوي، تلقي ضوءاً فاضحاً على تواريخ العراق وسوريا وفلسطين ولبنان ومصر واليمن والجزائر وإيران، الدامية والمحبطة. فهذه البلدان والمجتمعات نهب لرواية بطولية أسطورية ترفع القيادة المحاربة والمجاهدة فوق الرعية المحكومة، وتقسم “الشعب” حزبين وأهلين متقاتلين، وتلغي الدولة وهيئاتها وسلطاتها وقوانينها وتبددها في ولاية مقدسة ومطلقة يتوارثها الأولاد عن الآباء في أصلابهم، وترسي ازدواج الدولة والشعب والمجتمع كيانين كاذبين يستحيل تشخيص أحوالهما ومناقشتهما وتحسينهما من طرق عادية آمنة، معلومة ومعتادة. فالقائد من الرئيس، تلقب بلقب الرئاسة أم لم يتلقب، هو بمنزلة الميليشيا الأهلية (أو القوات الخاصة أو الثورية أو الحرس الخاص أو الجمهوري) من الجيش الوطني، وبمنزلة الحزب الواحد أو الطليعي والحاكم من المجلس النيابي والحكومة والإدارة، وبمنزلة عصبية القيادة الأهلية من المجتمع “السوي” وجماعاته وتكتلاته وطبقاته وبمنزلة أجهزة الاستخبارات والعمليات الخاصة من العلاقات الخارجية، والاغتيالات من العمل السياسي والديبلوماسي، والسلاح الذري من العلاقات الدولية…
والقائد والميليشيا الأهلية الخاصة والحزب الواحد أو الطليعي وعصبية القيادة، ورواية “الثورة” البطولية والأسطورية التي تقيم الحدود والمراتب والأدوار وتصنعها وتؤبدها، هذه كلها تحتاج إلى خفاء صفيق تتستر به على أحوالها وأفعالها وعلاقاتها وغاياتها وأفكارها وأموالها. فالتملص من العلانية والمناقشة والمراقبة والمنازعة وتبديع المعارضة، هي سمات الديكتاتوريات “التقدمية” والشعبوية العربية، مالت سياستها الخارجية إلى السياسة الأميركية أم أقامت على “مناهضة الإمبريالية” و”تحرير فلسطين” والحرب الوجودية على اسرائيل واليهود، وعلى عالمثالثية (“محايدة”) مضمرة أو معلنة. وتقود مجتمعةً، على ما هي حالها غالباً، إلى محاكاة أبنية الدولة والسياسة محاكاة ظاهرة وصورية، فيما هي تبطن تفلتاً تاماً من موجبات الدولة والسياسة المفترضة.
وردت الحركات الوطنية المدنية والديموقراطية، العربية الوليدة، على سمات الديكتاتوريات الشعبوية العربية المتحدرة من انقلابات عسكرية “تقدمية”، ببرامج ومطاليب إجرائية شكلية، وقانونية دستورية، تفضي إلى فصل السلطات، وإضعاف رأسها الجامع والمركزي الساحق، وحل الأجهزة الموازية والخفية، وإلغاء الازدواج، وتعزيز العلانية، والإقرار بالكثرة السياسية والاجتماعية وبحقيقة خلافاتها ومنازعاتها ومناقشاتها وبضرورة تمثيلها وجدوى هذا التمثيل… وهجرت الحركات هذه القضايا “الجوهرية” الدولية والقومية والعسكرية والاجتماعية الطبقية. ورعت، على حياء وخفر، إجماعاً مضمراً ومائعاً على اعتدال وسطي ومسالم، لا يرتب عداوة أو حرباً أو انعطافاً باهظاً. وهي، إلى اليوم، لا تظهر حرصاً على صوغ رواية أسطورية وبطولية تحل محل الرواية المجهضة والمدمرة، المتخلفة عن “ثورات” الديكتاتوريات المتصدعة والآفلة. والديموقراطية لا تعفي من الهوية الوطنية، ولا تعصم من العداوات والصداقات والحروب والاحلاف، ولا تلغي المواقع والأدوار والمصالح الاستراتيجية، بل تحمل هذه على مداولة حادة. ولا يحول دون إفضاء المداولة إلى انقسام أهلي بنيانٌ سياسي ديموقراطي متماسك لا ريب تضعه هذه الحركات نصب عينها.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى