البحث عن معادلة الجمع بين اليوتوبيا والواقع
نهلة الشهال
في تونس وفي مصر، وبعد لحظة الفرح العظيم، والمشروع، بدأت تظهر الصعوبات والمشكلات والانحرافات، وكل عالم ما يقال له «الواقع» الذي عادة ما يسعى إلى استعادة الزمام، والسيطرة بأسرع ما يمكن، مجابهاً بذلك الخيال والحلم والسمو الذي يصيب الحالات الثورية، أو ما يسمى اليوتوبيا. ولكن هذه الأخيرة معطى واقعي قدر أخواتها اللدودات، أي ما هو اعتبارات توازنات القوى، وحسابات المنافع، وانحرافات وعيوب التكوين التي لا تعفي أحداً! واليوتوبيا ليست «وهماً» كما يشاع عادة من قبل «الرماديين»، أولئك الذين لا يهزهم شيء، ويفترضون بأنفسهم عقلانية باردة، لا يكف التاريخ عن إثبات خطْلها، ووقوعها خارج الصدد. يبرهن التاريخ ذلك في لحظات مكثفة، تبدو الدقيقة منها كمئة عام، مثل هذه التي نعيشها اليوم.
نحن بتنا نتكلم عن حسني مبارك في الماضي، بينما لم يمضِ بعد شهر على إزاحة الرجل. نتكلم عن أجهزة الأمن الجبارة، ومنها الأمن المركزي المرعب، وكأنها ذكرى، ونستنفر حيال ظلال ممارساتها الراهنة، ويزجر أصغر شاب أو شابة مرتكبيها بلا خوف. هناك آلاف الإضرابات في مصر، في مؤسسات كبيرة وصغيرة، هناك آلاف المطالبات، والتوقعات، يقول الرماديون إنها غير معقولة، ويطلب من كان منهم صاحب سلطة من الناس التروي والتعقل، أو ينصحهم بها إذا كان من فئة المثقفين «الخبراء»، اولئك الذين خانوا دورهم، وعملوا نصحاء ومهندسين للنظام السائد، بدرجات متفاوتة من الإصلاحية، ويتسللون اليوم إلى الواقع الجديد أو ينتظرون فشله ليقولوا: «ألم نقل لكم؟ هيّا تعقلوا».
هناك في تونس كلمة أمرٍ تتردد على ألسنة الناس بلا تعب: «ديغاج» بالفرنسية، أي ارحل، ليس فحسب لـ «بن علي»، وإنما لمدير كان لئيماً ويريد اليوم قلب سترته بسهولة، لمسؤول يسعى لتثبيت أقدامه في السلطة الجديدة… فوضى يقول البعض، متعالمين، وينسون أن «النظام» هو الاستثناء في الجنوح الإنساني، وأن الحرية والابتكار والمبادرة هي الأساس، التي توظف كل قوى الواقع القائم جهودها وسلطتها لتشذيبه وضبطه وقمعه وتيئيسه، بدءاً من الحضانة والمدرسة مروراً بكل شيء يصادفه الإنسان في حياته. ويقال عن المتمردين على هذا النظام الشامل إنهم هامشيون، بل وأحياناً مجانين، ويصنفون على كل حال في خانة الفشل: محبَّبون بالتأكيد، مثيرون للاهتمام، عباقرة أحياناً، أو مميزون على الأقل، ولكنهم فوتوا فرصة أن يكونوا «ناجحين ومحترمين». فإذا كان ذلك على المستوى الفردي، فكيف حين يمر مجتمع بأكمله في حالة من التمرد على ما عرفه وخبره وألفه، وقيل له بلا ملل إنه أبدي.
هذا على العموم، وهو يصح على كل المجتمعات، بلا وقوع في مثاليات النقاء التي يفترض بها أن تصاحب اللحظة. نعم، اللحظة تسمو في جوانب منها إلى أعلى، ولكنها بالتأكيد مجبولة بكل ما نعرف. ولا يمكن التضحية بذلك السمو بحجة تلك الجبِلة. والأمثلة أكثر من أن تحصى. كما لا يمكن الاعتداد بفشل تلك اللحظات للقول إنها مدانة أصلاً. فإن لم يحتفظ البشر بقدرتهم على التمرد وعلى الحلم وعلى التسامي، انتهوا كبشر.
وأما نحن، فيكفي لإدراك كثافة اللحظة الالتفـــات إلى أغنية «صورة» لعبــــدالحلــــيم حافظ، غناها إثر تأميم قناة السويس، وعـــادت للصداح في ميدان التحرير، حينما بدأ كـــل ناسه يريدون صورة لهم فـــــي ذلك المكان. «كلنا عايزين صورة تحت الراية المنصورة»، يقول عبدالحليم.
كيف استعاد التاريخ إيقاعه على هذه الصورة، وقد حضر التأميم وكأنه يجرى الآن، بينما الغالبية الساحقة ممن أنشدوا الأغنية لم يكونوا قد ولدوا أصلاً عام 1956. أجزم بأن اللحظة الجارية اليوم قد حققت التواصل التاريخي، وأن القطيعة التي أريدت لها الهيمنة قد جُسّرت. وهذا كبير في دلالته، إلى حد انه ربما كان يتجاوز وعينا الراهن به.
حسناً، كل ذلك جميل، فماذا عن تلك الجبلة الخبيثة إذاً؟ إليكم معالمها: ألَّا تتمكن مثلاً القوى التونسية الفاعلة من تجاوز نعراتها كي تتلاقى، ولو صراعياً، فيجلس ممثلوها معاً ويقررون أنهم مهتمون بتعيين نقاط الخلاف بينهم، وتوضيحها وطرحها على الناس لاستشارتهم (على الأقل). انعدام ذلك أو استعصاؤه، فيه تجبر وتعالٍ وسلطوية إلى آخر مفردات كانت تنطبق على من رحّلتموهم يا سادة. ألّا تكون تلك القوى مهجوسة بوضع اليد بأسرع ما يمكن على نقاط التوافق الممكنة بينها، وتغليبها وصوغها لتكون منصات للعمل المشترك: وإلاّ فثمة هنا أيضاً انغلاق واستئثار وقلة مسؤولية تجاه الأمل المثار. ألّا تحول كل ذلك إلى برامج واستراتيجيات وتكتيكات متلائمة، فيمتلك الأمل ذاك إطاراً، ويتم له أن يتصالح مع الفعل، فلا يبقى حلماً فقط. يا قوم، قوى الثورة المضادة تفرك أيديها فرحة، وتخطط لإنهاء كل هذا، وهي تحوز على خبرة وإمكانات ودعم، وتدافع عن مصالح راسخة ورنانة ومنسجمة مع حالة العالم، وأنتم مسلحون فقط بتوق الناس إلى التغيير، وهو قوة جبارة، أرتنا بعض ملامحها.
أما اليوم، فلا بد من الانتقال للبناء عليها. يا قوم، لا تغلبوا الميل المريح والآمن ظاهرياً، الذي يركن إلى قوى الأمر الواقع، على مغامرة سبر ما لا تعرفون بعد. تقولون «الشباب»، تقولون روح الحرية الجبارة… ألا تريدون التعرف إليها؟ هل يهمكم الدستوريون والصلات بالسفارات أكثر من تلك الآفاق. يا للبؤس إن كانت تلك حالكم، وبقي كل واحد منكم متمترساً خلف ذاته، وما ألِف.
وكذلك في مصر! ألا تتحاور القوى المصرية الفاعلة، وان تستمر حسابات كل طرف تتركز، ولو سراً، على مكاسبه، على ما يمكنه تحقيقه، أحياناً بالاتفاق مع قوى الماضي/الأمر الواقع، المهزومة ولكن القائمة والنافذة. وليس في ذلك أي تناقض: كفوا عن تطلّب الانسجام! يمكن قوى أن تكون مفلسة ومهزومة، وأن تكون مسيطرة في الوقت نفسه. بل تلك هي الحالة العامة في العالم اليوم. وعدم إدراك ذلك خطير، ويحبس الطوباوية في السذاجة أو يبقيها رهينة أن تقيَّم بميزان الخبث.
وأما المسألة، فهي كيفية مد عمر ذلك النسيم الذي هب علينا إلى أقصى حد ممكن، حتى يصبح مألوفاً، تتذكره الناس وتقيس عليه الصح من الغلط. ولا يتحقق ذلك بغير اعتماد المبادئ المناسبة له، وغير المتناقضة مع طبيعته، زائداً إعمال الخيال السياسي الخصب، لتوليد معادلة لا تخون آمال الناس ولا تحلق خارج الواقع. يعني لتغيير الواقع، فتلك هي المسألة. أرى الرماديين يسخرون مما يرونه كلاماً بكلام. ولكن، ألم يمت الناس من أجل ذلك؟ «يغاج» إذاً.
الحياة