صفحات العالم

الحرس والعائلة والتعذيب… هكذا يتشبث الدكتاتور بالسلطة

جنان جمعاوي
في صعودهم متشابهون. وفي سقوطهم أيضاً، وكذلك في ما بين بين. يقبضون على السلطة غالباً في انقلاب أو مؤامرة، إن لم يطاوعهم القدر في إقصاء من سيخلفونه. يستبدون، يقمعون، ينكّلون، يعذبون. لهم في ذلك أدوات وفصول، وأزلام. ثم تحين ساعة قطاف رؤوسهم.. ولو بعد حين.
للعالم العربي حكاية طويلة مع الاستبداد.. أو الاستبدادات، إن صح التعبير. ولقد آن موعد نهايتها، أو هكذا يبدو. تونس، مصر.. وليبيا على الطريق. وربما لن ينتهي المشوار هنا. ولكن كيف يحتفظ المستبدون بالسلطة؟
جون باري وكريستوفر ديكي، فندا في تقرير نشرته مجلة «نيوزويك» الأميركية ما أسمياه «خطة حماية الدكتاتور»، تعتمد ببساطة، على «الحرس الامبراطوري (الخاص)، والعائلة المقربة، والتعذيب».
لدى سقوط الطغاة.. تُفتح أبواب غرف التعذيب، لتفضح دماء الضحايا جرائم الجلادين. غرف التعذيب في تونس ومصر لم تُفتح بعد. المستبدون رحلوا، ولكن عناصر الحرس «الإمبراطوري» لا يزالون هنا. الجيش والشرطة السرية وكتائب المخبرين والاستخباراتيين والمحققين والجلادين لا يزالون هنا. هؤلاء، عندما واتتهم الثورة، اختاروا التخلي عن أربابهم، من أجل إنقاذ أنفسهم.
سقوط الطغاة، الأوائل على الأقل، كان أسرع من أن تتداركه إدارة باراك أوباما. سارعت لاحقاً إلى الترحيب بصعود الديموقراطية في الشرق الأوسط. هناك عائق واحد يطاردها. لأميركا سجل طويل في التستر سراً أو علنا على المستبدين في المنطقة.
عناصر الشرطة في ميدان التحرير في القاهرة واجهوا الثوار بقنابل مسيلة للدموع، أميركية الصنع. ليست الولايات المتحدة المذنبة الوحيدة هنا، هناك بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وروسيا والصين. هؤلاء جميعهم وضعوا كل بيضهم في سلال المستبدين العرب.
قد يبدو غير مبالغ القول إن كل دولة عربية تحكمها عائلة هدفها الأوحد هو البقاء في السلطة. «ربما باستثناء لبنان، ليس في جعبة التاريخ نموذج واحد عن رئيس تنحى طوعاً»، كما قال الكاتبان في «نيوزويك». في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان الانقلاب الطريقة الأكثر شيوعاً لتغيير نظام. 55 محاولة انقلاب بين آذار 1949 وكانون الأول 1980، نصفها تقريباً كان ناجحاً. «هكذا تعلّم المستبدون الجدد من مؤامراتهم الناجحة. أبقوا شعوبهم معزولين ليس عن العالم الخارجي فحسب، ولكن عن بعضهم البعض». صدام حسين ذهب بعيداً عندما منع العراقيين من اقتناء آلات الطباعة الخاصة، «خشية أن تساعد أعداءه على تمرير مناشير ضده».
العنصر الأساسي لبقاء المستبدين في السلطة، يكمن في ما وصفه الباحث في مؤسسة «راند» التابعة لوزارة الدفاع الأميركية جيمس كوينليفان «مضادات الانقلاب».
في دراسة أعدها في العام 1999، فصّل كوينليفان الدعامات الأساسية للدكتاتوريات. هي أولاً: تشكيل دائرة داخلية وثيقة الصلة بالنظام، تضم «العائلة والولاءات الإثنية والدينية»، تماماً كما في المافيا، حيث الرفاق يحاولون حماية الزعيم من أجل حماية أنفسهم.
ثانية هذه الدعامات، بحسب الباحث في «راند» هي «خلق طابور عسكري متفانٍ لحماية النظام»، في حين أن الدعامة الثالثة تكمن في «الإبقاء على وحدات شرطة سرية، وخدمات الاستخبارات».
لا يغفل كوينليفان دور الجيش النظامي، «فهو أيضاً، لا بد أن تُشترى ذمته»، عبر تكتيكات، عدد منها «تكتيكا يقضي بإبقاء المسؤولين العسكريين مشغولين وراضين مهنياً من خلال تعزيز خبرتهم»، بمعنى «إرسالهم إلى كليات عسكرية أجنبية».
هناك تكتيك آخر يقضي بمنح المسؤولين ما يكفي من المزايا الخاصة لكسب المال. في مصر، انتفع الجيش من صفقات العقارات، ومما أسمته وثائق سربها موقع «ويكيليكس» «شركات مملوكة من العسكر»، غالباً ما «يديرها عسكريون متقاعدون، ينشطون في مجالات صناعة زجاجات المياه وزيت الزيتون والاسمنت والبناء ومجال الفنادق ومصانع الوقود».
خلق وضع «مضاد للانقلاب» لا يأتي بلا ثمن.. غالٍ. الدول المنتجة للنفط في المنطقة بإمكانها تحمل نفقات خلق مثل هذا الوضع، خصوصاً عندما يكون سعر النفط محلقاً عالياً. لكن «الأنظمة التي تفتقر إلى الموارد النفطية تميل إلى الاعتماد على أسيادها في الدول الأجنبية»، بحسب تعبير الكاتبَين في «نيوزويك».
فما ان قلصت بريطانيا وجودها في الشرق الأوسط في السبعينيات والثمانينيات، حتى ملأت الولايات المتحدة الفراغ. مؤسس السعودية، عبد العزيز ابن سعود، أبقى على البريطاني سانت جون فيلبي مستشارا شخصيا في العشرينيات والثلاثينيات. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، قرر السعوديون أن الأميركيين جديرون أكثر بالثقة، وعملوا عن كثب مع قادة وكالة الاستخبارات المركزية «سي.أي.آيه» في الرياض، بمن في ذلك جون برينان، الذي أصبح الآن مسؤول مكافحة الإرهاب في إدارة أوباما.
بالنسبة للناشطين الموالين للديموقراطية في المنطقة، يعد تدخل السي.أي.آيه، مسألة خطيرة. بصماتها تُقتفى أينما كان. فمنذ عهد إدارة بيل كلينتون، تعاونت واشنطن مع مصر والأردن وغيرها من الدول العربية «الموالية» في القبض على الإرهابيين المشتبه فيهم في دول ثالثة مثل ألبانيا وإيطاليا وغيرها، ثم في إعادتهم إلى أوطانهم لمواجهة الاستجواب والتعذيب وحتى الإعدام. برنامج «الترحيل» هذا توافق مع حاجات الأنظمة، لأنه ساعد في إقصاء الأعداء.
ليس هذا سوى مجال واحد للنشاطات الأميركية السرية في المنطقة. واحدة من أكثر المهمات سرية هي عمليات الاستخبارات، التي تتمحور حول الحوار مع اللاعبين الأساسيين في الشرق الأوسط. فعلى مدى سنوات، لم يكن لدى واشنطن أي تعاطٍ مع ياسر عرفات أو منظمة التحرير، ولكن السي.أي.آيه كانت على اتصال وثيق مع قادة المنظمة، بمن في ذلك العقل المدبر وراء منظمة أيلول الأسود علي حسن سلامة.
مسؤولو السي.أي.آيه صقلوا علاقات وثيقة مع الملك الأردني الراحل الملك حسين، وساعدوه في تأسيس «قسم الاستخبارات العامة»، الذي يحصل، بحسب مصادر مختلفة في واشنطن، على التمويل من الأميركيين وحتى يومنا هذا.
في السبعينيات والثمانينيات، عرف هذا القسم «بمصنع الأظافر»، نسبةً إلى تقنية تعذيب اشتهر بها. في التسعينيات، عمل الملك مع سي.أي.آيه من أجل التخطيط لانقلاب على صدام حسين، كما أنه ساعد في جمع معلومات استخباراتية في البوسنة. ثم لعب هذا القسم دوراً بارزاً في صعود الملك عبد الله إلى سدة الحكم بعد وفاة والده في 1999. لكن الملك الشاب أقال العديد من قادة هذا القسم، مذاك، ليبدد، على الأرجح، ولاء القسم له. وهذا قد يكون سبباً يدعو للقلق بشأن استقرار الأردن. ومع ذلك، تقول مصادر استخباراتية أردنية إن الملك الشاب لا يزال يمنح الأذن الصاغية لعناصر السي.أي.آيه.
مبارك اعتمد نهجاً آخر، فقد عمل على ألا يحصل أي من المسؤولين في نظامه على الشعبية الكافية للقيام بانقلاب. منافسه الوحيد الظاهر على رأس العسكر كان محمد عبد الحليم أبو غزالة، الذي شغل منصب وزير الدفاع في الثمانينيات، والذي ساعد النظام في تسيير الدبابات في الشوارع بعدما خرجت التظاهرات في العام 1986. قوة أبو غزالة كانت السبب الذي دفع مبارك إلى إقصائه في العام 1989.
أما وزير الدفاع المصري منذ العام 1991، محمد حسين طنطاوي فبدا شديد الولاء لمبارك، لدرجة أنه وصف في إحدى وثائق «ويكيليس» بـ«دمية مبارك». ولكن، عندما دقت ساعة الحسم، ليختار بين مستقبله الخاص ومبارك، اختار طنطاوي التخلي عن سيده، ليبدو الآن وكأنه الرجل الذي سيحدد ما إذا كان الجيش المصري سيساعد في دفع مصر نحو مزيد من الحريات، أو أنه سيدافع ببساطة عن مصالح «مجمع الصناعات المدارة عسكرياً».
إذاً، هكذا يحتفظ المستبدون بالسلطة أجلاً طويلاً. ولكن لماذا يختار بعضهم اللجوء إلى العنف المفرط، فيما يؤثر آخرون استخدام بعض العنف، قبل أن يقرروا خلع أنفسهم، فراراً أو تنحياً؟
وحدة «خدمة الاستخبارات» في مجلة «الايكونوميست» البريطانية، أجابت عن هذا السؤال. بالنسبة للمجلة البريطانية «العنف يفيد فقط إذا كان شاملاً»، بمعنى أن «الخسائر البشرية في الصفوف المدنية تشجع غالباً المتظاهرين على الثورة ضد الظلم الذي يرونه في سقوط رفاقهم. ولكن إذا كانت الخسائر هائلة أو أكثر، فمن المرجح أن يدرك المتظاهرون أن الدولة تعني الأعمال، وهي موجودة لتبقى».
كانت هذه هي الحال في 1991، حسبما روت «الايكونوميست»، فما ان «تمكن صدام حسين من استخدام أسلحته، حتى فعل. فداحة الدمار كانت فظيعة، ومن تعاطف مع الثورة كان مصيره العقاب. آنذاك، تم تدمير حتى أشجار النخيل (10 ملايين شجرة في البصرة وحدها) وتم تجفيف المستنقعات، من أجل منع المتمردين من اللجوء إلى محيطها، ومن أجل معاقبة العراقيين المتواطئين مع الثورة، وذلك عبر تدمير ماشيتهم».
لكن ذلك يعتمد على إرادة الجيش وعزمه على تنفيذ أوامر القذافي.
مناصرو المملكة العربية السعودية في البحرين يصورون الثورة على أنها ثورة شيعية، في محاولة للاحتفاظ بدعم مجتمع السنة في المملكة. التكتيكات نفسها، ولكن ببعد «اثني»، تم استخدامها في الأردن. فقد طرد الملك عبد الله رئيس الوزراء الفلسطيني الأصل واستبدله بآخر أردني. يمكن هذه الخطوة أن تلعب على الوتر «الاثني» في الأردن، لتزيد من دعم قاعدة المجتمع الأردني للنظام.
أما العنصر الأخير الذي يحدد ما إذا كان الدكتاتور سيلجأ إلى القوة المفرطة أم لا هو «رجحان كفة إرادته للاحتفاظ بالسلطة على حساب رغبته في قيادة الرأي العام العالمي».
ليبيا عانت لسنوات طويلة من عقوبات دولية. وقد يرغب القذافي في تغذية علاقاته مع أوروبا والمجتمع الدولي، ولكنه «لن يقوم بذلك على حساب بقائه الشخصي»، بحسب «الايكونوميست». الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك «تداعى أمام الضغط الدولي، الذي كان، جزئياً، وراء إحجامه عن استخدام القوة المفرطة». في المقابل، يبدو أن القذافي «لا يهتم كثيراً بالضغط الخارجي لأن الدمار قد حصل بالفعل.
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى