صفحات سورية

المعارضة السورية… أزمة خيارات وقلق وجود

null
عادل عبد الهادي
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة روح الانتصار لقيم الرأسمالية ومفاهيمها، عمد الكثير من القوى السياسية المعارضة، واليسارية خصوصاً، لمحاولة التكيف مع هذه القيم والمفاهيم، فلجأت بناءً لذلك لإدخال هذه المفاهيم في خطابها السياسي بعد أن أهملت أو تحررت من جزء كبير من حمولتها الأيديولوجية السابقة التي حكمت رؤيتها للمجتمع وللمنظور السياسي الذي اعتمدته.
ومن هنا وجدنا مثلاً أن مفاهيم الحريات على تنوعها والديمقراطية وحقوق الانسان تعززت على نحو واضح في الخطاب السياسي اليميني واليساري على حد سواء. ورغم أن هذه المفاهيم الحداثية في ميدان السياسة كانت غريبة أصلاً عن كل من التيارين الاسلامي والماركسي، فقد بدت بعد الانتصار الكبير لأمريكا وبزوغ ما يشبه فجر أمريكي على العالم، أشبه بقاسم مشترك يجمعها في عدائها المشترك للنظام القائم. وهو ما اقتضى تخلي اليسار الماركسي أو تحرره، لهذه الدرجة أو تلك، من ضيق الأفق المميز للرؤية الطبقية للسياسة، أو مما يمكن تسميته العصاب الطبقي في السياسة. كما اقتضى الأمر أيضاً تخفيف التيار الاسلامي من الطابع الديني لمعارضته من خلال الاستعانة بأطر حقوقية وإنسانية عامة وما الى ذلك لدرء شبهة القرابة مع التيارات الإسلامية المتطرفة، أملاً في نيل رضى أو تفهم القوى العالمية النافذة والمتحكمة في المنطقة.
واذا كان تاكتيك الاخوان المسلمين هذا يبدو أقرب للمناورة منه للتعبير عن تغير حقيقي في منظورهم الأيديولوجي وتوجههم السياسي، فقد كان بالنسبة لليسار تعبيراً أكثر صدقاً عن التغير الذي حصل في جهازهم المفاهيمي عن المجتمع والسياسة. ذلك أن التغيير لدى الإسلاميين يعني في بعض جوانبه تطويعاً للمقدس، وفي الحد الأدنى إعادة قراءة وصياغة له. وهو ما يعني ضمناً قدراً كبيراً من الصعوبة، لا نرى مثيلاً لها عند العلمانيين عموماً والماركسيين خصوصاً، الذين كانوا قد كشفوا عن استعداد مبكر للتحرر من قيود الأيديولوجية، وبالتالي المرونة في التوجهات السياسية، منذ أن نظر البعض منهم الى حركة الاخوان المسلمين في أوائل الثمانينات على أنها حركة شعبية، ما عنى في حينها محضها نوعاً من الشرعية، رغم الطابع الإرهابي والتكفيري الذي وسم تلك الحركة آنذاك. ثم تعزز الأمر بعد ذلك بجرأة لافتة في الخروج من قيود الأيديولوجية في الممارسة السياسية من خلال العلاقة المعروفة مع نظام صدام حسين أيضاً.
ومع ذلك فقد كان هذا المناخ التغييري جامعاً بين الاثنين رغم التباين النسبي في فحواه ودلالاته لدى الطرفين. وكان هذا أكثر وضوحاً في الفترة التي عبقت بها رائحة تغيير وشيك كان يبدو جزءاً من عملية إعادة تنظيم أمريكية شاملة للمنطقة أثناء وبعد احتلال العراق. وهو بالضبط  ما دفع لقيام التحالف المعروف حينها بإعلان دمشق.
وبالاضافة لهذين الاتجاهين كان لافتاً مستوى الحضور الكردي في التحالف المذكور، من حيث العدد الذي تجاوز المألوف من علاقة القوى الكردية مع قوى المعارضة السورية، ومن حيث كونه خروجاً من حالة شبه الانعزال التي ميزت عمل القوى الكردية تاريخياً، وهو ما لا يمكن فهمه على حقيقته إلا في إطار الروح التي أشاعتها التجربة العراقية، وما حملته للأكراد تحديداً. ولا يعني هذا بالطبع رهاناً أو تعلقاً بخيار مشابه، وإن لم يكن مستبعداً تماماً، بل أملاً في تغيير يمكن أن تقود له التطورات الجارية في المنطقة، وهو ما كان يوجب عليهم السعي لملاقاته أو المساعدة في إنضاجه.
أما بالنسبة لحزب العمل الشيوعي الذي عانى من محاولات تهميش وإقصاء من قبل أطراف المعارضة الأخرى، وهو ما كان يرى فيه جوراً بالغاً تجاهه نظراً للتضحيات الكبيرة التي قدمها عبر تاريخه، فقد وجد في الصيغة التي خرج بها إعلان دمشق والمتمثلة بكونه إطاراً مفتوحاً لمن يريد من قبل القوى المعارضة، وجد بها منفذاً لتجاوز حالة الاستبعاد التي ووجه بها عبر تاريخه، مراهناً ربما على التباينات داخل القوى الأساسية المكونة للاعلان بما يتيح له توسيع هامش المشاركة الفعلية ضمن إطار قوى الاعلان، وهو ما وجد مصداقية له من خلال التقارب في التوجه السياسي العام إزاء القضايا الوطنية والقومية مع الاتحاد الاشتراكي على نحو بدا متمايزاً الى حد ما عن بقية أطراف التحالف.
وهكذا مضت هذه التوليفة من قوى المعارضة المتعددة المشارب والأحجام والتطلعات، مضت في مركب واحد اقتضته الظروف الدولية والاقليمية، وليس تطورات ومقتضيات فعل الصراع الداخلي بينها وبين النظام، مضت مترقبة التطورات المنتظرة في المنطقة، الى أن بدا لها وللجميع أن العاصفة المتوقعة قد تبددت في غير اتجاه، ولم يعد مفيداً انتظار ما كان متوقعاً منها. وهو ما قاد لتفجر التناقضات داخل إعلان دمشق، لدى انعقاد المجلس الوطني الأخير له. حيث أسفر الأمر عن تجميد عضوية كل من حزب العمل والاتحاد الاشتراكي. ثم أتى التطور الأخير البالغ الدلالة وهو إعلان الاخوان تجميد معارضتهم للنظام بغرض توفير الجهود لمواجهة الهجمة الصهيونية الراهنة.
ومع هذا التطور الأخير بدت المعارضة عموماً على قدر كبير من التضعضع على المستوى التنظيمي، حيث أخذت الأمور تتجه الى مزيد من الانقسام والتفتت بدلاً من اتجاهها نحو التنسيق والوحدة.
وبالطبع ليست المشكلة في المستوى التنظيمي على أية حال، بل إن المشكلة في هذا المستوى هي تعبير عن المشكلة الأساسية في المستوى السياسي، مستوى التوجهات التي يفترض بالمعارضة اعتمادها بما يتناسب وتعقيدات الواقع السياسي في المنطقة بشكل عام. وفي هذا الصدد لابد من الاشارة للملاحظات التالية:
1- لقد أعادت الحرب الأخيرة على غزة، وقبلها الحرب على لبنان، القضية الوطنية الى مركز الصدارة في اهتمام القوى السياسية في المنطقة. حيث تجددت مرة أخرى في الرأي العام مدى الخطورة التي تمثلها اسرائيل على المنطقة والطابع العنصري لهذه الحرب، الأمر الذي يعطي الأولوية لمتطلبات المواجهة المباشرة معها وليس لجهود الإصلاح الداخلية. وهو ما أربك المعارضة التي قامت أساساً على أرضية تركيز النشاط بمواجهة النظام، حيث وجدت نفسها اليوم معنية بالتوجه نحو عدو آخر. وقد وجدت أن هذا النظام يقف في طليعة القوى المناوئة لهذا العدو. وهذا الموقف المفعم بالتناقض والمسبب للارباك هو ما دفع بالاخوان المسلمين للخطوة التي قاموا بها مؤخراً.
2- إذا كانت بعض أطراف الاعلان استدركت موقفها الآن بعد حرب غزة، فقد كان الأمر مختلفاً بدرجة كبيرة في حرب 2006. فالحرب على لبنان لم تكن كافية لقوى الاعلان للوقوف مع المقاومة. بل إن القوى الرئيسية من قوى الاعلان، يسارها ويمينها، مالت صراحةً نحو المعسكر المناوئ للمقاومة ونحت في خطابها السياسي نحو محور الاعتدال العربي فاعتمدت ذات اللغة فيما يخص الموقف من المقاومة باعتبارها جزءاً من محور طهران دمشق، وانزلقت بعض الأصوات المعروفة بانتمائها الصريح لإعلان دمشق، في مناسبات عديدة، الى لغة طائفية صريحة دون أن يبادر الاعلان كإطار له شخصية اعتبارية، للتنصل من هكذا أصوات.
3- في الوقت الذي بدا فيه الانقسام العربي الرسمي عميقاً بين محورين، محور الاعتدال ومحور الممانعة، لجأت رموز أساسية في إعلان دمشق لنهج براغماتي فاقع بالهجوم على النظام السوري من بوابة لزوم انسجامه مع محيطه العربي، والمقصود بذاك المحيط هو محور الاعتدال الذي يقوم أساساً على الانصياع للتوجه الأمريكي في المنطقة. وعلى الرغم من كل ما في تاريخ هذا الحلف وحاضره من رموز دالة على التخلف والرجعية. وقد كان هذا الموقف لافتاً جداً لما فيه من مفارقة تتمثل في اعتبار هذا الائتلاف ، الذي يحاول اعتماد نهج وخطاب سياسيين يقومان على قيم ومفاهيم الحداثة السياسية، باعتبار أنظمة لا علاقة لها البتة بهذه القيم، على أنها حالة يتوجب الانسجام معها وأن سلوكها هو المعيار لما يجب أن يكون.
وإذا كان لمراقب حيادي أن يقارن بين الرهان والنهج الذي اعتمده النظام في التعاطي مع الظروف السياسية التي طرأت، مع رهان ونهج المعارضة، لا بد من أن يرى التباين الكبير بين الطرفين في التعامل مع ما بدا في ذلك الحين كاحتمال وشيك الوقوع، وهو مضي الادارة الأمريكية في خطتها لترتيب المنطقة الى حد اعتبار سورية هي المحطة الثانية بعد العراق، أي العمل لتغيير الوضع في سورية، وإن لم يكن بالطريقة ذاتها التي اتبعت في العراق. ففي الوقت الذي تصرفت فيه المعارضة بالطريقة البراغماتية المعروفة والمراهنة على العامل الخارجي، فقد لجأ النظام على العكس من ذلك لاعتماد خيار المزاوجة ما بين المواجهة والمراوغة. ولم يعمد كما المعارضة للمهادنة، على مستوى الاعلام والخطاب السياسي، مع الهجمة الأمريكية التي تتعرض لها المنطقة. وقد كان من نتيجة ذلك افتقاد المعارضة قدراً من مصداقيتها لما تضمنه نهجها الجديد من تنصل من الكثير من ثوابتها السياسية التي حددت وعيها السياسي فيما مضى. ولتباين هذا الموقف المحابي للسياسة الأمريكية في المنطقة، عن المزاج الشعبي العام المعادي لهذه السياسة وخصوصاً بعد الحرب الاسرائيلية على لبنان في العام 2006 وحربها الآن على غزة.
والآن وبعد انفكاك طوق العزلة عن النظام يمكن القول بأنه قد كسب الرهان في الوقت الذي بدا واضحاً أن المعارضة قد خسرت رهانها. وبدا متقدماً على المعارضة في التقاط طبيعة ما جرى، وفي اعتماد الممارسة السياسية الأنجع .
وإذا كان هذا هو الحال فيما يخص الموقف من التطورات السياسية التي عصفت بالمنطقة أو فرضت عليها من خارجها، فإن معاينة نهج المعارضة على صعيد علاقاتها الداخلية لم يكن مشجعاً هو الآخر على الإطلاق. حيث لم تعكس العلاقات بين أطرافها المستوى المطلوب من ضرورة الانسجام مع قيم الديمقراطية والشفافية واحترام حرية الرأي التي طالما تم رفعها. فشكاوى التهميش والاستبعاد كانت مسموعة منذ أن ولد تحالف إعلان دمشق. ورائحة الاتهامات علت في أكثر من مناسبة وفي أكثر من اتجاه، وفي وقت ما ساد نوع من الخشية من أن يتعرض أحد ما لتجربة المعارضة بالنقد خشية أن تطاله دمغة العمالة الفعلية أو الموضوعية للنظام، حتى وإن كان صاحب النقد قد أضاع نصف عمره بين المنافي والسجون. كما أن الاتهام المعاكس، أي خدمة المشروع الأمريكي كان له حضوره أيضاً. والنتيجة التي يمكن الوصول لها من ذلك هو افتقاد المرونة الداخلية وعدم تمثل قيم ومفاهيم الديمقراطية والحريات التي ندعى رفع رايتها. ومن بين الأمثلة الدالة التي لا بد من الوقوف عندها يمكن أن نذكر ما تم تناقله عن خلفيات وأسباب قيام كل من حزب العمل والاتحاد الاشتراكي بتجميد عضويتهما في إعلان دمشق، وهي تتعلق أساساً بالابتعاد عن روح العمل الديمقراطي النزيه واللجوء لنهج الاستبعاد والطرق الالتفافية لتحقيق ذلك. كما لنا أن نتذكر تفرد حركة الاخوان المسلمين في إطار تحالفي آخر هو جبهة الخلاص مع كل ما أثير حول هذه الجبهة من شبهات وتساؤلات بدءاً من مشروعية التحالف مع أحد الأركان السابقين في النظام وهو عبد الحليم خدام الى شبهة العلاقة مع دوائر خارجية. وقبل هذا وذاك فشل تجربة حزب الشعب الديمقراطي في الخروج من نموذج التنظيمات البطريركية، التي يحتكر فيها الزعيم التاريخي حكمة قرون من النضال تجعله صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تقرير مصير الحزب. وقد أسفر ذلك كما هو معروف عن استقالة الأمين العام الذي انتخب في حينها، لاكتشافه أن العلة ما تزال في مكانها وأن تاريخه وكرامته لا يسمحان له بلعب دور شاهد زور في هكذا مسرحية.
ومن كل ما سبق يمكن القول بأن التباين والتأرجح في التوجهات السياسية بين أطراف المعارضة، ما بين الحالة التي نرى بها تلمساً لمشروعية الاستفادة من العامل الخارجي، بما يوجب اعتماد نهجاً براغماتياً صريحاً بغاية تركيز الجهد على الخصم الرئيسي وهو النظام. الى المرحلة التي يجد فيها البعض أن التناقض مع النظام أصبح ثانوياً بالقياس لتناقض آخر مع عدو خارجي. إنما يعبر ببساطة عن عجز هذه المعارضة عن تحديد خيار جامع لها، بل عجز أطراف أساسية فيها عن الاستقرار على خيار واحد خلال هذه الفترة الوجيزة المنصرمة. وجل ما يستدعي الخشية في هذه الحالة هو أن تعقيدات المرحلة التي تمر بها المنطقة، وتناقضات وضعف المعارضة، لا يتركان لهذه الأخيرة أكثر من هذا الحيز الهامشي على مسرح الفعل السياسي القادر على ترك أثر ذو معنى  على مصير المنطقة. فالعجز عن تحديد الخيار المناسب في هكذا مراحل مصيرية يحمل معه تساؤلات مشروعة تتعلق بالقدرة على البقاء، ما يستوجب بالضرورة البحث عن بدائل ليس فقط بالنسبة للنظام بل أيضاً للمعارضة.
كلنا شركاء

المعارضة السورية… أزمة خيارات وقلق وجود
عادل عبد الهادي
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسيادة روح الانتصار لقيم الرأسمالية ومفاهيمها، عمد الكثير من القوى السياسية المعارضة، واليسارية خصوصاً، لمحاولة التكيف مع هذه القيم والمفاهيم، فلجأت بناءً لذلك لإدخال هذه المفاهيم في خطابها السياسي بعد أن أهملت أو تحررت من جزء كبير من حمولتها الأيديولوجية السابقة التي حكمت رؤيتها للمجتمع وللمنظور السياسي الذي اعتمدته.
ومن هنا وجدنا مثلاً أن مفاهيم الحريات على تنوعها والديمقراطية وحقوق الانسان تعززت على نحو واضح في الخطاب السياسي اليميني واليساري على حد سواء. ورغم أن هذه المفاهيم الحداثية في ميدان السياسة كانت غريبة أصلاً عن كل من التيارين الاسلامي والماركسي، فقد بدت بعد الانتصار الكبير لأمريكا وبزوغ ما يشبه فجر أمريكي على العالم، أشبه بقاسم مشترك يجمعها في عدائها المشترك للنظام القائم. وهو ما اقتضى تخلي اليسار الماركسي أو تحرره، لهذه الدرجة أو تلك، من ضيق الأفق المميز للرؤية الطبقية للسياسة، أو مما يمكن تسميته العصاب الطبقي في السياسة. كما اقتضى الأمر أيضاً تخفيف التيار الاسلامي من الطابع الديني لمعارضته من خلال الاستعانة بأطر حقوقية وإنسانية عامة وما الى ذلك لدرء شبهة القرابة مع التيارات الإسلامية المتطرفة، أملاً في نيل رضى أو تفهم القوى العالمية النافذة والمتحكمة في المنطقة.
واذا كان تاكتيك الاخوان المسلمين هذا يبدو أقرب للمناورة منه للتعبير عن تغير حقيقي في منظورهم الأيديولوجي وتوجههم السياسي، فقد كان بالنسبة لليسار تعبيراً أكثر صدقاً عن التغير الذي حصل في جهازهم المفاهيمي عن المجتمع والسياسة. ذلك أن التغيير لدى الإسلاميين يعني في بعض جوانبه تطويعاً للمقدس، وفي الحد الأدنى إعادة قراءة وصياغة له. وهو ما يعني ضمناً قدراً كبيراً من الصعوبة، لا نرى مثيلاً لها عند العلمانيين عموماً والماركسيين خصوصاً، الذين كانوا قد كشفوا عن استعداد مبكر للتحرر من قيود الأيديولوجية، وبالتالي المرونة في التوجهات السياسية، منذ أن نظر البعض منهم الى حركة الاخوان المسلمين في أوائل الثمانينات على أنها حركة شعبية، ما عنى في حينها محضها نوعاً من الشرعية، رغم الطابع الإرهابي والتكفيري الذي وسم تلك الحركة آنذاك. ثم تعزز الأمر بعد ذلك بجرأة لافتة في الخروج من قيود الأيديولوجية في الممارسة السياسية من خلال العلاقة المعروفة مع نظام صدام حسين أيضاً.
ومع ذلك فقد كان هذا المناخ التغييري جامعاً بين الاثنين رغم التباين النسبي في فحواه ودلالاته لدى الطرفين. وكان هذا أكثر وضوحاً في الفترة التي عبقت بها رائحة تغيير وشيك كان يبدو جزءاً من عملية إعادة تنظيم أمريكية شاملة للمنطقة أثناء وبعد احتلال العراق. وهو بالضبط  ما دفع لقيام التحالف المعروف حينها بإعلان دمشق.
وبالاضافة لهذين الاتجاهين كان لافتاً مستوى الحضور الكردي في التحالف المذكور، من حيث العدد الذي تجاوز المألوف من علاقة القوى الكردية مع قوى المعارضة السورية، ومن حيث كونه خروجاً من حالة شبه الانعزال التي ميزت عمل القوى الكردية تاريخياً، وهو ما لا يمكن فهمه على حقيقته إلا في إطار الروح التي أشاعتها التجربة العراقية، وما حملته للأكراد تحديداً. ولا يعني هذا بالطبع رهاناً أو تعلقاً بخيار مشابه، وإن لم يكن مستبعداً تماماً، بل أملاً في تغيير يمكن أن تقود له التطورات الجارية في المنطقة، وهو ما كان يوجب عليهم السعي لملاقاته أو المساعدة في إنضاجه.
أما بالنسبة لحزب العمل الشيوعي الذي عانى من محاولات تهميش وإقصاء من قبل أطراف المعارضة الأخرى، وهو ما كان يرى فيه جوراً بالغاً تجاهه نظراً للتضحيات الكبيرة التي قدمها عبر تاريخه، فقد وجد في الصيغة التي خرج بها إعلان دمشق والمتمثلة بكونه إطاراً مفتوحاً لمن يريد من قبل القوى المعارضة، وجد بها منفذاً لتجاوز حالة الاستبعاد التي ووجه بها عبر تاريخه، مراهناً ربما على التباينات داخل القوى الأساسية المكونة للاعلان بما يتيح له توسيع هامش المشاركة الفعلية ضمن إطار قوى الاعلان، وهو ما وجد مصداقية له من خلال التقارب في التوجه السياسي العام إزاء القضايا الوطنية والقومية مع الاتحاد الاشتراكي على نحو بدا متمايزاً الى حد ما عن بقية أطراف التحالف.
وهكذا مضت هذه التوليفة من قوى المعارضة المتعددة المشارب والأحجام والتطلعات، مضت في مركب واحد اقتضته الظروف الدولية والاقليمية، وليس تطورات ومقتضيات فعل الصراع الداخلي بينها وبين النظام، مضت مترقبة التطورات المنتظرة في المنطقة، الى أن بدا لها وللجميع أن العاصفة المتوقعة قد تبددت في غير اتجاه، ولم يعد مفيداً انتظار ما كان متوقعاً منها. وهو ما قاد لتفجر التناقضات داخل إعلان دمشق، لدى انعقاد المجلس الوطني الأخير له. حيث أسفر الأمر عن تجميد عضوية كل من حزب العمل والاتحاد الاشتراكي. ثم أتى التطور الأخير البالغ الدلالة وهو إعلان الاخوان تجميد معارضتهم للنظام بغرض توفير الجهود لمواجهة الهجمة الصهيونية الراهنة.
ومع هذا التطور الأخير بدت المعارضة عموماً على قدر كبير من التضعضع على المستوى التنظيمي، حيث أخذت الأمور تتجه الى مزيد من الانقسام والتفتت بدلاً من اتجاهها نحو التنسيق والوحدة.
وبالطبع ليست المشكلة في المستوى التنظيمي على أية حال، بل إن المشكلة في هذا المستوى هي تعبير عن المشكلة الأساسية في المستوى السياسي، مستوى التوجهات التي يفترض بالمعارضة اعتمادها بما يتناسب وتعقيدات الواقع السياسي في المنطقة بشكل عام. وفي هذا الصدد لابد من الاشارة للملاحظات التالية:
1- لقد أعادت الحرب الأخيرة على غزة، وقبلها الحرب على لبنان، القضية الوطنية الى مركز الصدارة في اهتمام القوى السياسية في المنطقة. حيث تجددت مرة أخرى في الرأي العام مدى الخطورة التي تمثلها اسرائيل على المنطقة والطابع العنصري لهذه الحرب، الأمر الذي يعطي الأولوية لمتطلبات المواجهة المباشرة معها وليس لجهود الإصلاح الداخلية. وهو ما أربك المعارضة التي قامت أساساً على أرضية تركيز النشاط بمواجهة النظام، حيث وجدت نفسها اليوم معنية بالتوجه نحو عدو آخر. وقد وجدت أن هذا النظام يقف في طليعة القوى المناوئة لهذا العدو. وهذا الموقف المفعم بالتناقض والمسبب للارباك هو ما دفع بالاخوان المسلمين للخطوة التي قاموا بها مؤخراً.
2- إذا كانت بعض أطراف الاعلان استدركت موقفها الآن بعد حرب غزة، فقد كان الأمر مختلفاً بدرجة كبيرة في حرب 2006. فالحرب على لبنان لم تكن كافية لقوى الاعلان للوقوف مع المقاومة. بل إن القوى الرئيسية من قوى الاعلان، يسارها ويمينها، مالت صراحةً نحو المعسكر المناوئ للمقاومة ونحت في خطابها السياسي نحو محور الاعتدال العربي فاعتمدت ذات اللغة فيما يخص الموقف من المقاومة باعتبارها جزءاً من محور طهران دمشق، وانزلقت بعض الأصوات المعروفة بانتمائها الصريح لإعلان دمشق، في مناسبات عديدة، الى لغة طائفية صريحة دون أن يبادر الاعلان كإطار له شخصية اعتبارية، للتنصل من هكذا أصوات.
3- في الوقت الذي بدا فيه الانقسام العربي الرسمي عميقاً بين محورين، محور الاعتدال ومحور الممانعة، لجأت رموز أساسية في إعلان دمشق لنهج براغماتي فاقع بالهجوم على النظام السوري من بوابة لزوم انسجامه مع محيطه العربي، والمقصود بذاك المحيط هو محور الاعتدال الذي يقوم أساساً على الانصياع للتوجه الأمريكي في المنطقة. وعلى الرغم من كل ما في تاريخ هذا الحلف وحاضره من رموز دالة على التخلف والرجعية. وقد كان هذا الموقف لافتاً جداً لما فيه من مفارقة تتمثل في اعتبار هذا الائتلاف ، الذي يحاول اعتماد نهج وخطاب سياسيين يقومان على قيم ومفاهيم الحداثة السياسية، باعتبار أنظمة لا علاقة لها البتة بهذه القيم، على أنها حالة يتوجب الانسجام معها وأن سلوكها هو المعيار لما يجب أن يكون.
وإذا كان لمراقب حيادي أن يقارن بين الرهان والنهج الذي اعتمده النظام في التعاطي مع الظروف السياسية التي طرأت، مع رهان ونهج المعارضة، لا بد من أن يرى التباين الكبير بين الطرفين في التعامل مع ما بدا في ذلك الحين كاحتمال وشيك الوقوع، وهو مضي الادارة الأمريكية في خطتها لترتيب المنطقة الى حد اعتبار سورية هي المحطة الثانية بعد العراق، أي العمل لتغيير الوضع في سورية، وإن لم يكن بالطريقة ذاتها التي اتبعت في العراق. ففي الوقت الذي تصرفت فيه المعارضة بالطريقة البراغماتية المعروفة والمراهنة على العامل الخارجي، فقد لجأ النظام على العكس من ذلك لاعتماد خيار المزاوجة ما بين المواجهة والمراوغة. ولم يعمد كما المعارضة للمهادنة، على مستوى الاعلام والخطاب السياسي، مع الهجمة الأمريكية التي تتعرض لها المنطقة. وقد كان من نتيجة ذلك افتقاد المعارضة قدراً من مصداقيتها لما تضمنه نهجها الجديد من تنصل من الكثير من ثوابتها السياسية التي حددت وعيها السياسي فيما مضى. ولتباين هذا الموقف المحابي للسياسة الأمريكية في المنطقة، عن المزاج الشعبي العام المعادي لهذه السياسة وخصوصاً بعد الحرب الاسرائيلية على لبنان في العام 2006 وحربها الآن على غزة.
والآن وبعد انفكاك طوق العزلة عن النظام يمكن القول بأنه قد كسب الرهان في الوقت الذي بدا واضحاً أن المعارضة قد خسرت رهانها. وبدا متقدماً على المعارضة في التقاط طبيعة ما جرى، وفي اعتماد الممارسة السياسية الأنجع .
وإذا كان هذا هو الحال فيما يخص الموقف من التطورات السياسية التي عصفت بالمنطقة أو فرضت عليها من خارجها، فإن معاينة نهج المعارضة على صعيد علاقاتها الداخلية لم يكن مشجعاً هو الآخر على الإطلاق. حيث لم تعكس العلاقات بين أطرافها المستوى المطلوب من ضرورة الانسجام مع قيم الديمقراطية والشفافية واحترام حرية الرأي التي طالما تم رفعها. فشكاوى التهميش والاستبعاد كانت مسموعة منذ أن ولد تحالف إعلان دمشق. ورائحة الاتهامات علت في أكثر من مناسبة وفي أكثر من اتجاه، وفي وقت ما ساد نوع من الخشية من أن يتعرض أحد ما لتجربة المعارضة بالنقد خشية أن تطاله دمغة العمالة الفعلية أو الموضوعية للنظام، حتى وإن كان صاحب النقد قد أضاع نصف عمره بين المنافي والسجون. كما أن الاتهام المعاكس، أي خدمة المشروع الأمريكي كان له حضوره أيضاً. والنتيجة التي يمكن الوصول لها من ذلك هو افتقاد المرونة الداخلية وعدم تمثل قيم ومفاهيم الديمقراطية والحريات التي ندعى رفع رايتها. ومن بين الأمثلة الدالة التي لا بد من الوقوف عندها يمكن أن نذكر ما تم تناقله عن خلفيات وأسباب قيام كل من حزب العمل والاتحاد الاشتراكي بتجميد عضويتهما في إعلان دمشق، وهي تتعلق أساساً بالابتعاد عن روح العمل الديمقراطي النزيه واللجوء لنهج الاستبعاد والطرق الالتفافية لتحقيق ذلك. كما لنا أن نتذكر تفرد حركة الاخوان المسلمين في إطار تحالفي آخر هو جبهة الخلاص مع كل ما أثير حول هذه الجبهة من شبهات وتساؤلات بدءاً من مشروعية التحالف مع أحد الأركان السابقين في النظام وهو عبد الحليم خدام الى شبهة العلاقة مع دوائر خارجية. وقبل هذا وذاك فشل تجربة حزب الشعب الديمقراطي في الخروج من نموذج التنظيمات البطريركية، التي يحتكر فيها الزعيم التاريخي حكمة قرون من النضال تجعله صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تقرير مصير الحزب. وقد أسفر ذلك كما هو معروف عن استقالة الأمين العام الذي انتخب في حينها، لاكتشافه أن العلة ما تزال في مكانها وأن تاريخه وكرامته لا يسمحان له بلعب دور شاهد زور في هكذا مسرحية.
ومن كل ما سبق يمكن القول بأن التباين والتأرجح في التوجهات السياسية بين أطراف المعارضة، ما بين الحالة التي نرى بها تلمساً لمشروعية الاستفادة من العامل الخارجي، بما يوجب اعتماد نهجاً براغماتياً صريحاً بغاية تركيز الجهد على الخصم الرئيسي وهو النظام. الى المرحلة التي يجد فيها البعض أن التناقض مع النظام أصبح ثانوياً بالقياس لتناقض آخر مع عدو خارجي. إنما يعبر ببساطة عن عجز هذه المعارضة عن تحديد خيار جامع لها، بل عجز أطراف أساسية فيها عن الاستقرار على خيار واحد خلال هذه الفترة الوجيزة المنصرمة. وجل ما يستدعي الخشية في هذه الحالة هو أن تعقيدات المرحلة التي تمر بها المنطقة، وتناقضات وضعف المعارضة، لا يتركان لهذه الأخيرة أكثر من هذا الحيز الهامشي على مسرح الفعل السياسي القادر على ترك أثر ذو معنى  على مصير المنطقة. فالعجز عن تحديد الخيار المناسب في هكذا مراحل مصيرية يحمل معه تساؤلات مشروعة تتعلق بالقدرة على البقاء، ما يستوجب بالضرورة البحث عن بدائل ليس فقط بالنسبة للنظام بل أيضاً للمعارضة.
كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى