صفحات العالم

وثائق “ويكيليكس”: سجل يوميّ لحرب غامضة تديرها البربرية

بغداد ـ شاكر الأنباري
الحقائق لا يمكن ضياعها، مهما طال الزمن، فثمة دائماً سجل خفي يصل إليها، ويدونها. والتاريخ المعلن قد لا يكون صحيحاً كله، وهذا ما يستشف من الوثائق الأربعمائة ألف المنشورة على موقع ويكيليكس حول يوميات الأحداث في العراق، منذ بداية الشهر الأول لسنة ألفين وأربعة وحتى الشهر الأخير من ألفين وتسعة، منذ بريمر الحاكم المدني للعراق وحتى ولاية رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي. فترة كانت بربرية بامتياز، دموية بامتياز، استخدمت فيها ثمار الحضارة الحديثة لسحق البشر وقتلهم، مهما كانت صفة ذلك القتل أو مبرراته. للوثائق المنشورة أوجه عديدة، يمكن أن تقرأ بأكثر من طريقة، وحسب زاوية البحث والتمحيص. هناك يوميات التدخل الإيراني في العراق عن طريق مباشر، وهو تسريب عناصر من الحرس الثوري، ورجال المخابرات، إلى الداخل العراقي اما لتصفية أشخاص او للقيام بمهمات صعبة، وعن طريق غير مباشر كتدريب ميليشيات ودعمها بالمال والسلاح والخبرة، وهذه الميليشيات معروفة الأسماء على الساحة العراقية، إضافة إلى العلاقات المتينة بين إيران وبعض الأحزاب السياسية.
وهناك وجه التدخلات السورية، وتسريب الأحزمة الناسفة عبر تعاون حرس الحدود مع القاعدة والحركات المسلحة الأخرى القريبة منها كما تقول الوثائق، وهي اتهامات ما زالت الحكومة السورية تنكرها وتدينها. وهناك يوميات الحركات القتالية للجيوش الأجنبية التي تواجدت على ارض العراق منذ إسقاط النظام، ومساحة هذه الحركات تمتد في المحافظات كافة، ولم تسلم قرية صغيرة من تأثيراتها. وهناك وجه القوات العراقية التي بدأت تبنى وتشارك في الأعمال العسكرية منذ ألفين وأربعة. تقول الوثائق ان هناك حوالي ثلاثمائة شخصية موجودة اليوم في السلطة بدرجة وزير، ووكيل وزير، وعضو برلمان، كانت على علاقة وثيقة بالمخابرات الأميركية، وبعض وسائل الأعلام ذكرت وجود حوالى ستين ألف متعامل مع القوات الأميركية، وقد يشمل هذا الرقم المتعهدين والوسطاء والمترجمين والممولين، وكذلك العملاء الذين يجهزون تلك القوات بالأخبار والمعلومات. في الوثائق جاء ذكر لفرق الموت، والميليشيات، والقاعدة، والحركات المسلحة، موصوفا وموثقا بعيون أميركية مفتوحة كانت تسجل الشاردة والواردة في كل بقعة من بقاع العراق. فالوثائق كما هو معروف هي رصد لحظي لكل ما كان يجري على سطح الأرض، تقدمه كل الوحدات الأميركية العاملة، البرية والجوية، إلى بنك ضخم في البنتاغون، بما في ذلك الشائعات والأحداث المشكوك بصحتها أحيانا. الأحداث التي وثقت عمليا والتي لم توثق انما دونت كإشاعات وأقاويل ومسموعات.
من هنا فالوثائق عبارة عن ركام هائل من المعلومات، بعضه ذو قيمة عسكرية وأمنية وسياسية، وبعضه مجرد عمليات روتينية ضمن الجو العام العراقي. وكأن لعبة التوثيق محاكاة للآية القائلة كل شيء أحصيناه كتابا، وهي ميزة العقل الغربي الذي يعيد صياغة الحياة ثانية. ووثائق ويكيليكيس فجرت أكثر من زوبعة ولأكثر من فريق. من هذه الزوابع كيفية وصول هذا الموقع الاسترالي إلى تلك الوثائق وهي محفوظة في كومبيوترات البنتاغون العملاقة، وهل يخلو الأمر من قصدية في تسربها أو قرصنتها؟ وهل هناك جهات داخل البنتاغون هي التي سهلت عملية القرصنة ام ان الأمر هو براعة هذا الموقع والمختصين والقائمين عليه؟ والوثائق تلك تضم مخلفات حكومتين أميركيتين هما حكومة بوش وحكومة اوباما، أي الجمهوريين والديمقراطيين، فهل يوفر نشر الوثائق ساحة جديدة للصراع فيما بين الحزبين في المستقبل القريب خاصة وثمة انتخابات للكونغرس على الأبواب؟ هذا على الصعيد الأميركي، اما على الصعيد العراقي فالمفاجأة التي وردت في الوثائق ان رئيس الوزراء نوري المالكي كان يقود فرق موت وتعذيب وتصفيات لمناوئين عبر أجهزة أمنية رسمية، يفترض ان تكون محايدة لا تقف مع أي مكون ضد آخر، وهذا كما يقول بعض المحللين ان ثبتت صحة الوثائق سيكشف كثيرا من الجرائم الغامضة، وغير المعقولة، التي حدثت في الأعوام الخمسة الماضية، مثل اختطاف موظفين من وزارة التعليم العالي، وخطف رئيس اللجنة الأولمبية احمد الحجية وتصفيات لضباط كبار داخل الأجهزة الأمنية والاستبعاد المبرمج للسنة من الوظائف المهمة وتشييع التعليم وكتب التاريخ وغربلة مفاصل الدولة وتطييفها، وغير ذلك من قصص أصبحت في ذمة الأدراج المقفلة، ويعيش الفرد جزءا من نتائجها.
وهناك قصة السجون السرية، التي كشفت من قبل الأميركان قبل نشر الوثائق، وهي تدار عبر مكتب القائد العام للقوات المسلحة، والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان التي كانت تمارس فيها، بعيدا عن القضاء، وهو ما انكرته الحكومة بقولها ان تلك السجون لم تكن سرية ولكن ربما تمّت فيها تجاوزات على المعتقلين دون علم الدولة. لكن هل تخلو هذه الوثائق التي تورد اسم رئيس الوزراء من القصدية بعد نشرها الآن في لحظة حرجة من عمر السياسة العراقية، وبعد أن أصبح نوري المالكي مرشحا قويا لتأليف الحكومة الجديدة اثر توافق العدوين اللدودين أميركا وإيران على التمديد لولايته؟ رأي الشارع العراقي منقسم هو الآخر حول هذه النقطة. فرئيس الوزراء اثبت جدارة في ضرب الميليشيات ومنها جيش المهدي القريب من إيران، كما ان ولايته شهدت تحسناً ملحوظاً في استتباب الأمن، والمصالحة الوطنية، ومجريات الوضع الأمني تسير نحو التحسن النسبي لا العكس، وهذه محاججة تناقض ما ورد في الوثائق حول توجهات المالكي الطائفية. ومثلما يسيس كل شيء اليوم في العراق، من ابسط الأمور إلى اعقدها، نتيجة لتراكم المعضلات وطابعها المركب، فكذلك سيس نشر الوثائق على الساحة. التحالفات المؤيدة للمالكي تصر على ان نشر الوثائق بهذا الوقت الغرض منه إسقاط للمالكي وإحراجه هو والمدافعين عنه ومن رشحوه. بينما تصر الجهات الأخرى المعارضة على ان نشر الوثائق ذو طابع ايجابي لانه يكشف الغطاء عن ملابسات ما حصل للعراق في السنوات السابقة. ومراجعات الماضي، ووضع النقاط على الحروف، وكشف المستور وهو ضخم جدا، يجنب البلاد تكرار الأخطاء السابقة، ويضع العملية السياسية امام مرآة تستطيع عبرها تقييم نفسها، واصلاح ما يمكن إصلاحه لكي تنشأ ديمقراطية حقيقية لا بالاسم فقط.
كما طالب بعض النواب الجدد مثل صباح الساعدي بتقديم كل من تثبت عليه تهمة ما إلى العدالة حتى لو كان هذا رئيس الوزراء ذاته، فيما اعتبرت القائمة العراقية ان الوثائق تلك تؤيد توجهاتها، هي وبعض الأطراف الأخرى، كالمجلس الأعلى، في عدم التجديد للمالكي. التيار الصدري رأى في الوثائق كشفاً صريحاً للبربرية الأميركية، وتأكيدا لمصداقيته، أي التيار، في طرح شعار المقاومة ضد الأميركان. وكذلك هيئة علماء المسلمين، والقاعدة، والبعث، والتنظيمات المتطرفة.
جاء في الوثائق ان هناك اكثر من ستين ألف مدني عراقي قتلوا عند حواجز أميركية، وجرائم القتل تلك تم التستر عليها من قبل الجيش الأميركي الأمر الذي يمحق اي مصداقية للسياسة الأميركية في العراق طوال تلك السنوات. وشعار جلب الديمقراطية إلى العراق أصبح مثار سخرية للجميع، وفقد المدافعين عنه. اذ أن الديمقراطية لا تتعمد بقتل ستين الف مدني بريء على حواجز عسكرية. وكذلك جاء في الوثائق تستر الاميركان على عمليات تعذيب وقتل كانت ترتكب في السجون العراقية والمعتقلات وتعرف بها القوات الأميركية الا انها تجاهلتها وأغمضت عينها عن ذلك، وهو ما توج في فضيحة سجن ابي غريب الذي كان الاميركان ذاتهم يمارسون فيه التعذيب للسجناء وبطرق اقل ما يقال عنها انها بربرية بامتياز.
نشر الوثائق، وكما وصفه اكثر من مصدر، كرة ثلج متدحرجة وهي في بداية الحركة، الحركة المتجهة نحو هاوية مظلمة. فعلى سبيل المثال ماذا سيكون مصير المتعاونين مع المخابرات الأميركية من العراقيين الذين، وكما قالت الوثائق، يحتلون مناصب مهمة في الدولة؟ هل يطالهم القانون العراقي ام يتستر عليهم ام يتجاهل وضعهم الملتبس كما في اغلب القضايا المطروحة في الواجهة؟ ومن هي الجهات المخولة بمحاسبتهم، وهل توجه لهم تهمة الخيانة، على رغم اعتراف عدد لا بأس به من القادة الحاليين بتعاملهم مع اجهزة مخابرات دولية ايام المعارضة لنظام صدام حسين؟ هذه الأسئلة وغيرها تدور في الشارع، وبين الدهاليز السياسية، لكنها لحد الآن لم توضع في طريق واضح. لان السؤال المهم هو ماذا سيستفيد العراقيون من نشر الوثائق تلك؟ وماذا تستفيد التجربة الديمقراطية من نشر الغسيل الوسخ لقادتها او للمدافعين عنها سياسياً وفكرياً وثقافياً؟
الا يعرف المواطن البسيط معظم تلك الحقائق منذ زمن قبل ان يتم نشرها في موقع ويكيليكس؟ ثم ما هي الجهة التي يمكن ان تكون معياراً لدراسة وفرز تلك الوثائق؟ هل هو القضاء العراقي، الحركات السياسية، منظمات المجتمع المدني، الرأي العام، ام الدولة، ان كانت هناك مؤسسات حقيقية يمكن اطلاق تلك التسمية عليها؟ هل هي الامم المتحدة، مجلس الامن، محكمة الجنايات الدولية، وهل لتلك الجهات مصلحة، او فائدة، من الاهتمام الصادق والحقيقي والمسؤول بتلك الحقائق او الوثائق؟ ومن له السلطة والمصلحة بتقديم مرتكبي الجرائم ضد الأبرياء من العراقيين؟ هل يمكن محاكمة شركة بلاك ووتر على سبيل المثال، على جرائمها في العراق؟ واذا كان هناك شبكة للحرب الطائفية تمتد من الأحزاب الشيعية الدينية، مروراً بإيران، وامتداداً نحو حزب الله اللبناني الذي كما تقول الوثائق كان بعض عناصره يدرب الميليشيات الشيعية العراقية في إيران، فمن له القدرة على جلب الجميع إلى القضاء؟ وأخيرا من يستطيع جلب رؤوس متنفذة في الجيش الأميركي والإدارة الأميركية ذاتها إلى منصة المحاكمة، وبينهم قادة أركان ورؤساء جمهوريات ومستشارون للأمن القومي وسفراء؟
ولكن ما الجدوى من كل ذلك؟
فالمئة الف ضحية مدنية من العراقيين التي أوردتها الوثائق لن يعودوا مرة ثانية إلى الحياة.
كما ان حزن ذويهم قد سرى في النفوس واستمكن في الأجساد ولا تنفع معه محاكمات او إدانات.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى