ثورات شعبية تضع المعارضة على المحك
زيد يحيى المحبشي
نسائم التغيير في تونس ومن بعدها مصر, أعادت على الأقل إلى قاموس الحياة السياسية العربية كائناً سياسياً اسمه “المعارضة”, بعدما كان نظاما “بن علي ومبارك” يفخران وباعتداد كبير, بأنه ليس في بلديهما شيء إسمه معارضة، بل – فقط – مجرد عملاء للخارج.
ثورة التغيير الشعبية أهدت المعارضة أيضاً هدية خلع رأس النظام, وهو أمرٌ ما كانت لتفعله من تلقاء نفسها, لقلة حيلتها وتشتتها وربما لضعف تمثيلها في الشارع, كما أجبرت النظامين على الجلوس مع قوى وأحزاب, لم يعترفا بها يوماً, ولم يكن من الممكن تصورها قبل اندلاع الثورة الشعبية.
لقد أعادت الثورة في كلٍ من تونس ومصر بعث الروح في جسم المعارضة المنهكة بخلافاتها الداخلية والخارجية, إذ لأول مرة تنجح قواها الرئيسية بمختلف أطيافها وتوجهاتها في إصدار بيانات تساند الاحتجاجات الشعبية وتتبنى مطالبها, ولم تغب عن ذلك القوى التي ظلت لعقودٍ من الزمن, محظورة وعُرضة للقمع والتعسف والتنكيل, وكان الاشتراك معها في النشاط السياسي, خط أحمر رسمته الدولة والتزمت به أغلب الحركات السياسية في البداية على الأقل, إلا أن تصاعد وتيرة الغضب الشعبي وارتفاع درجة الوعي والثقافة الوطنية وارتفاع الأصوات المنادية بحماية الوطن من الاحتراق وصون الدماء الوطنية, كان كافياً لإبراز الوحدة الوطنية لجميع التيارات والقوى, وهو ما كان له عظيم الأثر في تعضيد المد الشعبي ووحدة الهدف وعدم تجزئة المطالب,وفي تفويت الفرصة على السلطة لاستعداء قوى المجتمع الحية بعضها على بعض, مفتتحةً بذلك عصراً عربياً جديداً, يتاح فيه الجميع بين الحرية والحقوق وبين السيادة والمواطنة, بوسائل سلمية “لا عنفية” وبإرادة شعبية داخلية محضة، وهي واحدة من أهم الدلالات التي أثارتها رياح التغيير التونسية والمصرية على حدٍ سواء, بعد أن أدركت قواها الاجتماعية أن الحلول التي تأتي من الخارج لا تشكل ضمانة للحكام أو للمعارضات معاً, بل ستؤدي إلى إضعاف الهوية والوحدة الوطنية.
المعارضة التونسية والمصرية اليوم أمام فرصة ذهبية لدخول التاريخ مجدداً من بابه الواسع ليس بالاحترام فحسب، بل وبأن تُحب, فهل ستكون هذه المرة جاهزة لالتقاط عطايا شعوبها الأصيلة؟ وهل ستكون قادرة على جمع صفوفها وتوحيد كلمتها حول برامج إصلاحية جادة, وفق معايير ديمقراطية حقيقية تنقل شعوبها من العالم القديم إلى العالم الجديد، من حكم الفرد والعائلة والعشيرة والحزب والجهة إلى حكم الشعب وكرامة الفرد، حكم المؤسسات والقانون، حيث تُحترم كل الحريات والحقوق على أساس المساواة والمواطنة والتداول السلمي للسلطة والتعددية الايجابية, وصولاً إلى تحويل الثورة من مجرد غضب شعبي عارم إلى عمل عقلاني حكيم, يقيم أنظمة ديمقراطية حقيقية؟ على الأقل ذلك ما يحلم به المفكر التونسي راشد الغنوشي, وهو حلم يشاركه فيه غالبية مُفكري تونس ومصر, لكنه يظل مرهوناً –حسب اعتقاده- بمدى قدرة المعارضة على الارتفاع إلى مستوى الحدث وتعالي زعمائها عن حظوظهم الشخصية ومصالحهم الحزبية وخلافاتهم الأيديولوجية, بما يسمح بتلاقيهم للاتفاق على إقامة البديل الديمقراطي المنشود, تماماً كما فعلت عشرات المعارضات في أوربا الشرقية, عندما اتحدت فكان اتحادها إيذاناً بمولد أنظمة ديمقراطية حقيقية, أعادة لشعوبها الحياة من جديد, وحتى لو فشلت المعارضة التونسية والمصرية في صناعة البديل فنزا على السلطة مرة أخرى نازٍ جديد بتدبير خارجي، فستكون على الأقل في موقف يجعلها قادرة على استخدام حق الفيتو ضده, لانتزاع حقوق الشعب من بين مخالبه وفرض الإصلاحات الديمقراطية التي نادا بها الشعب منذ أكثر من نصف قرن.
اليوم لم يعد مهماً الحديث عما إذا كان تحرك الاحتجاجات الشعبية، شعبياً بحتاً بانطلاقته ولحقته أحزاب المعارضة وتبنته أم العكس، فالذي لا شك فيه أن لقوى المعارضة خصوصاً ما كان محظوراً منها في السابق دورٌ لا أحد يستطيع إنكاره في تنظيم الاحتجاجات وتلقفها وإصدار المواقف المعاضدة لها والتخطيط لكل مرحلة من مراحلها وما بعدها، وفي مقدمتها القوى ذات القواعد العريضة، لأن المهم هنا ليس إسقاط رأس النظام بل إدارة ما بعد سقوطه، وبالمقابل كانت هناك أحزاب تقليدية وقوى تاريخية كرتونية وهامشية ظلت على الدوام تدور في فلك النظام, فإذا بها فجأة تحاول ركوب أمواج الثورة في أخر لحظة وقطف ثمارها وإدعاء تمثيلها والتحدث باسمها, رغم أنه لم يكن لها أي دور في تفجيرها, ولا يستبعد أن وثبتها هذه لم تكن بعيدة عن مخطط بقايا النظام, للانقضاض على الثورة, وإيجاد شرخ بين صفوف الجماهير المنتفضة والقوى السياسية المعارضة التي ساندتهم, وخلق نوع من البلبلة في وجهات النظر في أوساط الجماهير, لجعلها غير قادرة على التفريق بين العداء للأحزاب التقليدية التي تريد سرقة الثورة بعد نضوج الثمرة وبين الأحزاب ككل, والذي يصل أحياناً إلى درجة التخوين والشطب السياسي, ما يجعل من انطلاق الثورة بعيداً عن هذه القوى التآمرية عامل قوة وفي نفس الوقت عامل ضعف, لما أوجدته من فراغ سياسي فتح المجال أمام هذه القوى, لتوظيفه من أجل مصالح حزبية ضيقة أو المساومة مع بقايا النظام لتحديد وجهاته في المرحلة الانتقالية, بما يكفل إعادة النظام لملمت صفوفه وترتيب أوراقه, بعد الصدمة التي أفقدته توازنه, تمهيداً لشن ثورة مضادة, تعيده إلى الواجهة مجدداً بذات الأساليب والسياسات القمعية السابقة وربما بصورة أسوأ من السابق.
الثورة: ماهيتها وشروط ومراحلها
الثورة من المصطلحات التي واكبت ظهور الدولة والحياة السياسية منذ ما قبل التاريخ، ومن حينها تم استخدام هذا المصطلح في سياقات مختلفة لوصف حالة التغييرات الجوهرية التي تطرأ على حياة الشعوب وعلى الحضارة الإنسانية، في حين تم استخدامه في الوطن العربي لأول مرة في العام 1915 لوصف الثورة الكبرى التي قادها والي مكة “الشريف الحسين” ضد الخلافة العثمانية, ومن بعدها تم إطلاقه على ثورات التحرر العربي من الاستعمار، في العقود الثلاثة الأولى لعهد الاستقلال العربي, كانت هناك العديد من التجارب الثورية والانقلابية, لكنها لم تكن موفقة في معظمها, حتى أن شريحة واسعة من الشعوب العربية كانت تشعر بأنه تم التغرير بها, بل وباتت تحن للعهود السابقة لما كانت توفره من حرية واستقرار غير متوفرين في الأنظمة الثورية, وباتت تتساءل عن جدوى قيام الثورات والانقلابات ما دامت الأحوال المعيشية والسياسية لم تتغير كثيراً وما دام الثوار وورثتهم يفكرون بالتوريث بأشكاله, والمشكلة هنا أن دعاة الثورة والثورية العرب تعاملوا مع الثورة وكأنها حالة متواصلة, غير مفرقين بين الثورة كأداة ونهج لهدم أنظمة فاسدة وبين مرحلة بناء تحتاج إلى فكر وممارسات, ليست بالضرورة هي فكر وممارسات مرحلة التهيئة للثورة.
خلال العقود الثلاثة الماضية برزت قاعدة تقول أن “القدرة على هدم الباطل تفوق بكثير القدرة على إقامة الحق بديلاً” بالتوازي مع تعالي الأصوات المنادية بالتغيير السلمي, بديلاً عن الانقلابات العسكرية التي ظلت تُشكِّل تاريخياً نموذج التغيير السياسي شبه الوحيد في عالمنا العربي, والتي بموجبها تم إعادة إنتاج الأنظمة الفردية والدكتاتورية ولو تحت شعار الجمهورية والحرية والعدالة والمساواة, وما صاحبه من تقويض للإصلاحات السياسية والاقتصادية, وإعادة إنتاج العائلات المالكة ونمو شبكة المصالح المُحتَكَرة من قبل فئات ضيقة, غذت السلطة واستقوت بها على جموع الناس وحالت دون إنجاز نهضة وطنية قائمة على أسس واضحة ومتينة, ومأسسة الفساد الذي نهش الثروات الوطنية, فساهم في تعميق الشروخ الاقتصادية والتنموية بين فئات المجتمع, وتهميش شرائح واسعة من المجتمع السياسي, وتعميم فلسفة سُجناء الرأي.
وهذا لا يُلغي حقيقة وجود معارضات هنا أو هناك, لكن قصورها وتقصرها في حُسن توظيف إمكاناتها للضغط على الأنظمة والسلطات المشخصنة (الفردية) التي لم يطلها التغيير من وراء كل تلك الثورات والانقلابات, كان له دور كبير في تهميش المعارضة وتأسد الأنظمة على شعوبها, نظراً لتراخي المعارضة وعدم اقتناصها تلك الثورات والانقلابات والاعتماد عليها لفرض إصلاحات حقيقية, بسبب تشرذمها وتنافسها أو بسبب تهيبها من دفع ثمن التغيير أو بسبب سوء تقديرها للأوضاع، كل ذلك أوجد حالة من الاحتقان الشعبي, دفع شرائحه الوسطى والدنيا بأدواتها السلمية المتواضعة لغسل يدها من المعارضة, والتحرك بتلقائية وعفوية لإسقاط صنم “الخوف والرعب” الذي ظل لعقود طويلة مصدر الشرعية الوحيد للدولة الفردية المشخصنة, وإسقاط مشاريع التوريث والتمديد, وإسقاط أسطورة التنمية القائمة في ظل نظام بوليسي مافيوي, وإسقاط القناع عن الديمقراطية الأبوية التي حاول النظام العربي تسويقها في السنوات الأخيرة, لاتقاء ضغوط الغرب ولتبرير شرعية سلطة بدت أوهن من بيت العنكبوت أمام غضب الشعب العارم.
ما جرى في تونس ومصر كشف عن حقيقة أن ما شهده العالم العربي في العقود الثلاثة الأولى للاستقلال, لم يكن سوى “مجرد ثورات وانقلابات لا تغيير أوضاع” رتبت أثاراً كارثية, جعلت الأنظمة الفردية اليوم تعاني أزمة شرعية وأزمة سلطة وأزمة دولة وأزمة علاقة بين الدولة والمجتمع وبين السلطة والمجتمع وبين مكونات المجتمع الإثنية والطائفية, وهذا يتطلب ضرورة التوجه لإنجاز عقد اجتماعي جديد يؤسس لمشروع وطني جديد, يقوم على أسس ديمقراطية واضحة, وبلا شك فمشروع كهذا يحتاج لنُخب سياسية جديدة, يأمل كثيرون أن يكون الشباب المنتفض في تونس ومصر نواتها, لكن دون ذلك عقبات كثيرة لا يمكن فهمها بمعزل عن فهم مراحل الثورة وما تتطلبه من شروط لابُد من توافرها, للحكم عما إذا كانت الثورة قد نجحت بالفعل أم أنها حققت نصف انتصار فقط, بينما النصف الثاني لا تزال تعترضه الكثير من العقبات, لاسيما وأن انطلاقتها هذه المرة بدون قيادة حزبية وتنظيمية واضحة.
في علم الاجتماع, هناك ثلاثة شروط لا تقوم ولا تنجح الثورة أو يكتب لها البقاء بدون توافرها, هي: “أزمة نظام أو أزمة سياسية- اجتماعية أو سياسية- اقتصادية مستفحلة وممتنعة على الاستيعاب، وعي سياسي بالحاجة إلى التغيير سبيلاً أوحداً لكسر نطاق أزمة السلطة أو أزمة الدولة، تنظيم سياسي ينهض بدور التوعية والتعبئة والقيادة والإنجاز نيابة عن المجتمع كله”.
رغم أن الشرط الأول “أزمة السلطة” متوفر على الدوام, فإن الانتباه كثيراً ما يشد إلى الشرطين الأخيرين “الوعي السياسي والتنظيم أو الفعل السياسي” لكونهما التعبير المباشر عن نضوج الشرط الذاتي للتغيير والذي بدوره يجب أن يمر عبر ثلاث مراحل متلازمة ومتأرجحة في نفس الوقت بين الصعود والانحدار والركود, هي:
– مرحلة الهدم (الصعود): حيث يتم إسقاط النظام القائم وهذه المرحلة تنجح فيها كل الثورات تقريباً, لكن لا يمكن وصفها بالثورة الكاملة بل نصف ثورة ونصف انتصار.
– المرحلة الانتقالية (المراوحة والركود): وفيها يظهر كثيرون ممن يريدون سرقة الثورة وحرفها عن أهدافها سواء كانوا أطرفاً داخلية أو خارجية وقد يكونوا من بقايا النظام السابق أو من أحزاب سياسية تريد ركوب موجة الثورة في آخر لحظة بما يسمى بالثورة المضادة.
– مرحلة بناء نظام بديل وأوضاع جديدة (الانحدار): أي مرحلة إقامة نظام بديل وأوضاع جديدة تتوافق مع أهداف الثورة والوعود التي قدمها الثوار للشعب, وهي الأكثر صعوبة, وفي كثير من الأحيان تتعثر الثورة في بناء أوضاع جديدة ما يدفعها إلى الانتكاسة, وهذا بطبيعته يتوقف على مدى تمكن الثوار من تجاوز المرحلة الانتقالية ومدى قدرتهم على المناورة السياسية والتصدي السياسي للثورة المضادة, التي قد تنشأ في المرحلة الانتقالية باعتبارها تمثل نقطة العبور إلى المحطة الثالثة والمحك المحكم لنجاح الثورة في مرحلتها الأولى ومدى قدرتها للانتقال السلس والسلمي للمرحلة الثالثة من عدمه, وهنا يأتي دور الأحزاب والفعاليات السياسية المختلفة من حيث الاتفاق والتوحد حول أهداف ومطالب وشعار الثورة أو الوقوع في فخ المساومات والصفقات المشبوهة مع بقايا النظام السابق أو فيما بينهما على حساب قوى الثورة.
في الحالتين التونسية والمصرية هناك جمهور ثورة من شباب غير مهجوس بالسياسة وغير متشبع بثقافة سياسية, وهناك ثورة تنجح من دون تنظيم أو حزب يقودها ويضع لها برنامج عمل, وهما معاً تضعان عقيدة سياسية كاملة في أزمة، لأنهما تنسفان اليقينيات التقليدية لشروط الثورة وأدواتها الوظيفية, والسؤال هنا: هل يمكن إنجاز هدف سياسي كبير من طراز إسقاط رأس النظام دون رؤية وشعار سياسيين ومن دون أي شكل من أشكال التنظيم ودون وعي سياسي مسبق؟ لاسيما وأن إنجاز هدف كهذا يشترط تلازم الفعل والوعي السياسي، وهذا بطبيعته يثير التساؤل أيضاً عن دور المعارضة قبل وأثناء وبعد الحدث بشقيها المعترف به من قبل النظام “أحزاب بير السلم” وغير المعترف به “المحظورة والممنوعة من الصرف”.
لكن بصورة عامة هناك حركة احتجاجية اجتماعية- ديمقراطية سِلمِية وهناك تنوع طبقي غطّ كل فئات وتيارات وأطياف المجتمع, ومثّل عنصراً حاسماً في إسقاط رأس النظام وإنجاز المرحلة الأولى من مراحل الثورة, أي إحراز “نصف انتصار” وفي ذات الوقت مثّل عنصر ضعف من حيث تمييع المطالب, وهو محك اختبار عسير للمعارضة وكلمة الفصل في المرحلة الانتقالية فهل ستتمكن من تجاوزه؟.
الواضح حتى الآن أن الرؤية لدى قوى المعارضة في تونس ومصر على حدٍ سواء ما تزال مُحاطة بالكثير من الضبابية والغموض, لكن الأكيد وربما النتيجة الوحيدة القائمة على الأرض هو: أننا أمام انقلاب شعبي لم يرقى بعد إلى مستوى الثورة, قاده شباب غاضب لا ينتمي للأحزاب والتنظيمات السياسية, وغير مؤهل للحكم, اقتصرت ثورته العارمة على تغيير رأس النظام بضربة واحدة, وهذا لا يكفي, لأن النظام لا يزال قادراً على الاستمرار والانتعاش دون وجود الرأس, شباب الثورة هو الأخر لا يزال يحاول تغيير سياسات النظام دون المساس بهيكل الدولة. منطق شباب الثورة العفوي في تجييش الشارع حقق شرطاً من شروط الثورة لكن ليس كل شروط الثورة بما تتطلبه من عملية مركبة ومتعددة الأبعاد، ونقل البلاد من عهدة النظام الدكتاتوري إلى عهدة المؤسسة العسكرية, كمشرف وضامن للمرحلة الانتقالية تحت ذريعة حفظ الأمن وحماية الثورة من حالة الفوضى والنهب التي قد تصاحبها, وهي أحداث لا تكون في العادة بعيدة عن تخطيط بعض عناصر النظام السابق التي لازالت تمسك بتلابيب ما يسمى بحكومة تصريف الأعمال.
كاتب عربي
القدس العربي