الجذور الأوديبية للثورة في العالم العربي
جون بورنمان
تستطيع علوم الأنتروبولوجيا أن تساهم إلى حد كبير في فهم الاضطرابات الحالية في الشرق الأوسط. تنضمّ الدعوة القوية والواضحة للثورة في العالم العربي إلى السجل الأسطوري لمعضلة أوديب التي تقع في قلب المشاهد الثقافية للقرن الحادي والعشرين. تذكّر تظاهرات الجماهير “التي لا قيادة لها” والمطالِبة بوضع حدّ لسنوات الديكتاتورية بالصيغة التي روى بها فرويد هذه القصة الأسطورية عن أصل السلطة والتي نُشِرت عام 1913: يُسوّي الأب الحاكم تنافسه مع “جماعة الإخوة” التي تشمل ابناءه، عبر إخراجهم من المنظومة الاجتماعية من أجل احتكار السلطة والاحتكار الجنسي للنساء في المجموعة. وبعد أن يتمرّد الأبناء ويقتلوا الوالد، يُقسمون الولاء لطوطم يمثّله وكذلك لمبدأ التخلّي عن رغباتهم في الحلول مكانه بصفته حاكماً مستبدّاً.
من المغرب إلى اليمن يحدث تحوّل يندرج في سياق الدراما الأنتروبولوجية نفسها. وهو يُعبِّر عن محورية اصطلاحات القرابة والجيل والجندر المحدَّدة ثقافياً في تحويل الديكتاتوريات المحلية أشكالاً سياسية أكثر ديموقراطية وتعزيزاً للمشاركة في العالم العربي الحالي.
كان الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، أول الراحلين بعد 23 عاماً من القمع السياسي والاستغلال الاقتصادي. فقد فرّ برفقة عائلته إلى السعودية وبحوزته ثروة شخصية تُقدَّر بحوالى 3.5 مليارات جنيه استرليني. طوال سنوات عدّة، انصبّ الغضب الشعبي في شكل أساسي على زوجته ليلى، فقد سمحت صلة الزواج التي جمعتها ببن علي لعدد كبير من أفراد عائلة طرابلسي التي تنتمي إليها، بأن يستحوذوا على مناصب رفيعة في السياسة وفي مجتمع الأعمال التونسي ويستنزفوا ثروات البلاد ومقدّراتها.
في مصر واليمن وليبيا والبحرين، انكشفت الرواية فصولاً في الاصطلاح الأكثر تقليدية للذرّية الذكورية. أحد التنازلات الأولى التي قام بها حسني مبارك الذي حكم طوال 32 عاماً في مصر، وعلي عبدالله صالح الذي حكم طوال 30 عاماً في اليمن، كان التخلّي عن حق كل من نجلَيهما، جمال وأحمد على التوالي، في خلافتهما. لقد جرى إعداد الابنين بعناية للحلول مكان والديهما الطاعنين في السن، ولذلك انطوت التصريحات العلنية على عنصر دراماتيكي إلى حد بعيد. وفي ليبيا، لا يزال معمر القذافي الذي يحكم منذ 42 عاماً، وحتى كتابة هذه السطور، يحاول تمرير كل السلطات لأبنائه، مع اختيار سيف الإسلام القذافي وريثاً سياسياً له. وفي البحرين والملكيات العربية الأخرى، يستمرّ القادة في التمسّك بنموذج الأب والابن الذي لا يزال محورياً في نظرتهم إلى سلطة الملوك المطلقة.
إن التخلّي العلني عن سعي الابن لوراثة السلطة من والده يضع حداً نهائياً للنموذج العربي القائم على التوريث من الأب إلى الابن الذي أُدرِج في ديكتاتوريات الدولة ضمن نطاق السلطات القبلية. من الآن فصاعداً لن يكون هناك نموذج بسيط للتحوّل نحو السلطة الديموقراطية القائمة على المشاركة. سوف تكون دروب التحوّل متقلِّبة ومتفاوتة، فيما تظهر اصطفافات نفوذ جديدة بين الجيوش والنخب والطبقات الوسطى والفقراء والسلطات القبلية والدينية المحلية وكذلك القوى الخارجية.
بيد أن هناك العديد من النزعات الواضحة: أولاً، لن تخضع مسألة التعاقب على السلطة والوصول إليها بعد الآن لاعتبارات الذرّية الذكورية أو الأجيال. فهذه الثورات ليست فقط من صنع حشود من الإخوة إنما حشود من الإخوة والأخوات، بدعم من أهلهم. ليست الثورات موجَّهة، في شكل عام، ضد الأب الذي فقد سلطته أصلاً، أو ضدّ أنظمة يتمّ ربطها بوالد ما. بل إنها ضد إذلالَين: الأوّل الاستسلام الكامل لإذلال الفلسطينيين على أيدي إسرائيل والتواطؤ معه. ولّدت هذه المهانة اليومية والمتلفَزة التي يتعرّض لها إخوة عرب مخيّلة عربية جامعة، بما في ذلك ازدراء سياسات القادة العرب الحاليين وأساليبهم السياسية. والثاني هو إذلال الآباء في منازلهم وأماكن عملهم على أيدي أنظمتهم. لقد جعلت المخابرات والأجهزة الأمنية إلى جانب البيروقراطية أدوات الدولة موجَّهة ضد الفقراء والطبقات الوسطى، فمنعت الآباء من تأمين مستقبل مناسب لهم ولأولادهم الذين يزدادون علماً واطّلاعاً. وأدّى الفساد الاقتصادي-الاجتماعي والممارسة التعسّفية لسلطة الشرطة وعدم المساواة الشديدة في الفرص، إلى تفاقم الانقسامات الاجتماعية وتزايد أشكالها وأنواعها، فيما منعت الحكومات قيام أي آلية مفتوحة لتكوُّن المجموعات بما يتيح التعبير عن اهتمامات الناس.
هؤلاء الآباء المخصيّون ينتفضون الآن مع أبنائهم وبناتهم الذين يحول صغر سنّهم على الأرجح دون أن يستبطنوا درجة الخوف التي فرضتها الدولة المستبدّة وأجهزتها على أهاليهم. بيد أن ما يتشاطرونه مع أهلهم هو شعور بإلحاق المهانة بالتقليد وكل الإنجازات المدهشة لـ”مهود الحضارة” العظيمة الواقعة في العالم السامي. يكرهون هوامات “الأصولية الإسلامية” و”الإرهاب” التي يُثيرها الغرب وتستعملها أنظمتهم لكبح مستقبلهم.
ثانياً، وكما يتّضح من الصور المتلفَزة، يشارك النساء والرجال في التظاهرات، وهو واقع نأمل في أن يدفع الغرب على الأقل إلى التشكيك في افتراضاته بأن النساء العربيات يحتجن إلى الحماية من رجالهن. بيد أن الاستياءات والرهانات ليست هي نفسها في حالتَي الرجال والنساء. فعلى النقيض من أوروبا وأميركا الشمالية، لا تزال شبكات القرابة الأوسع تُنظِّم الجزء الأكبر من الهيكلية الاجتماعية للمنطقة. إزاء عجز الآباء عن توظيف أبنائهم، وفشل هذين النظامين السياسيين في خلق فرص عمل مجدية، بات عدد كبير من الشبّان غير قادرين على الزواج، ولذلك اضطروا إلى تأجيل اكتسابهم ذلك النوع من الرشد – مثلاً الوضع العائلي، حياة جنسية معترَف بها اجتماعياً، أبوّة – الذي يُصوِّره التنظيم الاجتماعي العربي بطريقة مثالية للفرد. الأنماط البديلة للولوج إلى المكانة الاجتماعية والجنس والأبوّة ليست متوافرة على نطاق واسع، ولا تزال الحياة الكريمة من دون زواج تُعتبَر تهديداً للنظام الاجتماعي في الجزء الأكبر من الشرق الأوسط. ينقل الصحافيون الغربيون باستمرار شكاوى الشبّان بشأن هذا التأخير.
وبالنسبة إلى النساء، يمكن أن يعني تأخّر سنّ الزواج أيضاً تأجيل دخول مرحلة الرشد. لكن بما أن النساء اللواتي أصبحن أكثر ولوجاً إلى التعليم يملن أيضاً إلى التفكير في مسارات حياة بديلة، فهنّ لا يعتبرن دائماً أن هذا التأخّر في الزواج (الذي غالباً ما يعني الخضوع لوالدة زوج ما) هو أمر سلبي. لكن على غرار أقرانهنّ الذكور، يفتقرن أيضاً إلى الفرص الاقتصادية والسياسية لإقامة أشكال أخرى من الروابط.
تبدو هذه الثورات شبيهة بـ”لحظة برلين”، تماماً مثل فتح الجدار الذي أطلق سلسلة من التظاهرات التي حرّرت الشعوب في أوروبا الوسطى والشرقية وروسيا من الأنظمة السلطوية. عندما فُتِح الجدار، كنت قد أنهيت للتو دراسة عن تأثيرات الانقسام السياسي في برلين الشرقية والغربية، وقد تابعت منذ ذلك الوقت عن كثب التحوّلات في أوروبا الوسطى والشرقية. هناك بالفعل أوجه تشابه بين الحدثَين، لكن أوجه التشابه الأعمق تقتصر فقط على المستوى الجيوسياسي.
أمكن حدوث تحوّل في أوروبا فقط لأن فاعلين خارجيين – الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وروسيا – دعموا إلغاء الديكتاتوريات وتأكيد مبدأ تقرير المصير. لكن في العالم العربي، تدعم القوى الغربية الأنظمة الاستبدادية، وتواصل السعي إلى تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية بما يتعارض مع التحوّلات: الوصول إلى النفط، وحماية إسرائيل، والحرب ضد الإرهاب. القول بأن حصول العرب على حق تقرير المصير يُهدّد هذه الأهداف ينمّ عن قصر نظر. فالاعتماد على النفط لا يُرغم الغرب على إعطاء الأفضلية للعلاقات الاقتصادية على حساب العلاقات الاجتماعية وحسب، بل إن الاقتصادات التي تسرف في استهلاك النفط تُهدّد بتدمير النظام البيئي الذي يمدّ الحياة بأسباب البقاء. أما حماية إسرائيل فهي مستحيلة من دون إغراء العرب لبناء صداقات معها في نهاية المطاف، مما يتطلّب تسويات طويلة الأمد بين إسرائيل وجيرانها، ودمج إسرائيل في المنطقة. أخيراً، إن إلصاق الإرهاب بشعوب وأديان ومناطق بكاملها يولّد في الغالب العنف الذي نسعى إلى حماية أنفسنا منه. الدفاع الأفضل ضد الإرهاب هو منح الشعوب في الشرق الأوسط حقوقها كاملة، والسماح لها بالمشاركة في تخطيط المستقبل في دول من صنعها.
لهذه الغايات، يجب أن يدعم الغرب هذه الثورات التي لا قيادة لها، ويُسهِّل اكتشاف أشكال جديدة من التعبير والتضامن تتناسب مع نظام ما بعد أبوي. ما نسمعه الآن عبر مواقع “فايسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب” وما يسمعه جمهور الإذاعات والقنوات التلفزيونية في مختلف أنحاء العالم هو التعبير عن الاختلاف من أجل الاستهلاك العام. لكن ما لا نسمعه بعد، وسوف يصبح حاسماً في نهاية المطاف لفهم التغيير الاجتماعي، هو كيف تؤطَّر النقاشات داخل العائلات والأحياء والمجتمعات.
تستضيف “قضايا النهار” اليوم البروفسور جون بورنمان أستاذ الانتروبولوجيا المعروف في جامعة برنستون، ومؤلِّف:
– Death of the Father: An Anthropology of the End of Political Authority (2004)
– Political Crime and the Memory of Loss (يصدر قريباً)
وقد خصّ “قضايا النهار” بهذا النص الذي ترجمته عن الإنكليزية نسرين ناضر.
النهار